من لم يُعط ليس له أن يأخذ، وليس عليه إلا أن يصمت، ومن أخذ فليشكر ثم فليغلق فمه. أما إن كنت قد أعطيت ولم تأخذ فماذا في ذلك، عليك فقط أن تسأل نفسك: إديت إيه لمصر، وماتجيبش سيرة ادتنا إيه! المعني: أغلق فمك في جميع الأحوال، لأنك عديم الحقوق في أي حال. قبل أن تلعنني في سرك وأنت تقرأني، أؤكد لك أن المكتوب أعلاه ليس ما اعتقده، لكنه مما قرأت وأسمع. طالعت هجوماً على الممثل محمد صبحي لأنه خاطب الشباب في ندوة دعته إليها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فكان مما قاله: إن الشباب حديث السن لم يُعط مصر أي شيئ و"مالوش إنه يزعل من البلد،" وهكذا فإن من كانوا في سن الأخذ ليس لهم حقٌ في الغضب أو حتى النقمة!! في الحقيقة أن منطق الكلام بلغ من التهافت حداً واضحاً لا يثير أي حاجة في الرد عليه، إلا أن سياق الكلام وشيوع مثل ذلك المنطق يستدعي بعضاً من التفكير والمناقشة. بدايةً أنا لا أفهم أن يذهب الفنان صبحي ليحاضر طلاب العلوم السياسية في السياسة، أعتقد أنه كان من الأولى أن يحاضروه هم. لكنني أفهم السياق البائس الذي يجعل مثل ذلك اللامنطق يسود، فليس من المهم الآن أن تكون ذا علم لتُسمَع، بل الأهم أن تكون ذا شهرة، فإن كنت مشهوراً فأنت الفقيه العلامة المحدث المؤرخ المحلل وعلى ودنه. أطلق صبحي (مع حفظ الألقاب) فتاواه السياسية واحدة تلو الأخرى، وكانت في الحقيقة متسقة مع منطق مثقفي السلطة في كل زمان ومكان. ليس لدى صبحي ومعظم أقرانه أي سبب للنقمة على السلطة، وليس لديهم أي مصلحة في استعدائها، فلديهم الشهرة والمال والنفوذ، وهم من أصحاب الحظوة والقرب من السلطان، ومن ثم فهم يقاومون ما من شأنه أن يقلب الأمور أو يغير الأوضاع التي ازدهروا فيها، ولا بأس من مداعبة السلطة ببعض الهزار المصرح به والنقد الذي لا يؤذي السلطة بل يحسن صورتها ويساعد الناس على التنفيس، أما الخارج عن الحدود فغالبا مفقود مثلما حدث مع سعيد صالح زمان، ولذا فإن الفن في بلادنا ممتزج غالباً بالنظام، وليس بالسياسة، أو هو مع السياسة التي يقرها النظام. أما فكرةُ حق الدولة الذي يسبق حقوق الناس فهي فكرةٌ مدهونةٌ بالخير مسكونةٌ بالشر محشوةٌ بالعبث؛ فالإنسان يولد ولديه حقوق، وليس عليه أي واجبات لأنه غير مكلف بعد، وقبل أن توجد الدولة كان الناس يحصلون على حقهم في الحياة بالعدوان على حياة أو مال الآخرين، فاتفقوا على أن يتنازلوا عن بعض من حريتهم لسلطة تحميهم وتنظم حقوقهم، أي إن الأصل في نشأة الدولة كان لحفظ أرواح وممتلكات الناس وسائر حقوقهم، مقابل أن يطيعوا السلطة ويلتزموا بما تقرره لهم. فالسلطة موجودة من أجل الحقوق من قبل أن يكون لها هي أي حقوق، وعندما تفرط الدولة في حقوق الناس فإنها في الحقيقة تخرق العقد الذي أوجدها وتناقض أساس الفكرة التي أنشئت من أجلها، وليس العكس. ما قاله صبحي لا يعبر عن اتجاه فكري، بل يكشف عن ضياع للفكر، ويتماهي مع تلك اللوثة الحماسية التي لا تقر للمنطق قدراً أو للحق وجاهة، فالسلطة تحتاج للناس من أجل أن توجد وتستمر، وبما أنها تحتاجهم فإن عليها حقوقا تجاههم، مثلما أن على الناس حقوقا أيضاً، والذي له حقوق ولا يحتاج احداً ليس عليه أي واجبات، والوحيد الذي ينطبق عليه هذا الوصف هو الله، وبالتالي فإن من نجعل له حقوقاً وننزهه عن أي واجبات نُنزِله منزلة الإله، ولا أظن أننا يمكن أن نفعل ذلك الآن، فلقد تجاوزناه مع انقضاء الفراعنة! إن صوت الناس حقيق أن يسمع، وهو حق للعامل والعاطل، وليس مرهونا بما أعطوا، بل مرهون بالحق الذي اكتسبوه مع مولدهم، والسلطة ليست هي الدولة، لكنهم الناس هم الدولة، وهم مصدر السلطة، وهم الذين يختارون من يصل إلى السلطة، وهم من يقررون متى تتغير السلطة، وهم مأمورون بطاعة السلطة، لكنهم قطعاً منهيون عن عبادتها. بقي من الفقه السياسي لصبحي نظرية عدم جدوى الديمقراطية متى كان الناس في جاهلية، وتلك فكرةٌ لذيذة على قلب كل مستبد، ماض أم مستجد، ولدي فيها كلام في قابل الأيام، إن أراد ربُ الأنام. من العدد المطبوع من العدد المطبوع