يفضل بعض المتخصصين إطلاق تعبير ثقافة النيل.. علي الثقافة المصرية خاصة في جانبها الشعبي.. باعتبار أن كثيراً من التعبيرات الشعبية اتصلت بالنيل إلي حد ما وكذلك الأمثال التي يتداولها الناس في مصر - فبسببه استمرت الحياة علي طول الوادي وكثير من الأحداث الكبري في مصر علي طول تاريخها ارتبطت بالنيل بشكل مباشر وغير مباشر- فعلي سبيل المثال إذا حزن أحدهم شرب من النيل وإذا فرح فان سعادته تكون «24 قيراط» إذا جاء الفيضان وزوج المصري أبناءه وبناته وإذا انجب رفع يده إلي السماء داعيا ان جاءه مولود رمي خلاصه في مائه الجاري، وإذا مات طلب شربة منه قبل أن يلقي ربه وفيه تسكن الجنبات وإليه ينجذب السحر بالأعمال السفلية.. وفي مائه العذب لحم طري من البلطي والقراميط، علي شطئانه يحتفلون بالوفاء وشم النسيم والنيروز ولزيادته يلقون العرائس البكر وبزيادته يدفعون الضرائب لساكن القلعة «الحاكم» انه وبحق العلامة المتبع بتعبير «رولان بارت» في كتابه «إمبراطورية العلامات» ويضيف المؤلف: كان أول ما شغلني بظاهرة النيل أمر خارج حدود مصر الثقافية، بل ان الملمح السياسي كان حاضرا وبقوة عند تأملي للأحداث عام 1956 إبان تأميم قناة السويس لأسباب عدة وليست فقط سياسية أولها: باعتباره نهراً جامحاً يأتي كثيرا ويغيب قليلا، لكنه حين يأتي يغرق القري إلا مساحة قليلة منها وحين يغيب تجف الحياة وتقف علي حافة العدم وبين الحالتين يقف أهل مصر حاكمين ومحكومين بلا حيلة انتظارا لرحمة الطبيعة. ان النظام الثوري الحاكم في مصر منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين أراد إحياء فكرة قديمة جدا منذ الحسن بن الهيثم في عهد «الخليفة الحاكم» وهي تراود بعض من تولوا أمر مصر، لذا فقد أراد عبدالناصر - كمن سبقه- السيطرة علي جموح هذا النهر ببناء سد كبير علي النيل يحمي المصريين من طوفانه ان هو جاء من جفافه ان هو أخلف، ولذا يضطر عبدالناصر لتأميم قناة السويس لتوفير الدعم المالي اللازم بعد رفض الصندوق الدولي المساعدة. يدفع هذا التصرف انجلتر وفرنسا القوتان الأعظم وقتها لاستخدام القوة لاسقاط النظام الناصري وعندما يفشلان تكون النتيجة نزولهما معا من فوق قمة العالم لتصعد مكانهما قوتان أخريان هما «الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي». وأيا كان الرأي في الربط السابق الذي رأيته فلاشك في أهمية النيل ومحوريه في الثقافة المصرية خاصة في بعدها الشعبي سواء من حيث كونه المصدر الأساسي للحياة في هذا الوطن أو من حيث علاقته الوثيقة بكثيرجدا من الحرف التي يحترفها المصريون طوال تاريخهم.. وأخيرا من حيث علاقته الوثيقة بالاستقرار السياسي والاجتماعي علي حد سواء. كانت هذه مقدمة كتاب «فولكلور النيل» الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب، من تأليف هشام عبدالعزيز وتضمن أربعة فصول هي «حرف النيل، معارف ومعتقدات وعادات النيل، سرد النيل، تعبيرات وأمثال النيل». حرف النيل كان النيل طليقا حرا يفي بوعده كل عام.