يدرك جيدًا مدى الاحتقان الذى خلّفه مهرجان البراءة للجميع الذى خيب أمل الكل في القضاء المصرى المشهود له بالنزاهة لعقود، فيضع السم في العسل، يغازل أحلام البسطاء بفتح قضايا شهدائهم من جديد ليضمن دعمهم ما خفى، وما خفى كان أعظم.. سلطات مطلقة لم يتجرأ أىٌ من رؤساء مصر السابقين على المجاهرة بها أو طلبها من شعب مازالت دماء أبنائه لم تجف على الطرقات وفى ميادين الحرية.. تحصين مفضوح لجماعة الإخوان والسلف فى الشورى والتأسيسية وما يرى الرئيس أنه لصالح البلاد، دون مراجعة من قضاء أو قانون أو أى جهة سيادية أو استشارية كانت، فالقرار مطلق الحرية والتنفيذ واجب إذا كان الرئيس صاحبه طالما هو الآمر الناهي من الآن وحتى إشعار آخر.. العسل رائع لكن السم لن يبقى، حيث لن تكون هناك سلطات لأى جهة أخرى فى الوقت الذي تنزوى فيه السلطات التشريعية والتنفيذية وتتقلص لتتناسب وقبضة الحاكم بأمره الجديد تكون السلطة القضائية الفعلية والتشريعية والتنفيذية مجموعة أصفار على اليسار مقارنة بقرار السيد رئيس الجمهورية المطلق غير القابل للطعن من أى جهة كانت سيادية أو رقابية.. والأخطر من ذلك الجوقة التي تحمى تلك القرارات وتمهد لها قبل أن تعرفها، والذين يصطفون بالآلاف استباقًا لمواجهة أى معارضة لها بكل الطرق الممكنة، ذلكم هو حكم الجماعة في ثوب الفرد، الواحد للكل والكل للواحد ولكن على حساب مَنْ ؟ وهل نحن فريقان ؟ الإخوان والسلفيون والجماعة الإسلامية وغيرها من المسميات المتأسلمة هل تنصب نفسها رقيبًا على المجتمع بمختلف طوائفه وفصائله.. ولماذا ومن يمنحهم هذا الحق.. وهل سيكون هناك مواطنون فى مصر من الدرجة الأولى وآخرون من الدرجة الثانية والثالثة أحيانا؟ العديد من المخاوف تتنازع على أدمغة المصريين في سباق مع قرارات الرئيس الأخيرة، ولاسيما في ظل وجود التفاف على كل نص دستورى وكل قرار سيادى بكلمات مبهمة ومتميعة تحتمل عشرات التفسيرات والتأويلات والإضافات من كل حدب وصوب.. المرحلة التى تشهدها مصر الآن شديدة الحساسية ويتبلور فيها مستقبل الأجيال القادمة، وخاب من ظن أن ملايين المصريين سوف يقبلون بسرقة مستقبل هؤلاء بعد أن سرقت أحلامهم في ثلاثة عقود مضت وربما أكثر، فالبعض واسالوا الإسلاميين أنفسهم الذين عانوا من كبت الحريات لستة عقود ولم يتعلموا الدرس، حتى أن البعض يرى أنهم يريدون أن يردوا الصاع صاعين للمجتمع ككل وليس للنظام فقط بعد أن تربعوا على عرشه.. محمد محمود ليس إلا "شرارة"، كما كان خالد سعيد -رحمة الله عليه- تُخرج الكثير من الجراح، وكل من فاض به الكيل سينتفض؛ لأن شعب مصر قد خرج من القمقم ولن يعود إليه مهما كان السجان الجديد، الحرية ثمنها غال ومن يذق طعمها لا يمكن أن يرضى بالأغلال مرة أخرى حتى ولو دفع حياته ثمنًا لحريته لأنه يشترى بها حياة جيل كامل سيذكره إلى الأبد ويخلد ذكراه؛ لأنه من وهبه الحرية والديمقراطية والعيش الكريم.. تمامًا كما سيسجل التاريخ تخاذل العديد من الحركات والائتلافات في مواجهة هذه التحديات التي يفرضها التيار الإسلامي السياسي على مصر، بل مداهنتها وتحالفاتها معه في أحيانٍ كثيرة لاقتسام الغنائم وإن كانت الجماعات المتأسلمة لن تعطى أيا منهم ما يشتهون، حيث لم يجنوا من سعيهم وراء مصالحهم الخاصة سوى العار وخيبة الأمل.. إعلان مرسي الدستوري الجديد يسدل الستار على فصل مشوه من أداء القضاء الذى للأسف لا نستطيع التعاطف معه بعد تنكره شهداء الحرية ووقوفه فى صف الجهات الأمنية والسيادية رغم الدلائل التى شهدها شعب مصر بأكمله والعالم أجمع عبر القنوات ووسائل الاتصال وعلى الهواء مباشرة دون أدنى شك أو مواربة للحقائق، فإن تفريغ المرحلة المقبلة من دور القضاء والاحتكام إليه يفتح الباب على مصراعيه لجملة مخاوف من استبداد لا رادع له لفرد تُدعِّمه جماعة لا تقل استبدادًا عنه، وكأن الأمر لن يقف عند سنوات الرئيس المقررة فى الفترة الرئاسية المحدودة بمشروعية الانتخابات، إنه يُشرِّع ويُقنِّن ويضع دساتير لأجيال وليس لفترة رئاسية واحدة، أم سيكون لكل رئيس الحرية المطلقة فيما بعد لإصدار القرارات والتشريعات التى تؤازر توجهاته وجماعته فى البلاد داخليًا وخارجيًا.. شكرًا سيادة الرئيس على قرار إعادة المحاكمات، ولكن لا تحلم بأن يكون فى مصر فرعونٌ جديد؛ لأننا شبعنا من الفراعين ولا نرضى إلا بأن يكون حكمنا بأيدينا، فقد انتهى عصر تأليه الحُكّام..