لا ريب أن القارئ قد تكوَّنت لديه فكرة عن الطبيعة الخاصة للشريعة نتيجة تفرعها من العقيدة، وأن هذه الحقيقة هى التى تعطى الشريعة طبيعتها الخاصة التى تميزها عن منظومة القوانين، التى تضعها الدول الأوروبية أو غيرها، أعنى دون الاعتماد على أساس دينى، والتى يفترض بالطبع أن تكون محل التقدير باعتبارها القانون، ولكن هذا قلما يتحقق بالقدر اللازم إذ كثيرًا ما لا تثق الجماهير فى بعض نصوص قانون ما، وترى أنه قد وضع لغاية خاصة، وليس لمصلحة عامة، وقد يصل امتهان القانون إلى إطلاق تعبير «القانون حمار» فى بعض الكتابات، وهذا أمر لا يتصور بالنسبة للشريعة إذ إن جذرها الدينى يضفى عليها حصانة وقداسة ويعطى الالتزام بها طابعاً إيمانيًا. ومع أن الفضل فى هذا كله يعود إلى العقيدة فإن كثيرًا من المفكرين الإسلاميين فتنوا بالشريعة، وما توحى به من تكوين مجتمع أمثل تنتفى فيه المنازعات والمصارعات التى تمزق المجتمعات الأخرى. وشيئاً فشيئاً تحول هذا الإعجاب إلى إيمان بأهمية الشريعة.. وشيئاً فشيئاً يكبر هذا الإيمان ليطغى على العقيدة، فلا تذكر إلا لمامًا، وكأن الشريعة بحكم نصوصها يمكن أن تؤدى وظيفتها فى تكوين المجتمع الأمثل. ولما كانت الفكرة لدى هؤلاء عن تطبيق الشريعة تأخذ صورة تقنين الشريعة، أى إصدار القوانين التى تبلور نصوصها فى مواد قانونية، بهدف التطبيق، ولما كان إصدار القوانين هو حكر الدولة الذى لا ينازعها فيه جهاز آخر فإن أمل هؤلاء كله تمحور حول تكوين الدولة التى تصدر قوانين الشريعة. ومع أن هذا السياق من مقدمات لنتائج يبدو طبيعيًا وسليمًا، فالأمر المحقق أن نصوص قوانين الشريعة ما لم تصطحب الطبيعة الإيمانية لها فإنها لن تعد إلا نصوصًا جوفاء يمكن استغلالها وتحريفها، أو على أحسن تقدير تفقد حرارة الإيمان. لقد قلنا إن العقيدة هى الأصل .. ويكون طبيعيًا أن يأتى تعميق العقيدة قبل تطبيق الشريعة، ليس فحسب لأن هذا هو ما تقتضيه العلاقة ما بين الأصل والفرع، ولكن أيضاً لأنه هو التطور الذى أخذه تاريخ الإسلام، فقد ظهرت العقيدة، وظلت وحدها هى التى تمثل الإسلام، طوال سنوات مكة، أى ثلاثة عشر عامًا من ثلاثة وعشرين عاماً هى مدة البعثة، ولم يكن للإسلام طوال الفترة من حدود أو شريعة أو جهاد إلا بمعنى تكوين النفس تكويناً إيمانيًا، يقوم على جهاد النفس، ولو مات أحد المسلمين فى هذه الفترة وهو يعب الخمر عبًا لما جوزى على ذلك فى الآخرة، وبعد أن انتهت هذه المرحلة وظهر مجتمع المدينة (لأن كلمة دولة المدينة ليست دقيقة تمامًا لاعتبارات عديدة أشرنا إليها فى مناسبات سابقة عديدة) ظهرت الشريعة. فالترتيب الطبيعى للأمور أن تظهر العقيدة أولاً .. وتتعمق فى النفوس حتى يمكن تطبيق الشريعة، لأن تطبيق الشريعة لابد أن يرتكز على أساس إيمانى (وهو ما تقدمه العقيدة). إن الإيمان ضرورى ولا يمكن الاستغناء عنه لأنه: ( أ ) هو الذى يجعل الناس تتقبل موجبات ومحرمات الشريعة، إذ ليس من السهل منع الناس من الاكتساب عن طريق الربا، أو البيوع الفاسدة أو الالتزام بعدم شرب الخمر أو عدم الانسياق مع ما تهوى الأنفس، وكذلك الإيمان بضوابط الحكم الإسلامى، ما لم يؤمن بها الناس إيمانا قلبيًا طوعيًا . (ب) إن فهم الشريعة– فى ضوء العقيدة– سيحسم الاختلافات فى تحديد المشكلات، وأولوياتها، وطرق علاجها وسلامة التطبيق وعدم الانحراف وتحقيق التكامل ما بين الشريعة والعقيدة، وسيصهرها جميعاً فى بوتقة واحدة، بحيث تكون الثمرة (الشريعة) مرتبطة بالجذر (وهو العقيدة) ومرتكزة عليه. (ح) إن الإيمان وهو ثمرة العقيدة هو الذى يختصر الوقت، ويوفر قوة الدفع اللازمة لتحقيق التغيير وتحويله من إرادة إلى فعل وعمل، وبقدر قوة الإيمان تكون قوة الدفع، ويختصر الوقت ويحقق النجاح. فالإيمان هو الطاقة، أو الوقود المجانى المستكن فى النفوس والذى يؤدى تفجيره إلى توليد قوة الدفع التى بدورها تحول الخطة المرسومة من كلمات وأرقام إلى وقائع وأفعال، كما يفعل البنزين فى الطائرة، إذ يدفع بها للأمام بسرعة، ويمكنها من الارتفاع عن الأرض. وهكذا تتضح أهمية العقيدة التى تولد الإيمان الذى يولد القوة الدافعة. ومن هنا فإن العقيدة لازمة، لأنها هى التى توفر الإيمان أى القوة الدافعة، ولتوضيح الصورة، أى سلامة التطبيق وعدم الانحراف، وكثيراً ما يخطر للإنسان أن هذه الفكرة هى مما لا يختلف عليه اثنان، ومما تؤدى إليه البديهة والترتيب المنطقى للأولويات، ولكن ما جعل البعض يتحمس لأولوية الشريعة هو الفكرة الخادعة عن قدرة «السلطة» على تحقيق الإنجازات الكبرى، إن السلطة يمكن بالفعل أن تقيم مشاريع عمرانية مثل «السد العالى»، ولكنها تعجز تمامًا عن بناء إنسان أو بث إيمان أو حتى إصلاح إدارة قصر العينى. وقد استهوت هذه الفكرة وضللت أذكياء الدعاة، بحيث آمن بها المعسكران اللذان– على تناقضهما– يمثلان «دعوة» ألا وهما الهيئات الإسلامية، والأحزاب الاشتراكية، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله حذراً فى هذه الناحية، وأن المضمون الحقيقى لكلمة السياسة هو المعنى الوطنى العام، وليس العمل السياسى الحزبى، وخلص من أن يؤخذ بها عندما قال إن الإخوان لا يسعون للحكم، ولكن الحكم هو الذى يسعى إليهم، وكذلك تفرقته الحكيمة ما بين القوة.. والثورة، وترحيبه بالأولى وعزوفه عن الثانية، وتركيزه على البناء النفسى والعمق العقيدى والأساليب التربوية، ولكن هذا لم يستمر حتى فى الإخوان المسلمين كما لم يوجد أصلاً لدعاة الاشتراكية وعلى رأسهم لينين، الذى جعل هدفه الأول هو «السلطة» وتصور أنه عن طريق السلطة يمكن أن يبنى الاشتراكية، ولما نجح فى الاستيلاء على السلطة عمل جاهدا بكل ما فيه من تصميم وإرادة وعبقرية لإقامة بناء الاشتراكية وإرساء قواعدها، وبدا أنه نجح فى هذا، ولكن سبعين سنة من السلطة لم تكف لتحقيق الاشتراكية وتهاوت