أقدم هذا المقال إلي كل السادة النقاد الذين شاركوا في أكثر من استفتاء لاختيار الأفلام المصرية المائة الأفضل في تاريخ هذه السينما سواء عام 1996 وعام 2007 فمن الواضح الآن أن هؤلاء النقاد اختاروا قائمة الأفلام الأحسن من خلال ما شاهدوه فقط من أفلام وليس من واقع خريطة الأفلام نفسها بمعني أن هذه القائمة جاءت ناقصة فقد كشفت عروض الأفلام غير المعروفة في القنوات الفضائية، أن هناك أفلاما قد ظلمت بشكل بين، لمجرد أن النقاد لم يشاهدونها ولم يسمعوا عنها، ويشهد الله أنني عندما عرض فيلم «الإيمان» بقناة روتانا زمان منذ أسابيع اتصلت بالكثير من النقاد كي يروا هذا الفيلم الجميل لكن أغلبهم كان منشغلا بوقائع مهرجان الأفلام الروائية ولما أعيد عرضه يوم السبت 5 يونية الحالي عاودت الاتصال بالكثيرين منهم من أجل مشاهدته. تربص وانتظار في مرات المشاهدة السابقة لم يكن في نيتي الكتابة عنه، وذلك لأنني لم أشاهد الفيلم منذ بداية أحداثه لكن هذه المرة تربصت به، وانتظرته وسجلت نسخة منه لمن يريد الحصول عليها وكان من المهم الكتابة أن المجهول لا يزال كثيرا في السينما المصرية وبالتالي من خرائط ما يسمي بالأفضل فهناك أفلام لم يشاهدها هذا الجيل من النقاد مثل «آخر من يعلم» لكمال عطية الذي كتب له السيناريو داميانو دامياني، والقائمة ليست قصيرة.. لكن المهم الآن.. هو إعادة الاعتبار لفيلم تجاهله النقاد. حسب تقديري فهو يستحق أن ينال ترتيبا ضمن الأفلام الأفضل ما بين ال 45 إلي 50، وهو واحد من الأعمال القليلة التي قام محمود المليجي ببطولتها بشكل مطلق، وفيه أثبت أحمد بدرخان أنه يستطيع أن يدير أبطاله ليظهروا علي أحسن ما يكون، ولن أكون مغاليًا بالمرة حين أذكر أن دور سويلم في الأرض.. يبدو باهتا كثيرا قياسا إلي دور «زناتي» الذي سبق فيلم يوسف شاهين بتسعة عشر عاما.. قبل أن نتوقف عند الفيلم فهو من تأليف «قصة وحوار» وإنتاج شخص لم أسمع عنه كثيرا هو محمد جمال الدين رفعت، وسيناريو المخرج أحمد بدرخان وفيه اكتشفت أن هناك شقيقا أكبر لسليمان الجندي يدعي فتحي شاركه البطولة هنا، ولا يعرف أحد عنه شيئا ولا إلي ماذا صار. أما أهمية الفيلم بالنسبة لي فهو العمل السينمائي المصري الوحيد الذي يرصد مرحلة الأربعينات من خلال التحولات الاجتماعية الحادة ولا أتذكر فيلما آخر رصد هذا العقد بشكل متكامل سوي «الإيمان» حيث بدأت الأحداث مع الحرب العالمية الثانية وظهور طبقة تجار السوق السوداء، أو أغنياء الحرب حتي إذا ما انتهت هذه الحرب بدأت حرب فلسطين وشارك المصريون فيها من كل البيوت فظهرت طبقة استغلالية جديدة وترك الشهداء وراءهم الكثير من اليتامي والثكالي. هذه هي أول أهمية في الفيلم أنه يقرأ التاريخ في هذه المرحلة من خلال عدة أسر تقيم في حي يجمع بين الرقي وسمات الحي الشعبي، وأيضا من خلال مجموعة من الأسر والشخصيات مع التركيز علي حالات التحول التي حدثت لزناتي وفي رأيي أيضا أن السينما المصرية لم تتوقف عند علاقة بين اثنين من الأشقاء بنفس العمق والرقي مثلما رأينا العلاقة بين زناتي «محمود المليجي» وصابر أفندي «سراج منير». المشهد الأخير المشهد الأول في الفيلم هو نفسه المشهد الأخير في ذلك الحي الذي هو أقرب إلي ديكور في ستوديو مصر، حيث نري مجموعة من المساجد المتجاورة يخرج منها المصلون ا لمشهد الأول يقرر فيه بعض الناس أن يحدثوا صابر عن التحول الذي أصاب أخاه زناتي حين صاحب أصدقاء السوء أما المشهد الأخير فلا تزال المآذن تشع نورا وقد اختفي من الحي كل من زناتي وصابر ومرسي «فريد شوقي» وبعض أهل السوء من تجار السوق السوداء والفتوات. المسافة بين المشهدين عقد كامل نتتبع فيه تحولات زناتي الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهو يختلف عن أغلب الأبطال المألوفين في هذه السينما فهو رجل له جذوره يعيش في بيت أخيه الأكبر، ويعتبر زوجته بمثابة أمه كما أن له أخلاقياته التي لن يتخلي عنها، مهما تحول فهو لم يمارس الجرائم وكل ما فعله أن تعاون مع تاجر دواجن كان يرفع الأسعار ويتحكم فيها أثناء الحرب لكنه ظل دائما وفيا لأسرته يكن المحبة الشديدة لأخيه ولا يتجاوز حدوده في النقاش معه، كما أنه بار بكل أسرته تدفعه