لم تشدني كرة القدم قط طوال حياتي، وكم رأيت أن قراءة الكتب، ومشاهدة الأفلام هما الأمران الأكثر متعة، بالإضافة إلي سماع الموسيقي، وتعلمت أن القراءة حدث فردي، بمعني أننا نقرأ وحدنا ونستمتع أيضًا وحدنا، وقد أثارت دهشتي هذه الغريزة الجماهيرية التي تحرك كل هؤلاء الناس وهم يتابعون مبارايات الكرة، خاصة في المسابقات الدولية، ولم أهتم قط بمسألة أن أكسب عداء من يعشقون هذه اللعبة، فأنا أقرب إلي أبطال روايات العبث الذين تتبعتهم من كاتب لآخر، وأعرف جيدًا عدم الانتماء إلي ناد بعينه لن يكسبني، أو يفقدني شيئًا. لكن مشاهدتي لفيلم «واجب منزلي» إخراج كلينت استوود غيرت لي الكثير من المفاهيم، خاصة أنني رأيت الفيلم قبل ساعات من المباراة التي فاز فيها فريق مصر القومي، علي الفريق الجزائري بأربعة أهداف نظيفة، جاءت المشاهدة وسط ظروف غريبة متوترة، أشبه بواحد من الأفلام التي نراها، مسألة تحول، وفهم، أو خلاص، أكثر منه تطهر، فقد كانت مصر قبل هذه المسابقة الإفريقية تشهد حدثًا مأساويًا كاد يعرضها إلي مالا تحمد عقباه، إلا وهو جريمة نجع حمادي التي تركت أثرها في نفوسنا جميعًا، بالسلب طبعًا. ما قدمه كلينت استوود في فيلمه أقرب إلي ما مرت به بلادي في الفترة بين حدث نجع حمادي وفوز مصر بكأس الأمم الإفريقية، وتلك الفرحة العارمة التي شعرنا بها كمصريين، وسوف تبقي آثارها لفترة غير قصيرة. وقائع حقيقية باختصار أحداث فيلم «واجب منزلي» I Nvictus تدور حول وقائع وشخصيات حقيقية فالبطل الرئيسي في الفيلم هو المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا، والأحداث تبدأ في العام الأول من تسعينات القرن الماضي، حيث أعلن دي كليرك، رئيس جنوب إفريقيا الأسبق، عن الإفراج عن مانديلا، الذي أصبح رئيسًا للدولة بعد انتهاء عصر الفصل العنصري (الربارتهايد).. لست من أنصار، أو هواة، حكي قصة الفيلم حين الكتابة عنه، لكن الحكي هنا ضروري للغاية، فمع صعود مانديلا إلي سدنة الحكم، انقلبت الأوضاع في البلاد، وصار عليه أن يغير كثيرًا من السياسات، وكانت أمامه مشكلات اقتصادية عديدة، ولكن الرجل توقف بذكائه عند الفريق الأول لكرة الرجبي، أنها اللعبة الشعبية الأولي في البلاد، وأفراد اللعبة كلهم من البيض المعروفين باسم الأفريكانر، وهناك في الوطن عنصران، البيض (القلة) والسود، لذا، فإن الفريق كان في أسوأ أحواله، بواقع أن الزنوج لا يحبون البيض، وهناك مشهد في البداية يعكس ما وصل إليه الفريق الأول في البلاد، حين رفض طفل أسود فقير أن يرتدي فانلة تحمل شعار الفريق، ولا شك أن هذا الموقف جلب المزيد من الهزائم للفريق، مما لفت أنظار رئيس الدولة الجديد في تلك الآونة. اهتمام مانديلا وجه مانديلا اهتمامه الأكبر إلي الفريق، حاملاً في رأسه أفكارًا لا يفهمها غيره، حيث أحس الزنوج أن جنوب إفريقيا صارت لهم، وبدأت مشاعر الكراهية في التأجج بين البيض والسود، وقد بدا هذا واضحًا في مشاهد منفصلة، منها موقف الأسرة البيضاء التي ينتمي إليها فرانسوا كابتن فريق الرجبي، حيث غذا الأب دومًا بأفكار ومشاعر الكراهية ضد السود لابنه في حواره معه. أما مانديلا فإن أول ما فعله هو أن عين في فريق مستشاريه، البيض والزنوج معا، وذلك ضد رغبة مستشاريه السود، ولم يستمع إلي أصوات المعارضين له، بدا الرجل بسيطًا، وهو يطلب لقاء فرانسوا الذي وصل فريقه إلي هوة سحيقة. وفي لقاء جمع الرياضيين الزنوج، دخل عليهم الرئيس، وقال: نحن أبناء شعب واحد، بيض وسود، أن يحصل الفريق علي كأس العالم القادم، يعني أن تحصل البلاد كلها علي الكأس. هذا هو موقف التحول الذي اتخذه مانديلا، وهو الموقف الذي كان غائبًا عن شخص مثلي، لم يشجع الكرة يومًا، ورغم أن مانديلا لم يحصل علي أصوات كافية توافق فكرته إلا أن رؤيته اتضحت في توحيد أفكار كل أبناء جنوب إفريقيا علي هدف واحد.. هو أن يفوز الفريق القومي بكأس العالم القادم، في عام 1996، حتي وإن كان أعضاء الفريق كلهم من البيض، وإن تم تطعيم الفريق بلاعب زنجي لم يشترك في المباراة لأسباب مرضية. مشاعر الكراهية السيناريو الذي كتبه أنتوني بيكهام