قرأت سيرة نيلسون مانديلا عدة مرات.. ووجدت تشابها كبيرا بين قصتي وقصته.. جمعنا طول المدة في السجون.. قضي كل منا قرابة ربع قرن في السجون.. قرأت قصة اكتشاف إدارة السجن لمخابئ مانديلا ورفاقه حينما أراد السجن بناء شبكة للصرف الصحي.. وبعدها بسنوات تكرر معنا هذا الأمر ولكننا أدركنا كتاباتنا قبل اكتشافها. قرأت عن تسامحه ورحمته وعفوه.. تمنيت أن يدخل الإسلام.. فكل أخلاق الإسلام وصفاته موجودة لديه.. علمت أنه قرأ سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السجن وتأثر بها.. فأرسل رسالة عقب ثورة 25 يناير بعام يحذر المصريين من الاستقطاب الحاد وثقافة الانتقام قائلا ً لهم: "أذكركم بقول نبيكم العظيم اذهبوا فأنتم الطلقاء". أدركت أن تسامحه وعفوه عمن ظلمه كانا نتيجة تأمل كبير في الدين والحياة والإنسان.. جعله يهضم ذاته ولا يدور حول نفسه. حينما دخل مانديلا السجن في شبابه كان يؤمن بأن النظام العنصري الأبيض لا يجدي معه سوى العنف لمواجهة عنفه.. وكان يرى أن جنوب أفريقيا هي وطن السود فقط، لأنهم أصحاب الأرض، لكنه أدرك بعد سنوات خطأ هذه الأفكار وأن العنف يضر قضيتهم العادلة. كما أدرك أن دعوات الانتقام لا تبني الأوطان ولكنها تهدمها.. ورغبات الثأر تحرق الأوطان. وعندما أصبح رئيسا للدولة طبق كل هذه المبادئ.. أشاع التسامح وأقام المصالحة بين جميع الأطياف الوطنية في جنوب أفريقيا.. فأصلح بين البيض والسود.. وأنساهم مرارات المظالم السابقة. لقد نظر مانديلا إلى وطنه فرأى أنها تتكون من أربع جنسيات مختلفة وهم السود والبيض والهنود والملونون.. مع وجود عدة أديان مختلفة، فاستطاع مانديلا بعبقريته وتسامحه ورحمته أن يصهر هذه الأجناس في بوتقة الوطن الأم.. وأشركها جميعا في قيادة سفينة الوطن.. فلم يضطهد البيض لأنهم ظلموا السود من قبل.. ولم يستأثر بالسلطة دونهم رغم قدرته علي ذلك.. ولم يحاول أن يقصي أحدا من ألوان الطيف السياسي.. فاستفاد منهم جميعا.. وأدرك أن كل فيصل سيقصي سيكون خنجرا في ظهر الوطن. أدرك أن الوطن ملك جميع الأطياف التي تعيش فيه.. وأن كل من يعيش علي تراب الوطن له حق فيه يوازي واجب الوطن عليه. أراد أن يكون أبا للجميع.. وكأنه قرأ صفة النبي (ص) "فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء".. وأراد أن يعطي رسالة رائعة للعالم كله.. فرفض أن يرشح نفسه مرة أخري رغم علمه أنه لو رشح نفسه مدي الحياة لاختاره شعبه حبا وكرامة. لقد بعث لشعبه رسالة مفادها: "لقد تحملت المسئولية لأصلح بينكم فقط وقبلت الرئاسة لأشيع الحب والود والتسامح بينكم.. أنا لا أريد دنياكم فقد زهدت فيها.. ولا عرش السلطة ولكن أريد أن أكون علي عرش القلوب.. فقلوبكم أعظم عندي من كل مناصب الدنيا". لقد أصبح مانديلا أيقونة رائعة ليس لجنوب أفريقيا فحسب ولكن للعالم كله.. لقد تحول من مجرد رئيس إلي مصلح عالمي يسعي لخير الشعوب الفقيرة والمطحونة والمضطهدة في كل مكان. كلما تذكرت مانديلا حزنت علي مصر التي تفتقر إلي أمثاله.. ويغيب عنها هذا النموذج العظيم.. فما زالت الدماء والدموع والصراعات تضرب مصر في مقتل.