يكشف كتاب مذكرات عربجي الذي صدر مؤخرا عن سلسلة ذاكرة الوطن بهيئة قصور الثقافة لكاتبه الأسطي حنفي محمود عن تراث هائل وغير معروف من النصوص الساخرة التي نشرها مؤلف هذا الكتاب وغيره في عشرينيات القرن الماضي في مجلة الكشكول, وفي الوقت نفسه يضع موهبة الكتاب الساخرين الجدد في مأزق كبير, اذ يؤكد أن الوظيفة الاجتماعية للأدب لابد ألا تكون علي حساب القيمة الأدبية للنص ذاته وهو معيار كادت الكتابات المعاصرة أن تغيبه تماما ويثير الكتاب سؤالا أوليا عن هوية صاحبه وقد رجح رئيس تحرير السلسلة الشاعر أسامة عفيفي ومدير تحريرها طارق هاشم أن يكون الممثل سليمان نجيب هو مؤلفه الحقيقي لاعتبارات عدة تتعلق بالخلفية الثقافية لهذا الممثل الذي تولي رئاسة دار الاوبرا الملكية وكان من رواد مقهي ريش مع صفوة من مثقفي عصره, وهي معلومة تؤكدها نسخة محفوظة بمكتبة جامعة الاسكندرية مكتوب عليها بخط اليد ان الكتاب من تأليف سليمان نجيب وترجع لعام1921 ميلادية و1341 هجرية وكما يؤكد عفيفي في مقدمته ان محتوي الكتاب يربط بين الماضي والحاضر بشكل مذهل, فلقد صدرت هذه المذكرات مسلسله في مجله الكشكول بعد ثوره1919 وبالتحديد عام1922, لترصد بسخرية لاذعة, ووعي ناضج, متغيرات مجتمع ما بعد الثوره, وتعري بخفه دم, مواقف المتلونين واللاعبين علي الحبال, والمتسلقين والمنافقين والانتهازيين, الذين ظهروا في اعقاب ثورة1919 لينقضوا عليها, وذلك بادعائهم الثوريه. وكما يشير عفيفي جاءت مذكرات عربجي لتفضح هؤلاء جميعا, ولتجلدهم علانية بكرباج العربجي الساخر, مستهدفة تطهير المجتمع منهم, والدفاع عن روح الثورة المصريه ومكاسبها. ولم يتناول المؤلف بحسب عفيفي عصره فقط, فما كتبه يصلح لكل المجتمعات في لحظات التحول الكبري, ومجتمعات ما بعد الثورة تحديدا, فالرجعيون يتلونون ويثيرون الفتن ويلعبون علي الحبال, ويعلو صوت الفاسدين بشعارتها. وفي المقدمة التي كتبها فكري باشا أباظة للكتاب الاصلي ردا علي خطاب العربجي له نجد تلخيصا ماهرا لمحتواه بقوله لقد لدعت بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات المتحذلقين والمتحذلقات, وقديما كان الكرباج اداه التهذيب والتأديب ولكن كرباج العهد الغابر كان بسيل الدم ولا يجرح النفس, اما كرباجك انت فلا يسيل الدماء ولكن يجرح النفوس, ونحن انما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان فشكرا لك يا طبيب النفوس. وبعيدا عن هدفه الاجتماعي يمكن قراءة الكتاب كنص متعدد الطبقات, يكشف عن صيغة اسلوبية فريدة تقوم علي الاقتصاد اللغوي وتلجأ الي لغة عارية, مقتصدة في بلاغتها وهي ذات اللغة التي كرسها يحيي حقي فيما بعد عبر نصوصه التي حافظ فيها علي المحتوي الساخر والعامية اللينة التي توزان بين السرد المكتوب والحكي الشفاهي وهي ميزة تحققت بقوة في مذكرات عربجي المكتوبة بروح تشابه الي حد كبير تقنيات سرد الايهام المعروفة في مسرح بريخت حيث يخرج الكاتب من النص لمخاطبة الجمهور ليصبح السرد لعبة فنية تقوم علي تواطؤ مشترك بين الكاتب والقاريء, وساعد علي تحقيق هذا الهدف قالب اليوميات أو المذكرات16 التي كتبها المؤلف مستعرضا فيها ما مر به من تجارب مع زبائنه وهي تقنية تحيل مباشرة الي كتاب تاكسي الذي نشره الكاتب خالدالخمييسي قبل أعوام وحقق نجاحا كبيرا, مع فارق لافت بين الكتابين اذ اعتمد الخميسي علي خبراته كراكب تاكسي مع سائقين كثر, بينما اعتمد الأسطي حنفي علي خبرته كسائق مع الزبائن. وعلي صعيد المحتوي التاريخي تكشف مذكرات عربجي عن رؤي النخبة الثقافية المصرية بشأن مفهوم الاستقلال الوطني الذي كانت قضية السودان في القلب منه ومن ناحية أخري يكشف الكتاب كذلك عن المشكلات الاجتماعية التي واجهتها مصر خلال الفترة التي أعقبت ثورة1919 ومنها ادمان الكوكايين والمشكلات الناجمة عن الاختلاط بين الجنسين والخوف من حوادث السيارات التي بدأت الانتشار في شوارع القاهرة ولكن من دون روح وعظية أو أخلاقية وهو أمر يقارب بين هذا النص ومحتوي أغنيات سيد درويش التي جري ابداعها في تلك الفترة الخصبة من تاريخنا. ويشير الكتاب بوضوح الي التدهور العمراني والحضري الذي تعيشه القاهرة الان وبعدما يقرب من90 عاما علي كتابة هذا النص الكاشف عن قاهرة كوزموبولتيانة فائقة الجمال, تفيض بساحات السهر وتحتفي بالتنوع الثقافي وتفيض بالتسامح.