تشهد السينما الهندية الحديثة ميلاد تيار جديد يتحدي بريق المثالية المدهشة لأفلام بولي وود - المنافس الأخطر لهوليوود - حيث يأتي هذا التيار ليخترق تابوهات الرؤية البصرية المألوفة لأفلام الهند، ويتجاوز حدود المفاهيم الناعمة للميلودراما والرقص والأغنيات لنصبح أمام اتجاه مغاير يتبني فلسفة ثائرة تبوح.. وتكشف وتمزق أقنعة الزيف لتروي عن الواقع السياسي والاجتماعي المهزوم بالعنف والفقر وبالجريمة والجنس والمخدرات. كان فيلم الافتتاح في مهرجان لندن للسينما الهندية الذي شهدته العاصمة الأنيقة في الأسبوع الماضي هو «جانجز واسسبور» وهو ملحمة سينمائية مكونة من جزأين، تدور حول مجموعة من الخارجين علي القانون الذين فرضوا سيطرتهم علي بلدة صغيرة يعمل سكانها بالمناجم، تقع في منطقة جركند، وهي منطقة عشوائية، غير شرعية لا يعرفها القانون ولا تعرفه، محكومة بسطوة البلطجة وتسلط الفقر وجموح الجنس واستبداد المخدرات. أما طبيعة التكوين الإنساني في ذلك المكان الوحشي العنيد فقد توافقت مع إيقاعات العذاب العبثي، فهم عبارة عن مجموعات من الشباب والشابات، الرجال والنساء الصغيرات يعيشون معا، ينامون معا، يقضون كل الوقت معا يمارسون الجنس والشذوذ، يسببون المتاعب ويرتكبون الجرائم بجنون. كان الفيلم شديد الوضوح والصراحة في تصوير ملامح وتفاصيل الواقع عبر ذلك الأسلوب الصادم، الذي لا يمكن ظهوره أبدا في أفلام «بولي وود» ذات الرؤي اليوتوبية الحالمة، والأفكار الزائفة عن حياة وحشية قاسية، يطرحها أباطرة مركز صناعة السينما الهندية في مومباي، بصورة براقة تضع العديد من الأقنعة لتمنح الواقع جمالا مراوغا، يخفي حقيقة البشاعة والظلم والفساد. وفي هذا السياق يبعث الفيلم حركة عارمة في اتجاه الكشف عن نفاق المجتمع الهندي الذي يشهد انتشارا واسعا للجريمة والفقر والبطالة والظلم. ويذكر أن هذه الحركة تتسلل إلي الواقع الثقافي والاجتماعي في الهند بهدوء وبشكل غير ملحوظ، فقد كان «جانج» هو الفيلم الهندي الرئيسي الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» هذا العام، حيث أثار ردود فعل عالية، وأشاد به النقاد الذين لم يستطيعوا إلا أن يعشقوا جمالياته ورؤاه الواقعية المبهرة. قطعة فنية في مهرجان لندن السينمائي عُرض أيضا فيلم «جاندو» الجزء الثاني من الملحمة وهو قطعة فنية لافتة تنتمي إلي أفلام الأكشن الموسيقية الغنائية، تميز بأسلوب الحركة العنيفة الوحشية القاسية وبموسيقي الميتال والراب، وهو يدور حول شاب صغير معذب بالهامشية والفقر والضياع، لكنه مشحون بإرادة نارية تفجر في أعماقه رغبات عارمة في الشهرة والجنس، ورغم أن الفيلم عُرض محليا في الهند، إلا أنه تحول بعد المشاركة في المهرجانات الدولية إلي واحد من أهم الأفلام التي تحدث عنها العالم، ولاشك أن هذه السينما الجديدة هي نتاج ورد فعل لنمو الهند بعد انفتاحها الاقتصادي علي العالم. لم يكن أبطال الفيلم من نجوم الشاشة المعروفين لكنهم كانوا شبابا من أصحاب البشرة السمراء، يتحدثون لغة خشنة، يعرفها سكان إقليم «بوجبوري» فقط، فهي لغة إقليمية تختلف تماما عن لغة الهند المألوفة، لذلك يعتبر «جانجز أوف واسسبور» فيلما استثنائيا يخرج عن إطار التيار العام للإنتاج السينمائي في الهند. وقد كانت هذه التجربة من إنتاج شركة «فياكوم» التي يرأسها فيكرام مالهوترا وهو طيار