كنت أظن أن العرض المسرحي حينما يبوح بأسراره ويعلن في جلاء عن جمالياته ويكشف عن موهبة حقيقية في الإخراج المسرحي ويمتعنا بقدر ما يدهشنا ويستفز بداخلنا الأسئلة المكبوتة وغير المكبوتة والمباحة وغير المباحة ويحرضنا علي طرح الأسئلة مهما كانت مؤرقة للذات ومهما عانينا في تلقي إجابتها كنت أظن وبعض الظن في وسطنا المسرحي إثم وضرب وطرح وأشياء أخري فلقد تصورت من فرط سذاجتي أن عرضا مسرحيا مسكوناً بالحرية علي مستوي الشكل والمضمون ومسكوناً أيضا بكل المواهب الحقيقية في كل عناصره الفنية قادر علي خلخلة الوسط النقدي الذي بدا متجاهلا أو عازفا عن المشاركة باستثناء عدة مقالات عابرة للقارات ولكن هل يكفي عصفور؟ أين باقي العصافير النقدية المحترمة؟ أين القنوات الفضائية أين الصحافة الفنية؟ أليس هؤلاء هم من يتباكون علي ما وصل إليه حال المسرح المصري من تمرد أين المساندة الفعلية من كل هؤلاء لعرض مسرحي لم أشاهد مثله منذ سنوات.. أتمني من القائمين علي أمر المسرح المصري ألا يقوموا بدفن العرض فالعرض إثبات يقيني وحقيقي في أننا قادرون علي تحقيق نهضة مسرحية يقف خلفها مخرج مسرحي ومخرج عرض مسرحيتنا التي نتحدث عنها بهذا الزهو وذاك التقدير هو المخرج المسرحي شادي سرور الذي أعاد إحياء نص الكاتب المسرحي الراحل محمود دياب «أرض لا تنبت الزهور» في رؤية جديدة وشديدة الحساسية بقدر ما تحمله من خصوصية. المخرج المفسر والمخرج المكسر بداية نجاح العرض في حسن اختيار نص مسرحي يشتبك مع واقعنا المضطرب سياسيا واجتماعيا وثقافيا ولقد التقط المخرج بذكاء شديد نص دياب واعتبره كنزاً مباحاً له بكل مكنوناته لأنه أعمل عقله جيدا وفسر النص دون أن يخدش حياءه ودون أن يجور علي نص المؤلف أو جوهره فهو مخرج مفسر للنص وللعالم من حوله وليس مخرجاً مكسرا له. قراءة جديدة لنص قديم! يعتبر نص أرض لا تنب الزهور من أجمل ما كتب الراحل الكبير محمود دياب وفي دراسة بعنوان «مسرح محمود دياب القضية والبناء الفني» يوضح د. محمد عبدالله حسين أن دياب في تلك المسرحية «اعتمد علي قضية تراثية أو أسطورة عربية قديمة وأعاد تقديمها مرة أخري ليبرهن من خلالها علي استحالة تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل أو العرب وإسرائيل لأن الأرض التي رويت بالحقد لا يمكن أن ينبت بها زهرة حب واحدة.. ولم يغير دياب في الأسطورة شيئا سوي مقتل الزباء بيدها وحزن عمرو عليها أما في الأسطورة فالنهاية تأتي بأن يجهز عمرو عليها بعد شربها السم والتغيير الذي أحدثه دياب لملاءمة التاريخ بالواقع ولخدمة رؤيته الخاصة بما لا يتعارض مع جوهر القضية القائم علي استحالة الحب والسلام». والنص كما هو معروف يحكي عن الزباء ملكة تدمر تلك الملكة التي دخلت بلادها صراعاً تاريخياً مع مملكة الحيرة وحدث أن يقتل والد الزباء علي يد جذيمة الوضاح ملك الحيرة بالغدر والحيلة فتقرر أن تصبح ملكة للانتقام وتثأر لأبيها من جذيعة بحيلة بارعة إذ تكلف الرسام برسم صورة لها وتصل الصورة لجذيمة الذي يقع في غرامها حينما يتأمل بريق عينيها فلقد نجحت أثناء الرسم لها في إظهار الحب من هنا تنجح الحيلة ويذهب إليها يقصدها وتحدث المواجهة وتحذر العرافة الملكة في صياغة بالغة الدلالة حمام الدم لن يتوقف إذا سقطت قطرة دم واحدة من شرايين جذيمة وتنساب القطرات وينجح وزير جذيمة في الهرب ويقوم هو ورجال الدولة بالضغط علي عمرو بن عدي لكي يوافق علي قتل الزباء كما قتلت مليكهم وينجح قصير بن سفية في رسم خطة محكمة للدخول إلي قصر الزباء فيقرر أن يجدع أنفه ويجلط بالسياط لكي تقتنع الزباء بتعذيب عمرو بن عدي له ويحاول «زيداني» الذي يعشق الملكة عشقا جما أن يوضح مكمن الحيلة لكنها ترفض أن تسمع له وينجح قصير في إخفاء عمرو بن عدي في داخل صندوق يدخل به القصر وتشعر به الزباء وكأنها كانت تنتظره وتجري المواجهة بينهما في حوار رصين وبليغ عن الحب الذي لا يمكن أن يوجد بأرض رويت بالحقد ومن هنا ترفض الملكة عرض الزواج من عمرو بن عدي حقنا للدماء بل تطالبه بأن يقتلها فهي ملكة تنتظر الموت وحينما يرفض تفض خاتمها وتتجرع ما به من سم قائلة «بيدي لا بيد عمرو».. ارتكز المخرج في رؤيته الجديدة لتقديم هذا النص علي جملتين