كانت السينما بالنسبة لجيل المخرج علي عبد الخالق ، من خريجي الدفعات الاولي لمعهد السينما، تعبيرا جريئا وصادقا عن هموم الواقع، وانعكاسا واضحا لثقافة فنية ثرية وعميقة. كان هؤلاء الفنانون يعتبرون الفيلم وسيلة حقيقية للإرتقاء بذوق ووعي وفكر وثقافة الجماهير من خلال إثارة قضايا جادة تمس المواطن العادي البسيط وتعبر عنه بأكبر قدر ممكن من الصدق والحميمية . ومن خلال فيلم واحد هو( أغنية علي الممر ) من إنتاج 1972، وهو أول أفلام علي عبد الخالق الروائية الطويلة، تأكدت الكثير من هذه المعاني. وتجسدت هذه الأحلام والأفكار المجردة وأصبح المخرج الجديد نموذجا ومثالا كفنان شاب، يختزن في ذاكرته الإبداعية تراث وثقافة وفن شعب عريق، ويسعي من خلال فنه للتعبير عن ذاته وجيله ووطنه وواقعه . كان الفيلم أيضا من خلال مجموعة المشاركين فيه من فنانين شبان أكاديميين متميزين علي قدر كبير من الوعي والثقافة ، تأكيدا علي مسألة الإيمان بقيمة جماعية العمل الفني والتقاء صناعه حول مفهوم صحيح ومتقارب للفن. شارك في هذا الفيلم مجموعة من الفنانين الشبان الجدد الذين أصبحوا فيما بعد من ألمع العاملين في مجالاتهم، ومنهم كاتب السيناريو مصطفي محرم والمونتير أحمد متولي والمنتج المنفذ للفيلم المخرج محمد راضي. كان تعاون هؤلاء الفنانين الجدد وظهورهم معا في عمل واحد تأكيدا علي قدرة أبناء هذا الجيل علي تحقيق النجاح دون وصاية من أحد وبتحرر تام من أساليب سينمائية قديمة وتقليدية ومتكررة. وكان تعبيرا أيضا عن أن المخرج علي عبد الخالق يملك الثقة في ذاته وفي أبناء جيله ويدرك كيف يصنع فيلما متكاملا، يعبر عن نبض الجماهير وروح الوطن الصامد في مواجهة أي فكر إنهزامي، في مرحلة كنا في أشد الحاجة فيها لاستعادة الثقة.. وفي أجواء خيمت عليها ظلال الهزيمة الصادمة منذ عام 1967، إنتشرت فيها دعاوي إنهزامية وسلبية أرادت أن تفرض علي الشعب حالة الخضوع وأن تقنعه باستحالة الإنتصار علي العدو. كان علي أحد فرسان جيل عظيم صنع تيار ومناخ جديد في واقعنا السينمائي لينقذه من حالة من الركود والنمطية. وأكد من خلال فيلمه علي روح الصمود وعلي أصالة وبسالة الجنود من أبناء هذا الوطن في أحلك الظروف. البداية القوية هكذا تمكن علي وزملاؤه بعد سنوات من تنظيم جماعة السينما الجديدة، بكل طموحاتها الكبيرة من تقديم فيلمهم الأول ( أغنية علي الممر ) ليحقق من خلاله أهدافا عديدة للسينما والوطن ..فقد ظلت جماعة السينما الجديدة التي أسسها مع زملائه تتحدث طويلا عن تصوراتها لسينما مصرية تعبر عن مصر الحقيقية وعن آمال شعبها وطموح شبابها، حتي اعتقد البعض ان المسألة لن تتجاوز حدود الكلام، حتي جاء هذا الفيلم ليجسد هذه المعاني بمنتهي القوة والتعبير والتأثير. ولكن مع الأسف فإن هذه البداية القوية بكل ما وازاها من نجاح علي المستوي الجماهيري والنقدي لم تشكل قوة دفع حقيقية للفنان علي عبد الخالق ليحقق مشروعه الثاني بالسرعة المتوقعة . بل علي العكس تأخرت كثيرا خطوة علي عبد الخالق السينمائية التالية. ولكن ليس الأمر غريبا كما يعتقد البعض، فقد كان من الصعب علي هذا الفنان الذي بدأ بهذه القوة والذي شكل فيلمه تعبيرا عن صمود جيل، يسعي للتغيير، ويهدف إلي طرح سينما بديلة غير السائدة، أن يتنازل أوأن يعمل في ظل شروط السوق اللعينة، التي استطاع أن يثور عليها بنجاح في فيلمه الأول. كانت موهبة علي وطاقته الكامنة هي دافعه للإستمرار رغم قسوة الظروف. وفي ظل غياب النص الذي يعبر عن رؤية متكاملة للواقع الجديد كان علي هذا الفنان أن يقدم من حين لآخر أعمالا تعبر علي الأقل عن قدراته الفنية وتعكس رؤي درامية مختلفة لشخصيات منفردة أوحالات إنسانية خاصة بعيدا عن قضايا الوطن وهمومه الإجتماعية. وكانت رحلته الفنية ومجمل أعماله بين الرائع والجيد والمقبول هي إنعكاس لصراع الفنان الحقيقي مع ظروف السوق. وهي تعبير عن محاولات المقاومة حتي آخر نفس والإستسلام المشروط أمام ظروف الواقع الفني حتي يتمكن الفنان بداخله من أن يواصل التنفس ويبقي علي قيد الحياة. المعادلة الصعبة في فيلمه