سابق ومثقف بارز يمتلك شخصية متميزة ومقدرة عارمة علي اتخاذ القرارات. أما مخرج الفيلم فهو «أنيوراج كاشياب» الذي يعمل في مجال الهندسة وتربطه صلة الصداقة بالمنتج، ويذكر أن كلا منهما يعمل بعيدا عن سياق مؤسسة «بولي وود» الضخمة. كان التعاون بين المنتج مالهوترا والمخرج أنيوراج كاشياب خصبا ومثمرا، حيث امتلكت تجربتهما السينمائية ثقة قوته خشنة في الذات، اخترقت المسارات لتعكس بوضوح إيقاعات الحياة وطبيعة الناس التقليديين، ونمط العلاقات الجنسية الحارة في الهند، وقد تمت صياغة هذه الحالة عبر تضافر الموسيقي الصاخبة مع أغنيات راقصة مسكونة بالإشارات والتلميحات الجنسية الفاضحة، وأتصور أنه لا يمكن كتابة ترجمتها لاستغراقها في تفاصيل شديدة الابتذال تخرج عن السياق المألوف للمجتمع العربي. كنت أريد بالتحديد أن أكون أمينا.. هذا ما يقوله المخرج كاشياب عن فيلمه الذي يعتبر من أكثر الأفلام الهندية تكلفة، رغم أنه ليس من أفلام النجوم.. ويضيف: إنه اتجه إلي قصة لفتت انتباهه برشاقتها وذكائها وعبقريتها الفكرية والإنسانية وأراد الوصول إلي أقصي درجات المصداقية معها، ومن المعروف أن المخرج أنيوراج كاشياب له تاريخ مضيء مع صناعة الأفلام المتميزة التي تثير ردود فعل عالية، ولعل أشهرها هو فيلم «الجمعة السوداء» الذي أنتج عام 2004، وكان يدور حول تفجيرات مومباي، ويتناول حقيقة الصراعات السياسية وطبيعة الانتماءات العقائدية، التي تؤمن بها بعض الجماعات المتطرفة في الهند، ويذكر أن الفيلم كان قطعة من الفن والوعي والجمال، أضاءت معني الانهيار والجهل، ووحشية الاندفاع إلي القتل والدم حين تنتفي القيم، وتغيب معاني الإنسانية وقدسية الحياة. ردود فعل بعث الفيلم الجديد «جانجز» ردود فعل عالمية مشحونة بالتقدير والإعجاب والطاقات الإيجابية، وقد أدي ذلك إلي سحب السجادة من تحت أقدام الاعتراضات التقليدية داخل الهند علي اختراق الفيلم للتابوهات وعلي أسلوبه في تناول الواقع الاجتماعي، وفي سياق متصل كان مهرجان «كان» مجالا ثريا للاحتفال بالفيلم، وكذلك لعبت الميديا الاجتماعية العالمية دورا في تكثيف الضوء حول المخرج والمنتج وفريق العمل في هذه التجربة الجديدة الثائرة، وكما يقول كاشياب، فإن النقاد المعروفين قد عبروا عن دهشتهم وإعجابهم بهذه التجربة، ولم تكن هناك فرصة أمام النقاد الأخلاقيين ليقولوا شيئا أو يطرحوا نوعا من الإدانة والاعتراضات، وهكذا أصبح الطريق ممهدا أمام استقبال حافل وميلاد جديد لفيلم «جانجز أوف واسسبور» داخل الهند. في الجزء الثاني من الملحمة السينمائية يأتي فيلم «جاندو» كابن شرعي لهذا الزمن الشرس في الهند وغيرها من بلاد العالم الثالث حيث التغيرات السياسية والاقتصادية التي دمرت الكثير من الرؤي والمفاهيم.. ويبدو أن حالة التخبط الاجتماعي التي تبعثها تناقضات المواجهة بين قيم وأخلاقيات الماضي، وبين قيم الواقع الجديد المنفتح بقوة علي العالم، يبدو أن هذه اللحظة العنيدة المتوترة قد امتلكها المخرج بدقة وصنع منها جماليات «جاندو» ونبضاته الساحرة فبطل الفيلم هو «جاندو» الذي يتطابق اسمه مع عنوان الفيلم، والذي نراه شابا مسكونا بمشاعر الحزن والقلق، حياته سفر متصل علي ظهر حصان ضعيف مدفوع بالرغبة العارمة في امتلاك المستحيل، أراد أن يتجاوز عذابات القاع ليقفز إلي القمة ويترك اسطح المنازل وعذابات