أخيرًا عندما تعرضت للاختبارات، ويمكن القطع بأن عشر سنوات من الرسول كانت أبقى أثرا من سبعين سنة من لينين وخلفائه لأن الرسول عنى أولا بتعميق العقيدة خلال ثلاث عشرة سنة قبل أن يتقلد سلطة، كما أن خمسين سنة من نشاط الجمعية الفابية فى بريطانيا لإدراج الفكر الاشتراكى بالنشر والدعوة السلمية بين النقابات والجماهير كللت بالنجاح عندما بدأ حزب العمال ثورته الاجتماعية سنة 1945م عندما تقلد الحكم، وحقق أكثر ما تطلبه الجماهير من الاشتراكية دون أن يقع فى سوءة السلطة أو يرتكب ما ارتكبه لينين وستالين وماوتسى تونج من سفك الدماء أنهارا والقضاء على الحرية وغيرها من الموبقات التى لوثت الحكم الاشتراكى وجعلته نقمة بدلا من أن يكون نعمة. وهذه التجربة المرة المكللة بالدماء.. والآلام.. والفظائع إنما كانت لإيمان لينين– الذى وصل إلى حد الهوس– بالسلطة– ولك أن تقول الثورة– وأنها قادرة على تحقيق العقيدة الاشتراكية فى حين أن السلطة هى سم العقائد وما إن تدخل السلطة حتى تخرج العقيدة. وإنه لمن أهم الأمور أن يؤمن قادة الدعوات الإسلامية بأن وازع السلطان لا قيمة له ما لم يقم على أساس وازع القرآن، وأنهم ما لم يقيموا بناءهم على أساس من العمق الإيمانى، فإنه لابد سينهار. وما يفسر هذه النقطة– أى عقم السلطة– أنه ما لم يتوصل الدعاة إلى إشاعة العقيدة بحيث تتأصل وتتعمق فى مجموعة، حتى لو كانت أولا محدودة ثم تشيع وتصبح محل تسليم من القاعدة العريضة، نقول إن لم يتحقق هذا فإن السلطة تصبح فى أيدى «أقلية» وعندما تريد هذه الأقلية أن تحكم فإنها لا تجد الآذان الصاغية، أو القلوب المتجاوبة بل تجد الشك الذى يقترن فى أذهان الكثيرين بالسلطة ولا تجد الأعوان المؤمنين الذين ينشرون عقيدتها بالحكمة والإقناع والأسوة وتضطر عندئذ إما إلى أن تحكم بالديكتاتورية فيفسد كل شىء فورًا، أو تلجأ إلى تكوين حزب يهرع إليه المنافقون والانتهازيون لأنه حزب السلطة، فيقوم البناء على أساس هش لا يلبث أن ينهار، كما لا يفيد أن يكون لدى الهيئة حزب قوى مؤمن، ولكنه قليل العدد لأنها ستضطر إلى الحكم بديكتاتورية هذا الحزب الذى لا يلبث أن يتآكل أو تفسده السلطة والنفوذ والبيروقراطية، وهذا هو المأزق الذى وقع فيه لينين، وجمال عبدالناصر وما أخطأه الشهيد سيد قطب الذى يعد فكره صورة إسلامية من الحزب اللينينى. رجاء لعله لا يخيب.. القيادى الإخوانى المهندس خيرت الشاطر أمضى عشر سنوات فى السجون والمعتقلات، وحوكم أمام محاكم عسكرية وحكم عليه بسبع سنوات، مع أنه أمضى عشر سنوات تردت صحته وأصيب بالسكر والضغط، وأصيبت زوجته بجلطة وتوفيت أمه حزناً عليه ودفنت وهو فى سجنه، وتزوجت بناته وهو فى السجن، وبدد ماله وثروته التى حصل عليها بالكفاح الطويل، أما آن له أن يستريح، هناك معان إنسانية أسمى من الانتقام، وقد وقفتها وزارة الداخلية فى بعض الحالات.. وهذه أحقها؟ فهل تحقق الرجاء؟