في "لسان العرب" لابن منظور تحت حرف الباء : بذا ، البذاء : الفحش ، الفحش في القول وفلان بذيء اللسان.. وبذا الرجل إذا ساء خلقه . وفي الحديث: " البذاء من الجفاء " بالمد، أي الفحش في القول . باذئته وباذيته أي سافهته من السفه ، وبذوت علي القوم وأبذيتهم وأبذيت عليهم : من البذاء وهو الكلام القبيح . أينما تمشي في شوارع القاهرة أصبح من الشائع أن تسمع العديد من الألفاظ البذيئة والسوقية والفاحشة والجارحة في الشوارع المكتظة بالبشر والزبالة ، في الأوتوبيسات، وفي الميكروباصات، وفي التوكتوكات لدرجة أننا تعودنا علي سماع ذلك، بل لقد دخلت غصبا تلك المفردات بالفعل حياتنا اليومية ولوثتها، خاصة وسط شريحة الشباب، المتسكع في ممرات الجامعة بين الأشجار أو الواقف حتي بعد منتصف الليل حول وعلي السيارات علي نواصي الشوارع يستمعون للموسيقي الصاخبة، يحتدون في المناقشات حول أندية ولاعبي كرة القدم وهم يدخنون البانجو . انتشرت هذه المفردات كالذباب علي الزبالة، ولم تعد تلك المفردات البذيئة الفاحشة السوقية السفيهة التي تجرح الأذن قاصرة علي الشباب وعلي سائقي الميكروباصات والتوكتوكات بامتياز ، بل تصاعد الأمر إلي أن أصبح سب الدين (والعياذ بالله ) وإهانة الأم وتسمية أعضائها الجنسية ، لغة سائدة ومتداولة بين شرائح مختلفة من المجتمع ، وساهمت وسائل الإعلام بدورها والتليفزيون بامتياز وفرضت علي المشاهد أن يسمع هذا الكم من الشتائم بالأب والأم في برامجه الحوارية السخيفة والموجهة في الأساس لخدمة بعض الأفراد من رجال المال (وليس الأعمال ) ومحترفي السياسة وصراعاتهم التي لا تعني المشاهد في قليل أو كثير إنما تقوم بتسليته . " هذه البرامج التي توحدت فيها قوة الإعلام وسلطة المال لتصنع خطيئة كبري ضاعت فيها حرمة الكلمة ومصداقية المواقف وأمانة المسئولية وأصبحت سوقا مفتوحة لمن يشتري ويدفع" «فاروق جويدة» وواصلت الظاهرة انتشارها حتي دخلت تحت قبة مجلس الشعب علي يد بعض ممثلي الشعب كقول أحدهم في لحظة خلاف : " أنا مشبوه يا وسخ...... والله ما هسيبك يا وسخ يا حيوان، وحياة أمك ما هسيبك.. ... علي الطلاق من بيتي ما هسيبك» نقلا عن الصحفي ياسر عبد العزيز في جريدة " المصري اليوم " الذي علق قائلا إن هذا " ليس حواراً دار في حارة مأفونة تعاني هيمنة البلطجية وأرباب السوابق، ولا عبارة تضمنها مشهد تمثيلي في أحد أفلام سينما المقاولات الرديئة، لكنه «واقعة برلمانية» ونقل أمين للطريقة التي تعاطي بها أحد نواب مجلس الشعب " مما اضطر رئيس المجلس إلي لفت نظرهم لذلك التجاوز غير المقبول. وبمرور الزمن تطورت الظاهرة تدريجيا وتوسعت واتخذت أشكالا جديدة ، فبعد أن كانت تباغتنا بشكل مفاجيء في الشارع ووسائل المواصلات العامة، اقتحمت مجالات أخري ، وبعد أن كانت معلقة في الهواء ، أصبحت تتجلي في صور مادية ، مكتوبة أو مرئية . وسأذكر هنا ثلاثة نماذج صارخة في فحشها وفجورها ، يبذوا فيها أصحابها علي القوم في مصر بشكل مستمر وبلا خجل : النموذج الأول : في قناة (ميلودي أفلام ) يتم الإعلان علي شاشة التليفزيون عن فيلم قادم وتعرض بعض مشاهد الفيلم الساخنة المليئة حركة وتقتيلا وجنسا مثيرا -- لا بأس ، ثم يتبعه تعليق مكتوب يقول «فيلم عربي.. أم الأجنبي» نقطتان بالعدد قبل كلمة أم الأجنبي !! يترك ملئهما لفكاكة المشاهد وفراسته . أي انحطاط يمكن أن يصل الإعلان إليه أكثر من ذلك ؟ وأي ابتذال وصل إليه مصممو الإعلانات ؟؟ النموذج الثاني : نفس الشركة تأخذ مساحة صفحة كاملة في جريدة (الأخبار-- في 3.2.2010 ) بعد عدم توفيق فريق المنتخب المصري لكرة القدم واستبعاده من المشاركة في بطولة كأس العالم 2010 ، ثم فوزه في الحصول علي كأس بطولة أفريقيا، كتب علي مساحة الصفحة بخط كبير جدا احتفالا بالنصر علي العدو : [ في السنة اللي رفضنا فيها كأس العالم ، كسبنا كأس الأمم الأفريقية ( للمرة السابعة ) بطولات افريقية .. أم العالمية ، ثم توقيع القناة (ميلودي أفلام ) وشعارها وموقعها علي الانترنت «نفس الشركة بنفس المصمم بنفس الأسلوب بنفس العقلية بنفس القصد السوقي البذيء المنحط .( لا يوجد مجال هنا لسوء أو لحسن النية ، فأغلبنا أولاد بلد ، ونعرف جيدا هذا الأسلوب الفج الساذج في التورية والترميز واللفظ الوقح المقصود من ورائه ) النموذج الثالث المنتشر منذ فترة بين أيدي ملايين المدخنين : عبارة عن نص مكتوب ببنط صغير علي علب السجائر بجميع أنواعها التي تنتجها الشركة الشرقية للدخان «استرن كومباني» للتحذير من أضرار التدخين يقول بالحرف الواحد : «احترس التدخين يدمّر الصحة ويسبب الوفاة . الآثار المدمرة للتدخين تصيب المدخن وغير المدخن . «ثم بشكل بارز وببنط أكبر» التدخين لفترة طويلة يؤثر علي العلاقة الزوجية ، ثم صورة بحجم ثلاثة أرباع العلبة علي وجهي العلبة لسيجارة احترق أغلبها حتي قاربت النهاية و ما زال رمادها متماسكا في حالة انحناء أو ارتخاء (رمز فج لعضو الرجل الذكري !! لا يخلو من قبح وفحش غير ضروري) . من الطبيعي أن توضع علبة السجائر تلك في أي مكان بالمنزل وسط أفراد الأسرة من أطفال ومراهقين ومراهقات ، أو في أماكن العمل اليومية وسط الزميلات ، وأتساءل هنا: لماذا الصورة ؟ ألم تكن الجملة المكتوبة فيها الكفاية ؟ أم أن الصورة/الرمز كنوع من أنواع الاستظراف وخفة الظل ، أم كبداية لفتح الموضوع في القعدة ؟ لا أعتقد أن ثقافتنا العامة مهما كانت متحررة في هذا المجال ( مع التأكيد علي أن الفحش الجنسي لا علاقة له بالتحرر من بعيد أو قريب ) لا أعتقد أن ثقافتنا العامة تبيح مناقشة تفاصيل المشاكل الجنسية علي مستوي أسري بهذه المباشرة ، وأري في ذلك تجاوزا سخيفا من المصمم يدعو للاشمئزاز ، بحجة محاربة التدخين وتأثيره علي القدرة الجنسية !! - هذا التناقض الذي لا يخلو من استهتار بالعقول ، ففي الوقت الذي تعمل فيه الشركة علي تحقيق أعلي معدل مبيعات بهدف تحقيق أعلي معدل أرباح ، تحذر المدخن من أخطار التدخين وأثره علي القدرة الجنسية للرجل ، حتي يتوقف عن التدخين! أن تغرقنا البذاءات في الشارع من أفواه الغوغاء السوقة..!! الزعر شيء لا يمكن التحكم فيه ، وليس من اختصاص وزارة الداخلية ، فعندها ما يكفيها ، لكن أن يساهم الإعلام المقروء علي صفحات الجرائد (القومية) والمشاهد علي شاشة التليفزيون في نشر البذاءة ، هذا تجاوز لا يمكن الموافقة عليه ، و من الممكن التحكم فيه بشكل أو بآخر، بل يجب إيقافه فورا ، مهما كان الثمن حتي لا تنتشر البذاءة وتستشري أكثر فأكثر .