دالتين وردتا بمتن النص الأصلي وهما «أفتش عن إنسان تحت التاج فلا أجد إلا ملك» و«أرض ارتوت بالحقد لا يمكن أن ينبت بها زهرة حب» فالجملة الأولي مفسرة بقدر ما هي مكملة للثانية وتاج الملك لا يمكن أن يحمل بداخله إنسانا ومن هنا تتحول الأرض التي يحكمها ملك ظالما لم يحمل بداخله إنساناً إلي أرض بور قاحلة يسقيها الظلم والاستبداد فالمخرج في قراءته الجديدة يصور لنا عروش الحكام الطغاة في كل زمان ومكان ديكوره ينطق بتلك الرؤية وكل عناصره الفنية تعلن أن تلك العروش إلي زوال ولتعميق تلك الرؤية السياسية والإنسانية أضاف المخرج كورسه الشعبي ليعبر من خلاله عن مدي البؤس والحرمان والجهل والمرض الذي يحيا فيه هؤلاء وليؤكد انفصال الملك عن الرعية انفصالاً جزئياً وكلياً فالطغاة لا ينظرون أبدا إلي شعوبهم بل ينظرون إلي مصالحهم الخاصة كما أضاف المخرج تواجد دال للطفلة «نور» التي ترمز إلي البراءة المفقودة داخل ذات الملكة أيضا البراءة المنسحقة والمنعدمة داخل هذا العالم الدموي كذلك استخدم المخرج في رؤيته تكنيك السينما لإعادة بناء النص المسرح سينمائيا. فلقد اعتمد المخرج علي مساحات التقديم والتأخير في لقطات أو حواريات منتقاة بعناية ليبرز من خلالها رؤيته أو تفسيره الجديد للنص كما استخدم فكرة المونتاج المتوازي ببراعة شديدة سيما في الجزء الأخير من العرض عندما كان الحوار بين الزباء زيداني أو اختها وعمرو بن عدي وقصير في آن واحد فتدمر أمام الحيرة في تداخل بارع أنه تداخل الأزمنة واختلاطها إنه الزمن السحري في الدراما.. وحدث أيضا هذا التداخل في مشهدي الرسام مع الزباء وعمرو بن عدي لكي يتضح لنا كيف يري كل منهما غريمه حاضرا علي خلفية أنه يري صورته المرسومة حقا.. الرؤية التشكيلية والإخراجية الفضاء المسرحي «قاعة زكي طليمات بمسرح الطليعة» غابة كثيفة من الدلالات من الصعب الحديث عنها في مقالة واحدة يقف وراء الفضاء المسرحي الثري بالدلالات مخرج مايسترو استطاع أن يعزف مع قرينه د. محمد سعد صاحب السينوغرافيا لحنا جنائزيا شجيا ففور أن يقع عين المتلقي علي فضاء المسرح المكون من أربعة مجسمات علي هيئة حيات تكاد تسعي علي خشبة المسرح من فرط ثراء الدلالة وعمق المعني فالحيات الأربع قد تحتفيك بعض الوقت حينما تسقط عليهن غلالة شفافة لكن حضورهن طاغي ومؤثر وازعم أن الحيات والغلالة ماهما إلا رمز للظاهر والباطن بداخل الشخصيات فالمشهد البصري للسينوغرافيا موحي ومؤثر ومحكم ودقيق لذلك تم وضع العرش وسط تلك الحيات فهو عرش مهدد علي الدوام عرش قائم علي الطغيان والاستبداد لابد له أن يتهاوي ويسقط فالعرش هنا يستخدم مرة لمملكة تدمر وأخري لمملكة الحيرة إنه تداخل الأزمنة والأمكنة لذلك تم وضع شجر ملتف أغصانه وحوله حية رقطاء في عمق المسرح لتأكيد معني أن تلك العروش سوف تنهار وتهلك هذه الرؤية التشكيلية البارعة لم تكن لتحقق إلا بفضل خطة إضاءة مسرحية درامية غاية في الدقة والبراعة وتعبير حركي مدروس لأيمن مصطفي استطاع به أن يزيد من مساحات الصراع الداخلي للشخصيات ويعمقها من خلال معزوفة نغمية لوليد الشهاوي تجاوز بها القوالب التقليدية للموسيقي التصويرية فجسد لنا بموسيقاه الصراعات الداخلية للشخصيات في أتراحها وآلامها.. وتكتمل تلك المعزوفة الرائعة بالأداء الرصين لأبطال المسرحية حيث تألقت أيمان إمام في دور الزباء من خلال تجسيد حي ونابض لانفعالات الشخصية يوازيها بل ويتفوق في التألق والحضور والفهم العميق لظاهر وباطن جذيمة الوضاح ياسر علي ماهر ويقف بينهما علي الحياد خالد النجدي في دور قصير بن سعيد مكونا رأس المثلث ببراعته في الأداء والتلوين ويقف شادي سرور في دور عمرو بن عدي بين هؤلاء كالطود الشامخ بأدائه الواثق وفهمه الثاقب لمعالم الشخصية التي يجسدها أما القديرة منال زكي في دور العرافة فتحدث ولا حرج عن التألق وتعبيرات الوجه التي تكشف الصراع الرهيب داخل الشخصية وطارق شرف قائد جيش الزباء الذي جسد دوره ببساطة شديدة مؤمنا أن البساطة تؤدي نحو العمق ونشوي إسماعيل التي جسدت دور أخت الزباء بمنتهي التمكن والشاعرية ليتعمق لدينا معني القصيد السيمفوني المسرحي المتكامل في أرض لا تنبت الزهور حقا لكنها مسكونة بالمواهب الحقيقية.