شوارع كلكتا، ويصبح مطربا شهيراً. كان اختيار تصوير بعض اللقطات بالأبيض والأسود متضافرا مع فلسفة الفيلم متوافقا مع ملامح ضربات الكونغ فو القوية علي أكوام القش، وكاشفا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية وعن إيقاعات التلسط والقهر التي تحكم آليات العمل عبر الاستلاب والاختزال، كذلك اتجه التصوير بالأبيض والأسود إلي اختراق دلالات الأقمشة الواسعة التي ترتديها النساء وعبر نفس الصيغة الضوئية واللونية جاءت المشاهد الجنسية بصراحتها الصادمة لتضعنا أمام وقائع حياة الحضيض ومفارقات الرغبة الإنسانية الجامحة في الاحتفال بالجسد والحياة وقد قامت صديقة المخرج بأداء هذه المشاهد الجنسية. سحر وغموض يشتبك هذا الفيلم مع سحر وغموض الرؤي السيريالية البنغالية ويأتي كمزيج من الدهشة والغرابة التي تميز «جيم جارامش» ومن جماليات العري الجسدي والتوظيف الفني للجنس الذي يميز «ناجيسا أوشيما» وهو في النهاية فيلم لم تر الهند مثيلا له من قبل. لقد كان المخرج يريد أن يتحدي مجتمعه الذي يصفه أنه أخلاقي جدا ولا يزال يتبني قيم العصر ما بعد الفيكتوري، وكان مساره لتحقيق هذا التحدي هو الثقة العارمة بأفكاره والرغبة القوية في الانطلاق نحو خشونة وشجاعة صناع الأفلام اليابانية والكورية مثل «تاكاشي مايك» وغيره.. هؤلاء الذين اتخذوا قرارات إبداعية بنقد مجتمعاتهم وكشف زيفها وتناقضاتها.. رغم أنهم قادمون من الشرق بكل ما فيه من تابوهات ومن أطر مرجعية جامدة. من المؤكد أن الهند واليابان من البلاد التي تشهد انفصالا حادا وفجوات واسعة بين السلوك الاجتماعي وخصوصية الهوية الفردية لذلك جاء الفيلم ليفجر هذه القضية ويثير حولها التساؤلات، وفي نفس السياق كانت التجربة ضربة قاضية لمؤسسة بولي وود السينمائية الضخمة التي لاتزال ترسم صورة الهند المعاصرة بنفس خطوط وألوان صورة أمريكا في السبعينات، عندما عاش الناس في أرجاء الدنيا أوهام الحلم الأمريكي، فتصوروها ثرية ساحرة جميلة محافظة مثالية وواعدة. كان فيلم «جاندو» مثيرا ومغريا لجمهور الانترنت، وتم تحميل مايزيد علي مليون نسخة منه، وفتح القراصنة سوقا غير شرعية للفيلم وباعوه علنا وبوضوح وقد حصل الفيلم الآن علي استثناء حكومي من دفع الضرائب، وسمح بعرضه في المهرجانات الهندية، كما أنه فتح المسارات أمام جدل خطير حول الرقابة وحرية الإبداع ويذكر أن النجمة الهندية «تانيشسا كاتيرجي» قد أعلنت ملاحظاتها حول موجات التحذير من الحرية الجنسية الجديدة، وقدمت نقدا تحليليا ساخراً للظلم الناتج عن النمو الاقتصادي للهند، كما أدانت الرؤية الذكورية التي تحكم المجتمع بشكل عام وصناعة السينما بشكل خاص حيث لايزال مخرجو «بولي وود» يؤمنون بضرورة تصوير الممثلات بالبكيني، مع تركيز عدسات الكاميرات علي صدورهن العارية، وتضيف أنه ليست هناك حرية حقيقية في الفن الذي يقدم المرأة باعتبارها رمزا جنسيا فقط، والسينما التي تضع النساء علي هامش الأحداث هي سينما ناقصة مضللة. تضيف «تانيشسا كاتيرجي» أن هناك انقساما مخيفا بين محتوي التليفزيون والسينما في الهند حيث يتجه الخطاب التليفزيوني بالكامل إلي جمهور النساء، لأنه يتبني فلسفة رجعية وفكراً ذكوريا يؤكد أن النساء الآن يجلسن في البيت لمشاهدة التليفزيون بينما يخرج الرجال ليشاهدوا أفلام البورنو. الجارديان ويكلي الكاتب ألفريد سيريل