، يضمر الأرض بالماء والناس بالفرح والأمل في غد وفير، كان النيل طليقا وكذلك كان المصريون يأتي كل عام بالماء والطمي ويترك وراءه القمح والقطن والحبوب والأسماك. كم فرح المصريون بقدومه، وكم طلبوا منه أن يمكث طول العام، كم كانوا يحزنون مع رحيله بعد شهر مسري ولهذا حاولوا السيطرة عليه كثيرا لكنهم لم يفلحوا حتي مطلع القرن العشرين وبالتحديد في 14 مايو 1964 . وكان ذلك سبباً رئيسياً وراء اندثار مجموعة من الحرف المتصلة بنهر النيل بشكل أو بآخر وليس حصار النيل علي هذا النحو إلا مقدمة، بل أقول سببا مباشرا لانحصار هذه الحرف وتراجعها. أكثر هذه الحرف الزراعة وهي أكثرها تأثرا كذلك، حيث قلت الأراضي المزروعة لصالح ازدياد الأماكن المأهولة بالسكان علي الرغم من أن المنتظر كان عكس ذلك وفي الحقيقة زادت المساحة المزروعة في مصر بعد بناء السد العالي، لكن تقلصت المساحة المزروعة في الوادي لصالح المباني التي زادت يوما بعد يوم، وإذا كانت الزراعة قد تغير شكلها وطبيعتها بل وأدواتها كذلك، فان هناك حرفا كانت أشد تأثراً. صناعة الطوب اللبن تعد صناعة الطوب اللبن من الحرف التي انحسرت مع بناء السد العالي وتوقف الفيضان السنوي للنيل وكان يصنع من الطمي الذي يأتي سنويا دون أن تتأثر الأرض الزراعية بنقصان التربة حيث ظل الفلاحون يبيعون الطمي لورش الطوب حتي وقت قريب قبل أن تشرع الدولة في الثمانينيات من القرن الماضي قانونا يجرم تجريف طمي الأرض، فلم يعد أمام أصحاب مصانع الطوب غير الاعتماد علي «الطفلة» لإنتاج الطوب. المعداوي والمعداوي هو ذلك الذي يقوم بنقل سكان الجزر من وإلي أماكن سكنهم عبر مركب صغير في الغالب ويسمي «المعدية» ويسمي أيضا المعداوي، وقد زادت أهمية هذه المهنة قليلا بعد بناء السد العالي حيث لم تعد الجزر الكثيرة داخل النهر تغرق في أوقات الفيضان، بل أصبحت القري مجاورة لتلك التي علي حافة النهر من شرقها أو غربها بها لا يفصلها عن بعضها البعض إلا بضعة أمتار من المياه يجتازها سكان الجزر عن طريق المعدية. الصباغة وهي حرفة تعتمد علي زراعة نوع من النباتات هو نبات النيلة، حيث يذكر الرحالة جون أنيتس أن المصريين يحصدون أنواع الحبوب عادة قرب نهاية شهر إبريل وتظل الأرض محتفظة بكثير من رطوبتها حتي أنه بعد الانتهاء من حصاد القمح يصبح في الإمكان زراعة النيلة في نفس الحقول والنيلة محصول اختفي تماما وهو نبات ينتمي إلي إحدي فصائل القرطم البري وكان أحد المحاصيل التسويقية، حيث يستخدم في صباغة الثياب الحريري منها علي الخصوص. صيد الأسماك الصيد من الحرف المرتبطة بنهر النيل وجودا وعدما وبكثرة تقلب أحوال النهر - عام إلي عام- فقد ابتدع المصريون وسائل شتي للصيد منها ما يعتمد علي القوارب ومنها ما يعتمد علي الغوص تحت ماء النهر ومنها ما يعتمد علي المشي في المجاري المائية غير العميقة. معارف ومعتقدات وعادات النيل تظهر موتيفة الماء في كثير من المعتقدات الشعبية في المجتمع المصري، بل وفي المجتمعات الإنسانية عامة إنهم يرشون الماء «المقري عليه» علي الأرض ملغمة بالأعمال السفلية ليخطو من فوقها المقصود بالضرر، فيتلبسه ما يتلبسه من الكائنات السفلية التي تحول حياته وحياة أسرته إلي جحيم اجتماعي، وقد يقرأون علي الماء ويرشونه في وجه عدو، وهو ما وجدت أثره في المرويات التراثية، حيث أشارت إليه إحدي حكايات «ألف ليلة وليلة» التي وردت في أول الليلة الثالثة وهي