ربما يعطل الزمن وتؤجل الأيام تحقيق رغبة كامنة داخل الانسان وأمل بات تحقيقه دربا من الخيال في خضم مهام حياتية أخري تشغل صاحبها وتبعده عن الفعل والتفاعل في الاتجاه الصحيح الذي كان يأمل السير علي منواله يوما ما أو منذ نعومة أظفاره - لكن هذا لايعني بالطبع قلة الحيلة أو العجز أو شلل الذاكرة في أن تحتفظ بحقها في تخزين الرغبة الي أن يجيء يوم يفرض فيه صاحبها وجودها علي السطح والاعلان عن نفسه في مجال الفن والابداع، وهنا تكمن القدرة علي الاصرار والمثابرة والامساك بالفرصة لتحقيق هذه الرغبة مهما طالت سنوات العزل والإبعاد. حضور متميز نحن أمام رجل من هذا النوع المثابر القوي العزيمة والذي لم يفقد الأمل يوما ما في أن يعتلي خشبات المسرح ويقف أمام كاميرات السينما والتليفزيون، ليفرض وجوده وحضوره المتميز كواحد من قلائل من احترمناهم في مجال الكوميديا في مصر، واثبتوا في شموخ أنهم يستحقون عن جدارة أن نذكرهم أحياء أو أمواتا بحب وباعتراف بموهبتهم وعطاءاتهم للفن. الممثل القدير "يوسف داوود" الذي رحل في صمت ودون ضوضاء أو مقدمات عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما، هو واحد ممن أضافوا لفن الكوميديا في مصر شكلا محترما في الأداء التعبيري الرصين الذي ينبع من "كوميديا الموقف" البعيد عن الكلمة المسفة أو الخارجة علي النص أو التي تتعارض من الناموس الإنساني أخلاقيا أو لفظيا 000 تميزت مفردات حواره بالاتزان والعفوية والخصال ذات القيمة الفنية العالية، التي تهدف الي تحقيق المعادلة الصعبة في فن الكوميديا من حيث المتعة ورسم البسمة الراقية علي شفاه المشاهدين لأعماله في السينما وعلي شاشات التليفزيون وخشبات المسرح، وقيمة الكلمة التي تخبئ الكثير من النقد الاجنماعي لمشكلات الناس ومعانتهم في مصر. والغريب أن هذا الرجل السكندري الذي يتحلي علي المستوي الانساني بدماثة الخلق والموهبة الحقة بدأ مشواره مع االسينما والمسرح والتليفزيون بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، وهو يشغل مركزا مرموقا كمهندس للكهرباء في احدي هيئات الدولة، وبعد أن حقق علي المستوي العائلي درجة من الاستقرار كانت كفيلة بأن تبعده عن التفكير في خوض تجربة العمل بالفن، الا أنه آثر أن يحقق رغبه كامنة وحلم داخله تطلع لتحقيقه منذ عشرات السنين، فحزم أمره واستقال من وظيفته ليمارس هوايته ويدخل معترك الأداء التمثيلي. ولما واتته الفرصة تمسك بها وتمكن من الإمساك بتلابيبها وظل وافيا لمهنته الجديدة، التي تفرغ لها تماما ليثبت لنا ولنفسه أنه لم يخسر الرهان، وبالفعل فقد أضاف بشخصيته المتميزة التي أضافت للكوميديا في مصر كوميدينا من نوع ندر وجوده في السينما أو المسرح أو التليفزيون المصري، فقد حباه الله بتركيبة جسمانية مميزة وصوت نتعاطف معه عند سماعه وضحكة غاية في النبل والصدق وأداء بسيط يوحي بأننا أمام شخصية جاءت من قلب مصر لا تكلف فيها ولا اصطناع. وكانت بدايته في السينما عام 1985 وظل مخلصا لها ولفنه طوال سبعة وعشرين عاما حتي بلغت مشاركاته مايزيد علي المائة عمل، منها حوالي أربعين فيلما سينمائيا، وأكثر من ثلاثين مسلسلا تليفزيونيا وعدد من المسرحيات المتميزة 000 في السينما كان للزعيم "عادل امام" نصيب الأسد في مشاركته لأشهر أفلامه التي بدأها بفيلم "كراكون في الشارع" عام 1986 اخراج "أحمد يحيي" قي دور يشير الي أنه صاحب موهبة من نوع خاص حتي جاء به الزعيم في العام التالي ليشاركه فيلم "النمر والأنثي" اخراج "سمير سيف"، الأمر الذي لفت اليه نظر المخرج المتميز "رأفت الميهي" ليشارك في فيلمه "السادة