بمناسبة السنة الهجرية الجديدة، سأخوض في هذه المقالة في مواضيع تتعلق بكنه ومستقبل بعض الأوطان العربية التي تغير بعض أعمدة حكامها دون أن تظهر إلى الوجود بوادر مجال سياسي واقتصادي عام يبشر بسنوات الخير على الشعوب والبلدان: - الكثير من الأقلام بدأت تقول إن "الربيع العربي" تحول إلى خريف أصولي منذر بسنوات عجاف تعج بالفوضى والمجهول وصولًا إلى سلطوية أشد فتكاً من سابقاتها.... أقول وأكرر هنا أن الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين خطر على الدين والدولة والمجتمع. الإسلام بخير والمسلمون بخير والذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. الأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. والزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يرونها هم أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة -داخل المجال السياسي- وهذه مصيبة أزفة ليس لها من دون الله كاشفة. - قد يقول قائل إن أي حزب في الحكم يحتاج إلى إيديولوجيا لأن أجهزة القمع المادي لا تكفي لتسعف نظاماً منتخباً بالبقاء والاستقرار والتحكم في إدارة السيطرة السياسية، كما جاء عند جرامشي عند تفسيره لمفهوم الهيمنة ولكن أجهزة الدولة الإيديولوجية حسب تعبير ألتوسير -عندما تنهض بدور الهيمنة، فإنها تنبثق انطلاقاً من مسلمات ديمقراطية حيث حكم الشعب بالشعب داخل المجال السياسي العام، وإذا اتسمت تلك الإيديولوجيا بالإقصائية كما كانت عند هتلر مثلاً أو طبعت بلون ديني صرف فإن فعل الإيديولوجيا هنا لن يكون فعل هيمنة ديمقراطية وإنما سيكون فعل عنف قد لا يلمس ولكنه يلحظ في علاقة المؤسسات بعضها ببعض والأفراد بعضهم ببعض وسيحدث في المجتمع شرخ لا يرأب وانفصال بين في جدار اللحمة الحامية للبلاد وستبقى الشرعية الدستورية ولو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع ملتبسة الشخصية والطبيعة بسبب تكوينها الهجين وصورية القيم السياسية المثلى التي بدونها لا يمكن تحقيق مصالح المواطنين (أتحدث عن التعددية، استقلال القضاء، حرية الرأي سلطة القانون... إلخ). - التحول السياسي مسلسل طويل... فلا توجد وصفة سحرية يستيقظ الناس صباحاً ليجدوا الديمقراطية قد وضعت أركانها، فالديمقراطية قوانين سامية وقوانين عادية وأحزاب سياسية ومجتمع مدني وعقليات ديمقراطية... فذهاب الأنظمة السابقة ليس الترمومتر الوحيد الدقيق لقياس درجة تطبيق وتجذير الديمقراطية... فالفكر والوعي السياسي الديمقراطي والثقة بين الحاكم والمحكوم، والحاكم وكل المؤسسات أدق المقاييس وأجلها إلى كشف المستور الذي عادة ما يتأخر كشفه وهو بمثابة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حياً... من النافل القول إن الجواب الطبيعي والبديهي عن هذه الإشكالية هو أن المعلن لا يكفي، وأنه ليس أداة للقياس لأحزاب تستعمل إيديولوجيتها الدينية في مجال التنظيم والمواجهة داخل المجال السياسي العام... وحده الزمان سيحكم على مثل هذه التجارب وهنا سيماط عنها اللثام بأكثر مما تفعل ظواهر المعارضة... ولكن مع ذلك هناك يقين علمته تجارب بعض الأوطان والديمقراطيات العتيقة أن استعمال الدين في السياسة والسياسة في الدين خطر على الدين نفسه وقد يؤدي ذلك إلى الخراب السياسي كما هو شأن "طالبان" في أفغانستان وإحداث فراغ مخيف في المجتمع. - ماهو الحل؟ الأحزاب الإسلامية وصلت إلى الحكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة لم يشكك فيها أحد سواء في المغرب بل وحتى في مصر وتونس... ومن حقها أن تمارس الحكم وأن ندعو لها بالنجاح والتوفيق ولكن نتمنى أن تبقى أحزاباً ذات طابع محافظ كما هو شأن بعض الأحزاب في بريطانيا وألمانيا دون أن تزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين، وأظن أن التجربة المغربية تسير في هذا الاتجاه الصائب... ثم إن الأوطان التي نتحدث عنها هي أوطان لنا جميعاً وكل واحد منا يتحمل جزءاً من المسؤولية في بنائها. ولكن ماذا سيقع بعد خمس عشرة سنة؟ يجب البدء في بناء مجال سياسي عام جديد بعقليات جديدة ونخب جديدة وذلك بالاستثمار في الشباب والأحزاب. هذا هو المخرج. يتعين على الشباب أن يلجوا الحياة السياسية ويطرقوا أبوابها ويعملوا داخل قواعدها وهياكلها منتعشين بروح المواطنة ليتمرسوا داخل مدارس حزبية تمكنهم موازاة مع تخرجهم في الجامعات من تقلد المناصب السياسية والمؤسساتية ولتضخ روح جديدة تقضي على استنزاف القيم السياسية ولتتجدد أخيراً وتحدث أسساً شرعية سياسية صحيحة. ******************************************* * (نقلا عن الاتحاد - الامارات)