في الفترة الماضية شهدت مصر العديد من الموائد المستديرة للحوار بين الاحزاب والائتلافات الشبابية من جهة وبعض قادة المجلس العسكري والحكومة من جهة اخرى، لكنها للأسف الشديد لم تسفر عن شيء ذو أهمية. ربما لم تكن النية خالصة في كل هذه الحوارت، ولم يكن المسؤولون يريدون التوصل الى صيغة يقبلها الشعب، ولكن كان الهدف منها هو التسويف وإلهاء الناس وتمضية الفترة الانتقالية دون المجازفة باتخاذ قرارات واجراءات حازمة وضررية، وترك كل هذه المهام للرئيس والحكومة المقبلة وهي حكومة بالضرورة ستكون منتخبة ومقبولة من الشعب. ورغم أن المطالب التي يرفعها المتظاهرون واضحة وضوح الشمس فان أولي الأمر في مصر المحروسة لم يستجيبوا لها حتى الان، ولا نريد منهم أن يصلوا الى الدرجة التي تحدث عنها القران الكريم "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" (النمل 14). هناك اسباب حتما وراء هذا التسويف للمطالب الجماهيرية، منها أن المجلس العسكري وجد نفسه فجأة أمام مسؤوليات لم تكن بالنسبة له في الحسبان، وهو الذي تعود قادته طوال السنوات الماضية أن لا يتدخلوا في الامور السياسية، وكان الهم الاكبر لهم هو الحفاظ على الامن القومي للبلاد، ولكنهم فجاة وجدوا انفسهم في خضم الاحداث، بل هم المسؤولون عن اختيار الوزراء والمسؤولين والتعامل مع الاحزاب والائتلافات المختلفة وهم من كانوا لا يعرفون حتى اسماء رؤساء هذه الاحزاب، فوقعوا في "حيص بيص". السبب الثاني انهم لا يريدون ان يظهروا في الصورة او يحتلوا المشهد كاملا حتى لا يبدوا الامر وكأن لهم أطماعا في السلطة والحكم وهم لا يزالون يكررون كل يوم ان ليس لهم اية اطماع في الحكم وأنهم سيعودون الى ثكناتهم العسكرية فور انتهاء الفترة الانتقالية. اما السبب الثالث بالنسبة للمجلس العسكري فهو انهم لا يعرفون الحجم الحقيقي للقوى التي يتحاورن معها، فبعض من يتحاورون معهم من الائتلافات الشبابية لا يزيد عدد المشاركين في الائتلاف الواحد عن عشرة او عشرين شخصا ويتساوون في الفرصة مع قوة بحجم الاخوان المسلمين والتي يتجاوز عدد اعضائها مئات الالاف، او مع حزب عريق مثل حزب الوفد. ربما يكون للحكومة أيضا أسبابها في فشل هذه الحوارات والعودة الى مليونيات ميدان التحرير والميادين المختلفة في المحافظات، ومنها ان الحكومة تركت الهم الداخلي وما يجب عليها من اعادة الامن والامان والتسريع في محاكمات قادة ورموز الفساد في النظام السابق وتوجهت لتحسين علاقات مصر مع دول الخليج وأثيوبيا ودول افريقيا وايران وغيرها، بل انها اصبحت تتعامل كحكومة دائمة وليست حكومة تسيير اعمال فاعلنت عن مشاريع يستغرق تنفيذها 25 عاما في احيان وخمس سنوات في احيان اخرى، وتجاهلت اعادة الامن وتسيير مصالح الناس رغم انها في الاساس حكومة تسيير اعمال لن تظل في الحكم سوى لشهور معدودة، وكان يجب عليها التركيز في هدفين رئيسيين هما اجراء محاكمات عادلة وسريعة للمفسدين وناهبي اموال الشعب، واعادة الامن والاستقرار الى البلد. وربما هناك اسباب اخرى تعود الى الطرف الاخر في الحوار وهو طرف الاحزاب والقوى الوطنية والائتلافات الشبابية، وهو التطرف والمزايدة في المطالب من كل ائتلاف او حزب حتى يسجل موقفا على حساب زملائه ويتم استضافته في الفضائيات والصحف المختلفة للحديث حول موقفه المتشدد، وهذا التطرف في المطالب من السمات التي تغلق العقل عن الحوار الناجح، وعلماء الاجتماع يقولون ان المتطرف في فكره لن يقبل منك الا ما ناسب عقله، لان الهدف من الحوار لديه لا يكمن في الوصول الى الحق، بل في اقناع الطرف الاخر بوجهة نظره القاصرة في جل الاوقات عن استماع النصح. ولذلك يجب على المجلس العسكري والحكومة الاستماع الى صوت الشعب وتحقيق مطالبه المشروعة، وبالقدر ذاته عليهم ان يكونوا حكومة تسيير اعمال تعيد الامن والاستقرار الى البلد وتحاكم المفسدين لأن العدالة البطيئة تعني غياب العدالة، ثم عليها بعد ذلك ان تسلم السلطة لقيادات منتخبة وفق الجدول الزمني الذي تم استفتاء الشعب عليه. اما اذا استمر المجلس العسكري والحكومة المؤقتة في النهج الذي دأبوا عليه وهو التحرك ببطء شديد وتنفيذ المطالب بطريقة "القطرة قطرة" فاظن ان المظاهرات والاعتصامات سوف تستمر، وهو الأمر الذي ينذر بكارثة اقتصادية تؤدي الى افلاس مصر بسبب تعطيل الأعمال والمرور، وانعدام السياحة وغيرها من مصادر الدخل القومي، وأرجو أن لا نصل الى هذه المرحلة.