الرجال". ولما شعر "الميهي" بقيمة هذا الفنان عمل معه عام 1988 في فيلم "سمك لبن تمر هندي" وفي العام التالي مع "رأفت الميهي" أيضا عمل معه فيلم "سيداتي سادتي" 000 ثلاثة أفلام متتالية حرص "الميهي" علي أن يكون "يوسف داوود" قاسما مشتركا فيها، مما يمثل اعترافا بموهبة هذا الرجل وأدائه المتميز. إعجاب الزعيم وكما أسلفنا كان الفنان "عادل إمام" من أشد المعجبين بأداء القدير "يوسف داوود" وكان للأخير نصيب وافر لمشاركة الزعيم في أشهر أفلامه ومنها (إضافة لفيلم كراكون في الشارع): "سلام ياصاحبي" عام 1986 اخراج "نادر جلال"، "حنفي الأبهة" عام 1990 اخراج "محمد عبد العزيز"، "الإرهاب والكباب" عام شريف عرفة، "بخيت وعديلة" عام 1995 اخراج "نادر جلال"، "أمير الظلام" عام 2002 اخراج "رامي امام"، "عمارة يعقوبيان" عام 2006 اخراج "مروان حامد"، "مرجان أحمد مرجان" عام 2007 اخراج "علي ادريس"، "حسن ومرقص" عام 2008 اخراج "رامي امام"، وآخرها فيلم "بوبوس" عام 2009 اخراج "وائل إحسان". وفي تنوع وعطاء سينمائي مميز قدم الفنان المهندس "يوسف داوود" مع العديد من المخرجين المميزين أفلاما كان في كل منها أحد دعائم نجاحها علي المستويين: التجاري والنقدي ونذكر منها: "الذل" عام 1990 اخراج "محمد النجار" مع الفنان "يحيي الفخراني" والنجمة "ليلي علوي"، "فيلم هندي" عام 2003 اخراج "منير راضي" في أحد أهم أدواره "عم ابراهيم" حيث كان الأب المسيحي المؤمن الذي يرتاح لصوت "النقشبندي" ويعشق التواشيح الدينية ويعزف موسيقي "عبد الوهاب"، وبهذا فهو يقدم مثالا راقيا وحقيقيا لوحدتنا الوطنية المهددة من قبل المتزمتين بالتفسخ والانهيار. ومع المخرج الكبير "محمد خان" في فيلم "في شقة مصر الجديدة" عام 2007، و"عسل أسود" عام 2010 اخراج "خالد مرعي" مع النجم "أحمد حلمي"، "365 يوم سعادة" عام 2011 اخراج "سعيد المارق"، وأنهاها بفيلم "يانا يا هو" العام الماضي 2011 اخراج "تامر بسيوني" 000 وفي كل منها فرضت موهبة الفنان المهندس "يوسف داوود" علي العديد من مخرجينا الكبار والمتميزين مشاركته وحضوره ضمن نجوم السينما المصرية من الشباب والكبار. عروض حية وفي المسرح قدم "يوسف داوود" عددا من المسرحيات كان الأكثر شهرة منها مع الزعيم "عادل امام" وهي تحديدا: "الواد سيد الشغال" عام 1993 اخراج "حسين كمال" ، "الزعيم" عام 1998 اخراج "شريف عرفة"، ومسرحية "بودي جارد" عام 1999 اخراج "رامي امام"، الي جانب العديد من المسرحيات التي تؤكد موهبة الفنان "يوسف داوود" علي خشبة المسرح أمام الجمهور في عروض حية، كان آخرها مسرحية "حباك عوضين تامر" عام 2010. ولم تحرم الاذاعة من عطاء هذا الفنان الذي قدم لها مسلسلي: "عالم رغم أنفه" عام 2009، "شغل عفاريت" عام 2010. ليثبت موهبته خلف ميكروفونها، وهنا يبرهن علي أنه الفنان الشامل الذي يستطيع توصيل أدواره للمشاهدين أو المستمعين بحرفية واقتدار. وقد تعددت الأعمال التي قدمها "داوود" للتليفزيون بين المسلسلات والسهرات وحلقات "السيت كوم" أكثر من خمسين عملا، جاءت لتضيف لأعماله الفنية رصيدا هائلا من العطاء المتميز، ولعل أبرزها: "أين عقلي" عام 2002، "جحا المصري" في نفس العام، "سفير النوايا الحسنة" عام 2007، "العمدة هانم" عام 2008، "شط إسكندريه" عام 2008 أيضا، "ابن الأرندلي" عام 2009، "عصابة بابا وماما" عام 2009 أيضا، "الزناتي مجاهد" عام 2011 . رحل "يوسف داوود" بجسده، لكن تبقي أعماله وعطاءاته للفن في مصر علامات وتجارب ودروس في كيفية الأداء الراقي، ونماذج لكوميديا راقية بعدت عن إسفاف الكلمة وعبط الموقف، فهل ننساه؟