النخوة أن يتولي تربية أولاد أخيه بعد رحيله في الحرب، كما أنه يبعث إلي الأخ ببعض المال حين وفاة زوجته. التحولات التي حدثت لزناتي مضبوطة مدروسة فهو في البداية شاب أنيق يرتدي الكرافت والقميص الأبيض والبدلة يقع في غرام جارته حفيظة «زهرة العلا» إلا أنها تتزوج بناء علي رغبة أهلها من رجل آخر، رغم أنها تحبه وهذا الرجل له من القوة والبأس أن يسقط فوق الأرض أقوي فتوات المنطقة بضربات سريعة موجعة وفي مرحلة أخري قادر أن يتغلب علي مرسي بيد واحدة وهو المصاب بالشلل في يمينه لكنه لا يزال قويا، ولم ينهزم طوال الفيلم إلا علي أيدي «مجموعة» من الفتوات الذين يتعاونون مع مرسي، وعلي رأسهم المعلم سويلم «رياض القصبجي». علي جانب آخر هو عاشق ومعشوق تحبه فردوس «وداد محمد» التي كرست حياتها من أجل أن تكون تابعة له في صحته ومرضه، أما حفيظة التي يحبها فإنها تبادله المشاعر وهو دائما ما يقف تحت نافذتها ليصفر لها، معلنا عن وجوده إلا أنها لا تخرج إليه رغم إعلانها له أنها تحبه لكنها لا يمكن أن تعصي أوامر أهلها. وسوف يظل زناتي شخصا بريئا حسن النية فيما يخص الآخرين فهو يكن احتراما لأخيه رغم الخصام الذي بينهما وهو لا يصدق أن في إمكانية مرسي أن يلهو بقلوب النساء لذا فهو علي صداقة مع آخرين يختلف عنهم ليس بسبب أنه سيتحول إلي الإجرام ولكن لأنه حسن النية لذا فلم تره يرتكب جرما كبيرا بل سوف يظل نبيلا دوما في كل علاقاته الأسرية، وغير الأسرية يمد بالإحسان إلي المحتاج.. وقد رأينا المليجي يؤدي هذه الشخصية علي أفضل ما يكون وهناك مشاهد توحي أنه كان يستحق لقب الفتي الأول بسهولة ملحوظة ويجد الفيلم تبريرا لتحول زناتي الذي يود أن يتزوج من حفيظة فيتعذر عليه الحصول علي وظيفة من أي نوع فيقبل مشاركة المعلم نصار «عبدالعليم خطاب» وقد بدا المليجي في أحسن حالاته وهو قابع في مكان قريب يري حفيظة تزف إلي شخص غريب عنها ثم ينسحب لأول مرة إلي حانة صغيرة ليشرب الخمر لأول مرة في واحد من أجمل ما أدي المليجي من مشاهد في حياته. شارب زناتي وقد رفض زناتي التعاون مع الجيش الإنجليزي وهو يردد ما يستاهلوش اللقمة اللي بياكلوها ويتحول حسب الوظيفة التي يعمل بها بيع الدواجن في السوق السوداء إلي معلم تخلي عن البدلة ليطلق شاربه ويرتدي الجلباب هذا الشارب الذي سوف يقطعه له مرسي بالموس لإهانته وذلك قبل قطع «قص» شارب سويلم بعقدين من الزمن. ويؤمن زناتي الذي صارت معه النقود أن هذه الفلوس بتطير زي الفراخ اللي جايباهم أي أنه لم يتخل قط عن معني الشرف ويظل علي درجة الأربحية التي لازمته دوما في كل حالاته فحين تموت زوجة أخيه يرسل النقود إلي الأسرة إدي الفلوس لسعدية ما تقولهاش من مين.. وهناك مشاهد لا تنسي في مسيرة زناتي مثل وقوفه إلي جوار باب المقهي عاجزًا عن الذهاب لحضور جنازة زوجة أخيه ثم المشهد الذي يخرج فيه صابر إلي الحرب ويعجز الأخوان حتي عن مبادلة التحية لآخر مرة باعتبار أن صابر سوف يذهب إلي حرب فلسطين ولن يعود. وقد صور الفيلم ما جاء في حرب فلسطين علي المستوي الاجتماعي بعيدا عن الشعارات الوطنية في الكثير من الأفلام فنحن نعرف أن الحرب سوف تبدأ مع أول أيام الصيام عام 1948 وأن الجنود يصومون أثناء القتال أسوة بما حدث في أكتوبر 1973 وسوف يموت صابر وهو صائم رغم أن تنفيذ استشهاده كان ساذجا إلي حد ما. وكما أشرنا فالفيلم تدور أحداثه في عقد كامل وما إن تنتهي الحرب العالمية الثانية حتي يردد: الله لا يرجعها تغور الحرب في ستين داهية. ويبتعد عن السوق السوداء ويفتح مقهي تحمل اسمه، وقد اهتم الفيلم بالحديث عن البطالة وفرحة التجار بعودة الحرب ونشوبها هذه المرة في فلسطين، وقد كشف الفيلم عن دور المصريين في هذه الحرب وكيف دفعوا من أبنائهم في هزيمة 1948. خارج القائمة لقد تاه هذا الفيلم «1951» دون أن يراه الناس أو النقاد ولم يكن يذكر كثيرا في قائمة بدرخان ولا قوائم الإبداع العظيم للمليجي ولا شك أن ضياع أفلام أخري أو عدم الالتفات إليها يجعلنا ننظر إلي القوائم التي نشرت حول الأفلام بأعين جديدة وأن نعيد كتابة التاريخ السينمائي بما يليق بأفلام جيدة لم يكن لها أي ذنب سوي أنها تاهت في حنايا شركات الإنتاج أو الهواة..