حكاية صاحب البغلة الذي سافر وغاب عن زوجته سنة كاملة ثم عاد فرآها في الفراش مع عبد أسود، فلما رأته قامت إلي كوز فيه ماء فتكلمت عليه ورشته وقالت: إخرج من هذه الصورة إلي صورة كلب فصرت في الحال كلباً فطردتني من البيت، لكن الماء قد يكون علاجا من بعض الأمراض حتي أن صاحب البغلة هذا لم يخلصه من السحر بالماء إلا عمل مشابه لقد أخذه الجزار إلي بيته وحينما رأته بنت الجزار غطت وجهها وقالت لأبيها أتجيء لنا برجل وتدخل علينا به، فقال أبوها: أين الرجل؟ قالت إن هذا الكلب رجل سحرته امرأة وأنا أقدر علي تخليصه، فأخذت كوز فيه ماء وتكلمت عليه ورشت علي الكلب قائلة أخرج من هذه الصورة إلي صورتك الأولي فعاد الرجل إلي صورته. النيل في كتب التفسير القرآني النيل كنهر معروف لم يذكر صراحة في النص القرآني، لكنه ذكر في كتب التفسير مرتبطا بشكل يكاد يكون كاملا بقصة نبي الله موسي عليه السلام وفرعون. النبي موسي والنيل علي الرغم من أن النص القرآني لم يصرح بأن أم موسي ألقته في النيل مثلا فان المفسرين جميعهم لم يجدوا أشهر من النيل في مصر ليكون هو اليم الذي قذف فيه موسي وهو في تابوته لم يتجاوز الأشهر الأولي من عمره، إن هذا الربط بين اليم والنيل هو ماجعل قصة موسي وفرعون في مصر ترتبط عند المفسرين العرب بين النيل ارتباطا وثيقا وهو ما أدي أيضاً إلي شبح تفاصيل معدودة حول القصة القرآنية يكون للنيل النصيب الأوفر منها، فقد حكوا مثلا أن لفرعون مجلسا دائما يجلس فيه كل يوم علي شاطئ النيل. النبي الآخر الذي ارتبط ذكره بالنيل هو النبي يوسف الصديق وقد جاء ذكره متراوحا بين عنصرين الأول: أنه حفر مجموعة من الترع لتعظيم الاستفادة القصوي من مياه النيل، وذكر صاحب النجوم الزاهرة أن أول من قاس النيل يوسف الصديق ابن يعقوب نبي الله عليه السلام، وذكر أيضا أن أهل الفيوم شكوا يوسف الصديق ان النيل لا يصل إليهم فبني سدا في وسط النيل وجعل أسفله قنوات زجاج تسد هذه القنوات إذا أرادوا أن يفيض الماء ويصل إلي الفيوم فإذا ما اكتفت الفيوم من الماء تفتح هذه القنوات فيمر الماء منها ليسقي ما يفي من أرض مصر مما يلي الفيوم. المخاضة هي ما يتخلف عن انحسار النيل بعد الفيضان إذ بعد ما ينحسر النيل نتيجة ظاهرتين إحداهما في الماء وهو الجزر والأخري في البر أو في الأماكن المرتفعة عن مجري النهر وهي البرك أو المخاضة، وقد كانت البرك في مصر حتي بناء السد العالي كثيرة جدا وحولها نسج المصريون حكايات الجني والعفاريت ليخيفوا صغارهم علي ما يبدو ثم نسوا الهدف من نسجها وصدقوها فصارت من معتقداتهم. المهم أن الوعي الشعبي استخدم البرك بلفظ المخاضة والمخاضة بركة، لكنها ضحلة بعض الشيء وقد استخدم المصريون لفظ المخاضة في أمثالهم وتعبيراتهم الشعبية للتعبير عن دلالات مختلفة، فيقولون مثلا «جس المخاضة» باستخدام جس كفعل ماضي وليس كفعل أمر ويريدون أنه ذهب واستطلع الأمر والتعبير هنا يحمل إشارات سيميوطبيعية، فالمخاضة ليست مجرد ماء تجمع في منخفض الأرض لكنه ماء أنسي لا يبين قاعه وليس بمستطاع معرفة مدي عمله إلا بعد النزول فيه أو جسه بعصا أو عود من الخشب وهنا يصبح تعبير جس المخاضة هو الأكثر ملاءمة لمن يريد استطلاع أمر مجهول لديه.