( يوم بيمُر كأنه ساعة ، ويوم هايمُر كأنه سنة ... وكلها أيام ) كلمات الوداع الأخيرة من رائعة (حبيبى دائماً) للفنان القدير الراحل " نور الشريف" والتى رددها بكل الصدق ، فلم تبرح قط ذاكرة محبيه ، لكنه الموت وما يملكه من سلطان يجعلنا لا نتجرأ سوى على قبول الأمر الواقع والإتكاء على رصيد مَن اُطلِقت صَافِرته فتوَجب نزوله من قطار الحياه. ها هو قد رحل " حبيبى دائماً ".. ذلك " الثعلب " المتأهب فى ساحة عشق الوطن .. "أخر الرجال المحترمين"، وهكذا كان بالفعل.. أخر جيل العمالقة وبقايا شذرات عَلِقَت بغلافنا الجوى من زمن الفن الجميل .. "سواق الاتوبيس" الذى نسج ملحمة واقعية من داخل صندوق أوجاع الشارع المصرى ، فأبكى الجميع ! نعم رحل " الرجل الأخر" الذى طالما حسبناه ذلك الذى يطوى بداخله أكواد تَطابُق مع كل شخصية جسدها، فيختلط علينا الأمر مَن كان إذاً بداخل الشخصية أهو هى أم هى كانت هو .. رحل الفنان العاشق صاحب المائه وجه .. ملك التقمُص وعبقرى الاحترافية . وإذا بأنواره تنطفىء بعد معاناة قاسية مع المرض ليرحل عن عالمنا فى الحادى عشر من الشهر الجارى عن عمر يناهز 69 عاماً ، وعلى الرغم من موجة شائعات وفاته التى ترددت مؤخراً نظراً لتدهور أوضاعه الصحية، إلا أن تلك المرة الصدمة كانت حقيقية والرحيل كان مؤكداً ، مما أصاب الوسط الفنى وعشاق الفنان الراحل بوخزة حزن عميقة ، وإن جاز لى الوصف فقد كان ( نوراً ) قد انطفأ فى قلب الفن المصرى والعربى بأكمله. كان يمتلك أدواته دون استعلاء ويمارس فنه بعشق فطرى جعله يغزو قلوب وعقول مشاهديه ليستقر فى وجدانهم تاركاً بصمة خاصة بتوقيعه النورى .. بدأ مشواره باجتهاد ملحوظ ، فكان الأول على دفعته بالمعهد العالى للفنون المسرحية.. امتلك من الموهبة المبكرة ما أهله أن يلعب أدواراً صعبة ومركبة منذ ظهوره الأول كأدواره فى أفلام " قصر الشوق "،" السراب "، "زوجتى والكلب" و" الاخوة الاعداء" ..وكلها شخصيات ذات أبعاد نفسية معقدة . كان أيضاً لديه من الجرأة والحماس والثقافة والوعى ما جعله يتنقل برشاقة فراشة وإقدام أسد وتحليق نسر فى محيط مشواره الفنى تاركاً لنا ذخيرة حية من الأعمال الثرية، حيث تمتع الفنان الرائع (نور الشريف) بكونه متجدد الإبداع ، يمتلك روحاً وثابة جعلته يهوى التعاون مع المخرجين الجدد والوجوه الشابة وكأنه يَوصِل الخبرة بالريعان لبناء جسور فنية متجددة الطاقات ومتدفقة العطاء .. كان فناناً راقياً يحرص على المضمون فى أعماله إيماناً منه بأن (الفن ) رسالة ثقافية تنويرية من الدرجة الأولى وليس ترفيهاً أو أداه لغض الطرف بالصغائر عن الكبائر . وعن أقرب أعمال الفنان الراحل " نور الشريف " الى قلبه يمكن التوقف عند مسلسل "عمر بن عبد العزيز" الذى اعتبره إضافة خاصة لرصيده الفنى ، حيث أوصى بأن يُذاع - عند وفاته - مشهد وفاة "عمر بن عبد العزيز" رضى الله عنه، حيث وصفه بأنه كالومضة التى لا دخل لخبرته أو قدراته التمثيلية فى صدقه وإنما كان أشبه بلحظة " تنوير ربانى " . والواقع أن هذه الوصية عكست نظرته للفن واعتباره ك ( القيمة المجردة) ، فكان يمارسه كالعقيدة ، فإذا بهويته تذوب بداخله وكينوتنه تتوحد معه.... فكان يسير ببساطة على النهج الأفلاطونى الذى يؤمن بأن الفنان الحقيقى لا يحتاج سوى إدارة مرآته فى جميع الاتجاهات ليرصد بها المادى والمحسوس . وهذا بالفعل ما يمكن استشعاره فى أعمال الفنان الراحل، فكان يرصد بمرآة فنه العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية المختلفة، وكان يعتمد فى آدائه على ارتجالات لحظات الإبداع ووحى الإلهام ، فإذا به لا يدرك مسبقاً كيف ستصير خطته مع كل شخصية جسدها، بل كان يترك روحه تتفاعل مع العمل وتخرج إبداعها بدفء اللحظات الأولى . ومن المؤكد أن أعمال الفنان الراحل " نور الشريف " ستظل علامات مضيئة بذاكرة الفن المصرى والعربى، فقد استطاع ان يُخلِد وجوده بين محبيه عبر تاريخ حافل من الأعمال المشرفة والراقية والأكيد أن (دم الغزال) لن يجف، وسيظل (بتوقيت القاهرة) دافئاً على أرضها كالمسك والطيب .. وب ( كل هذا الحب ) نسمع همسه من الأفق يُحاكينا مُردداً ( لا تبكى يا حبيب العمر ) فَنُجِيبه بطمأنينة اللقاء وإمتنان يستحقه قائلين .. وداعاً يا (هارون الفن) الرشيد . المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية