يحتل الأدب العلمي مكانة هامشية جدا ضمن قائمة العلوم والفنون في ثقافتنا العربية، وفي المقابل يحتل هذا النوع من الأدب مكانة مرموقة فى الغرب، ويهتم كثير من الكتاب والعلماء بكتابة العلوم بشكل مبسط لقاعدة عريضة من الجمهور. وبالرجوع إلى التاريخ، لتأصيل ذلك الفرع الأدبي، نلاحظ أن "جاليليو" هو أول من كتب العلم لغير المتخصصين؛ حيث ألف كتابه "حوار بين النظامين الرئيسيين في الكون" عام 1632 باللغة الإيطالية، أراد الرجل أن يصل بالعلم للناس فدفع الثمن، فقد وجهت الكنيسة له بسبب هذا الكتاب تهمة التأكيد على نظرية "كوبرنيكس" في مسألة دوران الأرض حول الشمس! ونلاحظ في الأدبيات الغربية المعاصرة وجود عشرات أسماء العلماء والمفكرين الذين أخذوا على عاتقهم نشر المعرفة، وتوصيل العلم إلى قطاعات أوسع من الجماهير، فثمة أسماء غريبة شهيرة في هذا المضمار، منها: ريتشارد دوكنز والذي حصل على الدكتوراه فى "صناع القرار عند الحيوان"، وقام بتبسيط الكثير من المفاهيم والأفكار التطبيقية البحتة للناس. كما ألف كتاب "فصول من الكتابة العلمية" وترجم إلى العربية مؤخرًا. وهناك كارل ساجان ومن بحوثه "رومانسية العلم" و" العلم والخرافة". وبريان سايكس "لعنة آدم" وجميس واطسون "اللولب"، وغيرهم من المؤلفين والعلماء. ونظرًا لافتقار المكتبة العربية لهذه الكتابات، فإن كتاب "أنا وماما والكيميا" للقاصة سامية أبو زيد والصادر مؤخرًا عن دار "اكتب"، على بساطته، مهم كخطوة لسد الفجوة العلمية، وكمحاولة لنشر الأفكار العلمية في المجتمع المصري والعربي، وأظن أن المؤلفة سعت لذلك ونجحت في تحقيق هدفها. يتكون الكتاب من خمسة عشر موضوعًا، تناولت فيها المؤلفة علاقتها بالكيمياء، واستخداماتنا اليومية والمباشرة لها دون دراية منا بذلك، كما توضح الكاتبة جوهر الظواهر الحياتية المرتبطة بالتفاعلات الكيميائية. ويأتي تقديم المعرفة العلمية في سياق حكائي في بعض المواضع، وسياق المقال القصير في مواضعات أخرى؛ حيث تستفيد سامية أبوزيد من تقنيات القص والحكى، متخذة من علاقة فتاة تعشق الكيمياء "سامية" ذاتها بأمها "المحامية" التي تعرف ميول ابنتها، فتساعدها على الاسترسال والشرح والتعريف. وتتكئ القاصة في كتابها على لغة بسيطة، مستفيدة من الشعر تارة ومن تقنيات الحكى تارة أخرى، فتستدعي مثلا المتنبي، عندما تحدث عن حاسة التذوق في قوله: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا. وتنعطف لغتها إلى السخرية وتوظيف كثير من التعبيرات الشعبية مثل "كله عند العرب صابون"، كما تعرج على الوعي الشعبي ذاته لتؤكد مرة ما يتوافق منه مع التفسير العلمي، ومرة أخرى مع ما يخالف ذلك. ففي سياق الحديث عن الألوان، توضح أبو زيد العلاقة بين الإنسان والألوان، مفصلة الصفات السيكولوجية والاجتماعية للإنسان وما يقابلها من صفات فيزيقية عن اللون، كذلك علاقات الأزواج وعلاقات المعادن ببعضها البعض.. إلى آخرها من ظواهر إنسانية واجتماعية وما يقابلها من ظواهر علمية وكيميائية. ومن الحكايات المؤثرة التي أوردتها المؤلفة، قصة الطالب المجري "يانوس إيريني" الذى طور أعواد الثقاب مستخدما ثاني أكسيد الرصاص بدلا من كلورات البوتاسيوم لصناعة المادة التي يتكون منها رأس العود، ثم قام بإسالة الفسفور الأصفر بماء دافئ ليصبح شكل حبيبات مخلوطة بالصبغ العربي، وغمس المواد في السائل ثم تركها لتجف، وفي اليوم التالي وجد أن الأعواد اشتعلت بشكل آمن وبدون أية في مخاطر؛ حيث كان الثقاب من قبل غير آمن، وكان يشتعل بغير انتظام ويتطاير الشرر منه، ورائحته كريهة جدًا، فضلا عن الكثير من المشاكل الصحية التي يسببها الفسفور الأصفر، والتي تصل إلى وفاة الإنسان. ورغم أهمية هذا الاختراع، فقد قام يانوس ببيعه لرجل صناعة مجري يعيش في فيينا، "بستين فورينت فقط" وعاش ومات فقيرًا ومنبوذا، في حين جنى التاجر أرباحًا طائلة وأثرى ثراءً فاحشًا. أشرنا إلى بساطة اللغة والأسلوب، كذلك بساطة الكتاب على الرغم من عمقه، ونراه خطوة مهمة في مشروع نتمنى اكتماله، حتى يصبح الأدب العلمي للجميع، ويغدو التفكير العلمي سمة أساسية لحياتنا اليومية.