الأشهر (العار) 1982 الذي يحمل رقم ثمانية في ترتيب أعماله وفق تاريخ عرضها إقتحم علي عبد الخالق موضوع المخدرات الذي أصبح ظاهرة إجتماعية خطيرة في تلك الفترة . يناقش علي عبد الخالق في هذا الفيلم بجرأة، وبمستوي فني راق، وبلغة ساخرة متميزة، عددا من المفاهيم الخاطئة والمغلوطة التي يروج لها أرباب تلك التجارة القاتلة . تلك التجارة التي يتستر أصحابها علي جرمهم بدعاوي التدين الكاذب المنافق والمفاهيم المزيفة التي يروجونها في المجتمع عن الحلال والحرام والتي تلقي قبولا في أوساط يحكمها الجهل أوالتردي الثقافي. كان العار حدثا سينمائيا علي كل مستوي..فنجاحه الجماهيري والنقدي الكاسح كان حلا عمليا للمعادلة الصعبة المزعومة عن كيف نصنع عملا فنيا جيدا ومحترما ينجح تجاريا في الوقت نفسه. أكد العمل أيضا علي أن علي عبد الخالق يتقدم تكنيكيا من فيلم إلي آخر. وهويحقق هذا التقدم من خلال سيطرته علي التكوين وضبط أداء الممثل واختياره للزوايا المعبرة وحرصه الشديد علي إيقاعية الصورة والتي تجعله يستكمل المناقشة الواحدة في أكثر من موقع تصوير كوسيلة لكسر الرتابة. فهومن ناحية يقدر ما في الفيلم من حوار قيم ودرامي لا غني عنه، وهوفي نفس الوقت يسعي لتحقيق ديناميكية في الصورة. وتتجلي قدرة علي عبد الخالق في هذا الفيلم علي الإختزال والتكثيف والدخول في قلب الموضوع مباشرة بأسلوب سينمائي بارع منذ البداية. تغييرات اجتماعية وبنفس المستوي من جودة ( العار ) وربما بنجاح أكبر يأتي ( الكيف)1985 ..كلا الفيلمين يتناولان قضية المخدرات..ولكن الفرق بين الفيلمين ليس مجرد سنوات قليلة،وإنما تغيرات إجتماعية سريعة ومذهلة أدت إلي تطور حتي مفهوم المخدرات وأنواعها والنظرة إليها في المجتمع المصري. فلم تعد المشكلة هي مجرد الجانب الأخلاقي أوالفلسفي للمخدرات بمعني هل هي حلال أوحرام، وإنما هي الإنتشار الكاسح لفكرة المخدر نفسه كوسيلة وحيدة للهروب من مشكلات إجتماعية معقدة وإن اختلفت أسباب الهروب نفسه من مدمن إلي آخر..وهوفيلم شخصيات في مواجهة صراع فكري.. حيث نتابع من خلاله زوايا مختلفة للتعامل مع المسألة من وجهات نظر مختلفة، وفي حوار بين أخين أحدهما كيميائي والآخر عازف في فرقة موسيقية لإحياء أفراح . وسوف نري تجارة المخدرات وقد تحول أصحابها من تجار شعبيين لديهم مجموعة من الصبيان إلي مافيا شديدة القوة وعالية القدرة والنفوذ. في هذا الفيلم يواصل علي عبد الخالق تألقه مع الكاتب محمود أبوزيد موظفا حواره الذي يتميز بالدرامية والعمق وخفة الدم في ذات الوقت. ولكن تركيز علي عبد الخالق علي قسوة الأشرار يتزايد مع تزايدهم الفعلي في المجتمع وتعالي نفوذهم. المواجهة والصمود وتستمر رحلة علي عبد الخالق مع الإبداع فيقدم عددا من روائع السينما المصرية ومنها : ( الحب وحده لا يكفي ) (جري الوحوش ) و( أربعة في مهمة رسمية ) و( شادر السمك ) و( البيضة والحجر ). وعلي الرغم من التحولات التي طرأت علي السينما المصرية والتي اختفت معها أوكادت أجيال كاملة وطواها النسيان في عزالعطاء الفني، يستطيع علي عبد الخالق أن يواصل مسيرته الفنية وأن يتواصل مع أجيال السينما الجديدة في كل مراحلها وأن يواصل سعيه نحو تقديم فنه الجاد في أحلك الظروف . ويقدم أعمالا مختلفة عما هوسائد في السوق، ومنها ( يوم الكرامة ) 2005 الذي أعاد فيه للأجيال الجديدة ذكري تدمير المدمرة إيلات في عمل حربي ضخم. وهونوع أصبح نادر جدا في السينما المصرية لما يتطلبه من وقت وجهد ونفقات لا تسمح بها ظروف السينما الحالية. يستطيع علي عبد الخالق أن يحقق هذا الفيلم بإجادة أشاد بها النقاد وخاصة في معركته الكبري الأخيرة والتي جاءت علي أعلي مستوي. سوف يظل علي عبد الخالق رمزا للقدرة علي المواجهة والصمود ووقوف الفن الجاد والجيد في مواجهة الغث والرديء. وعلي الرغم من اتجاهه للمسلسلات التليفزيونية في الفترة الأخيرة، إلا أن هذا الفنان القناص ستظل عينه علي السينما دائما ليطل علينا بتحف جديدة، تؤكد لنا علي أن الفن الجيد هوالذي سيبقي ويستمر دائما مهما كانت الظروف ومهما طال الإنتظار.