عن كتاب من تأليف جون كارلين كان واضحًا للغاية، فقد صور مشاعر الكراهية علي المستوي الداخلي بين عنصري الوطن، البيض والسود، وقد اختار أسرة فرانسوا من الجانب الأبيض، ومسشاري الرئيس الجديد من الجانب الزنجي، أما مانديلا نفسه، فقد نسي لونه، ونيف وعشرين عامًا قضاها في السجن، في غرفة صغيرة، تطل علي محجر، كان يكسر فيه الأحجار، وتذكر أنه إنسان، رجل يحكم الأفارقة بكل ألوانهم، وراح يستقبل الشاب فرانسوا، ويحكي له عن تجربته الطويلة في السجن، وهو يقدم له الشاي باللبن بنفسه ويردد لا أحد ينجح في تمزيقي وأنا أقوم بوظيفتي.. ثم يقول: «يجب أن نلهم من حولنا أن يكونوا في أحسن حالاتهم». ورغم أن الظاهر أن رئيس الدولة يحاول إحياء فريق كرة كي يستعيد البطولات، فإن هدفًا آخر اسمي كان وراء ذلك التشجيع الحار، ليس أيضًا لأن مانديلا كان يلعب الرجبي، حين كان صبيًا، ولكن لأنه يعرف كيف يدير المشهد، فقد استقبل فرانسوا بشكل شخصي، وفردي، لم يحدثه عن البطولات، ولكنه منحه بعض الكلمات، حول قصيدة منحته الأمل وهو سجين، فحدث ما يشبه التوحد بين مصير مسجون سابق، ورئيس فريق منهزم، ومحبوس داخل أجواء من الكراهية والإحباط.. فبدا الرئيس كأنه نجح في هدفه، فلا شك أن فرانسوا سوف ينقل أفكاره هذه إلي فريقه، وإلي أسرته المتعصبة ضد الزنوج، والتي سوف تتعامل بتسامح ملحوظ، فيما بعد، مع الخادمة الزنجية. وطن واحد فيلم «واجب منزلي» شرح لي، وللناس، بكل بساطة أهمية أن يجتمع أبناء الوطن الواحد من أجل هدف واحد، وقد نقل كلينت استوود التجربة، بكل بساطة، ورأينا كيف توحد أبناء الأمة، بكل ما يضمر العنصرين من كراهية، كي تذوب كل مشاعر العنصرية من أجل مناصرة الفريق، وقد حدث تصاعد واضح في هذا التوحد. في المسابقة التي أقيمت بجوها نسبرج، حتي حصلت جنوب أفريقيا علي الكأس، فاستطاع هذا التصاعد أن يلم كل الناس معا، نسوا أنهم زنوج أو بيض، مثلما حدث في مصر. بعد أحداث نجع حمادي، فمنذ المباراة الأولي، وحتي المباراة النهائية، وهناك شيء واحد يشتريه المصريون، يلفونه حول أجسادهم ويضعونه في الشرفات، أويطبعونه فوق الخدود، أو الوجوه، بنات، وصبيان، مسلمون ومسيحيون، أطفال وعواجيز، أنه العلم الذي يرمز إلي الوطن، كانت المباريات التي وصل فيها كأس العالم إلي جنوب إفريقيا، أقوي من مقالات التخفيف من العنصرية، مثلما كانت أهداف الفريق المصري في مرمي الفرق الإفريقية الأخري، أكثر بلاغة من كتابات الصحافة، أو محاولات التخفيف في وسائل الإعلام، أو العبارات الرنانة التي يرددها الوعاظ من الطرفين. فأثبتت كرة القدم، أو الرجبي أن هذا النوع من النشاط الرياضي يمثل ثقافة خاصة، وبلاغة بعيدًاعن الكلمات تحقق أكثر من المرجو منه بدون أي عبارات زاعقة، وأعتقد أنه لولا هذه المباريات التي أطفأت لهيب جريمة وفتنة لكانت مصر تجني أثارها لفترة طويلة. آمال الشعوب في فيلم استوود، رأينا رئيس الدولة يشاهد بنفسه وقائع المبارايات، ترك كل التزاماته، وحضر الافتتاح، وآزر فرانسوا وزملاءه، وأثبت أن الأمنيات وحدها لا تكفي وأن الحماس لا يصنع النصر، وأن علي فريق «الغزلان» أن يحقق آمال الشعب الإفريقي كله. فقد آمن مانديلا أن تشجيع الفريق هو هدف سياسي ووطني في المقام الأول. وأطلق علي التعليمات التي يجب أن ينفذها الفريق والمستشارون هو «الواجب المنزلي». كان مانديلا كابتن الفريق، فريق الوطن في المقام، فهو يعرف أسماء اللاعبين كلهم، وقد أعلن عن حزنه لأن سنستر الزنجي لن يتمكن من اللعب في المباريات، وفي ليلة الافتتاح، لم ينم رغم نصائح الأطباء، ورغم الإجهاد كان قلقًا للغاية، علي مصير تجربته مع فريقه. كأس الأمم الإفريقية الأخير، ومشاهدة فيلم «واجب منزلي» خير درس خصوصًًا أن كرة القدم تلعب دور الفن، من خلال أحداث تطهر حقيقي للناس، يؤدي بهم إلي التوحد معًا، لذا، فإن هذا الكرة لا تتوقف عن الدحرجة فوق النجيل، وكلما تدحرجت أحدثت تطهرًا حقيقيًا، وهذا ما نأمله من ثقافة صار لها مدلول جماهيري، إنساني، حتي وإن أفسدت ما بين بعض الشعوب، لكن لا شك أنها علي المستوي المحلي قد أدت دورًا عظيمًا.