يكتب: الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا هرت رواية "ثرثرة فوق النيل" للأديب العالمي "نجيب محفوظ" عام 1966 في عز مجد "عبد الناصر" وفي وقت كان فيه الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء.. فجاءت "ثرثرة فوق النيل" لتنبه إلى كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها على السطح, وكان لابد أن يكون لها نتائجها الخطيرة, وكنت أعني بذلك محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء, وهي المحنة التي بدأ الناس يعانون منها, بخاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع, وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة, فلا أحد يمنحهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة, وإنهم قادرين على رؤية الطرق الصحيحة, وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم, ولاذوا بالفرار. (1) عبر " ثرثرة فوق النيل " جاء ليلغي العالم ويحبس الحياة في " العوامة " مكان اللقيا - هذا المكان السابح في النيل.. جماعة مثقفة تقاطع الحياة ودنيا السياسة والناس, تعيش حياتها طولا وعرضا كما تريد هي لا غيرها.. حياة عبث.. حياة لذات.. رأي المثقف لا يُعبأ به في نظرهم لذلك تركوا كل شيء ليقرره الطغاة بينما هم يعيشون في واد آخر يروق لهم. "نرى أن السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئا، وربما جرّ وراءه الكدر وضغط الدم" نظرة هزيلة وعدمية للحياة.. الهم الإنساني كان في الخانة المحرمة.. نظرة خائفة من كل شيء أدت بهم إلى ألا يبالوا بأي شيء. "لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن، فقد أدى بنا إلى ألاّ نخاف شيئا" وهم في هذه الحالة.. ليس ثمة شخصية حاولت انتشالهم من عزلتهم سوى شخصية واحدة كانت تملك وجهة نظر مختلفة فبادرت بالتغيير لكن الطوفان جرفها قبل أن تحقق حلمها.. ولما أرادوا أن يخرجوا ليتعرفوا على العالم الآخر المحيط بهم - ونادرا ما يفعلون - كانت الحادثة التي صدمتهم جميعا وأقلقت الضمير الغافي.. خمسة رجال وأربعة نساء في حالة من غياب العقل جراء مخدر الحشيش يتراقصون على سيارة مكشوفة فتضرب السيارة فلاحة لم تكمل العشرين من عمرها, فيتركوها مستلقاه على الأرض بعد أن ماتت ويفرون هرباً.. ومع ذلك فقد كان التعامل مع تلك الحادثة تعاملا غريبا يفسر لك الضياع والتشتت الذي كانوا يعيشونه.. وبالطبع كانت نتيجة ذلك انمحاء ونهاية وإفاقة من الحلم المعاش.. النهاية الضائعة.. والقلقة تفسر للقارىء حال الإنسان العربي المهدور والسارح في دنيا الضيم والطغاة من يقرأ الرواية في معزل عن ظروفها سيجدها عادية نوعا ما لكن حين يعرف الوقت الحرج الذي كُتبت به.. سيدرك أنها كانت شُجاعة وجريئة في مواجهة الطغاة حينها, فقد كانت في صميم عهد "عبدالناصر" مما جلبت الرواية الصداع لنجيب من خلال استنفار رجال السلطة الذين حاولوا أن يوقعوا به.. لكن.. فجأة جاءت النكسة التي نوه عنها الأديب العالمي وبدت قريبة في صلب الرواية. (2) - ازاى دا.. سنية مع على وليلى مع خالد وسناء مع رجب .. و يعملوا الى على كفيهم ومحدش يكلمهم .. طب ليه ؟؟ عشان الستات بنات عائلات, والرجالة مناصبهم حساسة ومافيس داعى للشوشرة.. انما اذا واحده من اياهم مشيت فى الشارع باليل بوليس الاداب يمسكها.. هو الى بتعمله دى مش زى الى بيعمله دول, ولا هو القانون مبيطبقش الا على الناس الغلابة؟ اظهار كده.. اظاهر القانون اتجنن.. الحشيش ممنوع والخمره مش ممنوعه.. طب ليه ؟؟ دا بيسطل المخ ودى بتلطش المخ .. دا حرام ودى حرام .. دا بيضر بالصحة و دى بتضر بالصحة .. الحشيش غالى والخمره اغلى منه .. اشمعنى القانون متحيز للخمره؟؟ القانون بيفوت للخمره عشان بيتدفع عليها ضرايب. - اللي يردموه.. يرجعوا تاني يفحتوه.. واللي يسفلتوه.. يرجعوا تاني يهدوه.. مرة عشان الكهربا.. ومرة مواسير المية.. ومرة سلك التليفون.. ومرة المجاري.. ياما جاري في الدنيا ياما جاري.. طب ما كانوا فحتوا مرة واحدة.. مش بيقولوا فيه لجنة تخطيط.. يمكن الواحد غلطان.. ولجنة التخطيط هي اللي صح. بس أدام بيجتمعوا كتير ويخططوا كتير .. يبقى لازم يفحتوا كتير - أكيد الغارات دي وهمية.. الحكومة عايزة النور يطفي باسم المعركة.. في الضلمة الناس بتتبسط وفي الضلمة الحكومة بتاخد مرادها من الشعب. (3) الوضع الزمني الأن في مصر هو نفس الوضع الزمني عندما شرع "نجيب محفوظ" في كتابة الرواية التي كانت بمثابة ناقوس خطر.. والخطر وقع بعدها ببضع أشهر لم تتجاوز السبعة وكانت هزيمة 5 يونيو 1967 على الأبواب والتي سموها نكسة.. تلك الهزيمة التي جاءت عبر تراكمات منذ 1954 .. إثنى عشر عاماً كانت كافية لهزيمة طموحات المصريين والأحلام التي عاشوها بعد 23 يوليو 1952 .. فبعد 1954 وإرتكان عبد الناصر على عقول ضباطه في الحركة المباركة وعدم الإنصات منذ تاريخه إلى مثقفي الأمة وساستها حتى من الذين أيدوه وبايعوه وكانوا خلفه وتغنوا باسمه, والتنكيل والحبس والسحل لكل من فكروا للحظة في معارضته.. وإضطر الغالبية للإنعزال عن الواقع خوفاً من البطش تارة ويأساً من الإنصات تارة أخرى.. حتى أصبح نظام البكباشي لا ينصت سوى للأفاقين والمنافقين الذين طمعوا فيه وفازوا وحدهم بأطماعهم وهُزمت مصر كلها. بعد الثلاثين من يونيو 2013 أصبح التعامل مع المجلس العسكري/اللواءات الأحرار كما كان الحال بعد 23 يوليو.. حيث فضلاً عن أن المجلس العسكري حتى هذه اللحظة هو من يدير شؤون البلاد في ظل حكومات متعاقبة من الموظفين التنفيذيين عديمي الفكر والإبداع؛ هناك وعلى مدار عامين كاملين يتربع على عرش المشهد السياسي والإعلامي والثقافي في مصر ثلاثة أنواع من البشر: نخبة سياسية نظامية - إعلام أمني - مثقفون مدعوا الوطنية.. هؤلاء جميعهم يؤمنون بأن الوطن هو النظام.. الوطن هو الدولة.. ومن ثم تواجدهم عبر الشاشات والصحف القومية يصب في شلال ترسيخ النظام لجذوره مهما كان يرتكب من خطايا.. النظام يريد وهم يهيؤون له ما يريده مع شعب عنده القابلية لصنع نصف الإله, الحفاظ على النظام هو الحفاظ على الدولة والدوله كما يدعون هي الوطن.. حتى ترسخ عند الناس مفهوم "النظام هو الوطن" والمعارضة للنظام تعني المعارضة للوطن.. المطالبة بتغيير النظام خيانة للوطن. المثقفون الحقيقيون أصبحوا في عزلة.. عوامة كتلك التي كانوا يثرثرون فيها .. العوامة أصبحت مقاهي في وسط العاصمة, يجتمعون حول طاولتها ليتحدثوا في الماضي البعيد أو المستقبل الأبعد لأحفادهم.. لا يبالون بالحاضر.. أو بمعنى أدق الحاضر لا يريدهم.. الحاضر مسخ ويكتفي بأمثاله, وإذا استمر الحال على هذا الوضع لعام أو عامين على الأكثر سوف تتكرر الهزيمة التي سيسميها النظام نكسة, لكنها لن تكون هزيمة عسكرية.. بل هزيمة إقتصادية وإجتماعية وسياسية كاملة, ستذهب بنا إلى الهاوية وسيصبح الوطن مجرد ترسيم لحدود دولة عليها مباني ودبابات ومدافع ورجل يرتدي سترة عسكرية يطوف العاصمة فوق مدفع بعجلات تجره سيارة جيب مكشوفه.. إن المسافة بين مصر وكوريا الشمالية أصبحت مجرد خطوتين أو ثلاث على الأكثر.. مصر ستصبح دولة عسكرية من النوع الكلاسيكي القديم الذي نقرأ عنه في التاريخ البعيد والذي سيصبح مستقبل قريب! أيها المثقفون والسياسيون والنخبة الواعية: يجب أن تعودوا للتفكير في الحاضر؛ خاصة بعدما شاهدتم النوعية التي سوف تنوب عن الشعب في مجلس النوب.. ذلك البرلمان الذي يحتم علينا الأن قبل الغد بأن نستوعب ونعترف أن الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا. المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية