في أحد التحقيقات المنشورة بجريدة القاهرة قبل عدة أسابيع عن سور الأزبكية وعلاقة المثقفين والكتاب به وذكرياتهم عنه، سألت الناقد الدكتور مدحت الجيار عن كتاب نادر حصل عليه من سور الأزبكية القديم وقال لي وقتها إنه يعتز باقتنائه كتاباً اسمه " حاضر المصريين" لمؤلفه محمد عمر من مستخدمي مصلحة البوستة المصرية. وكان سر إعجاب الجيار بالكتاب انه صدر للمرة الأولي عام 1902 وكأن كاتبه يتحدث عن أحوال مصر واهلها وعاداتهم وتقاليدهم في 2011 ( وقت نشر التحقيق بالجريدة) وحكي لي قصة نشر الكتاب ومدي تأثره بكتاب آخر ترجمه أحمد فتحي زغلول عام 1899 اسمه " سر تقدم الانجليز السكسونيين" وطلبت منه الحصول علي النسخة الموجودة لديه لتصويرها أو علي الأقل قراءتها وفي نفس اليوم تقريبا وقعت عيني علي كتاب "حاضر المصريين أو سر تأخرهم " في طبعة جديدة عن سلسة ذاكرة الكتابة بالهيئة العامة لقصور الثقافة، والمؤلف هو نفسه محمد عمر من مستخدمي مصلحة البوستة المصرية، مع دراسة عميقة ومقدمة تفصيلية للدكتور مجدي عبد الحافظ، المفاجأة جعلتني أقتني نسختين من الكتاب، واحدة بالطبع لي، والثانية كانت للدكتور مدحت الجيار الذي للأسف لم يحصل عليها حتي الآن، ولا اعرف متي سيحدث هذا. وكتاب محمد عمر فريد في موضوعه، خاصة حين نعلم انه قد نشر للمرة الأولي في عام 1902، ولا نعتقد ان كتابا مصريا آخر قد وضع بنفس هذا المنهج المحكم الذي اعتمد علي البحث الميداني والمنهج الاحصائي ومهتما بالتفاصيل الدقيقة التي اهتم بها كتاب محمد عمر "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" فقد نجح المؤلف أن يجعلنا نعيش أجواء تلك الفترة بكل دقائقها وألوانها وروائحها وأفكارها الشائعة متضمنا عددا من الشواهد التي نعيشها اليوم في سنة 2012 وبعد مرور عام كامل علي الثورة المصرية، ومنها سطوة اللغات والأنماط والأسماء الغربية، ووضع المرأة في المجتمع وقضية الحجاب، وقضايا الأحوال الشخصية المتعلقة بها، وقضايا التطرف، وتكفير الرأي الآخر، والوحدة الوطنية والتعليم، وهو ما يجعلنا نتساءل: ألم تتغير مصر منذ أكثر من مائة عام وعشرة؟ في دراسته ومقدمته التي سبقت عرض كتاب محمد عمر، يقول الدكتور مجدي عبد الحافظ : في أعقاب انتكاسة الثورة العرابية واحتلال مصر سنة 1882، أصبحت البلاد مهيأة أمام الأجانب، وبدون مقاومة تذكر لعمليات النهب المنظم، فقد اعتلي الأجانب المناصب الكبري في الإدارة المدنية، وأصبحت محلاتهم تملأ شوارع المدن المهمة وعلي الأخص في القاهرة التي أصبحت مركزا للإدارة الاستعمارية ولكبريات الشركات والمنشآت الأجنبية، وفي الأسكندرية وبورسعيد. كما برزت أحياء خاصة للأجانب، وساعدت الامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم، علي انشاء المحاكم المختلطة التي دعمت تميزهم وسيادتهم علي المصريين. هذا الواقع المرير جعل الوطنيين يمقتون سلطة الاحتلال، إلا ان المثقفين منهم وكان لهم تراث في التعامل مع الغرب الأوروبي، وذلك منذ أول صدمة حضارية فرضت علي أسلافهم، وفي عقر دارهم يوم أن قرر بونابرت في عام 1798 قطع الطريق علي الجحافل البريطانية للهند باحتلال مصر، فقد وقفوا وجها لوجه أمام حضارة جديدة جعلتهم يقارنون ما وصلوا إليه بما وصل إليه غازيهم السيد الجديد علي بلادهم . حتي أنهم في النهاية نسوا بهذه المقارنة نموذجهم المحلي الواعد، وأخذوا يتطلعون إلي النموذج الجاهز القادم مع غازيهم . سر تقدم الإنجليز السكسونيين تأثر محمد عمر في كتابه بترجمة أحمد فتحي زغلول (شقيق الزعيم سعد زغلول) لكتاب إدمون ديمولان " سر تقدم الانجليز السكسونيين" الذي نشر لأول مرة سنة 1899، وقدم زغلول ترجمته بمقدمة تقع في 47 صفحة ذكر فيها أوجه الشبه بين الأمة الفرنسية والمصرية في كثير من العادات والأخلاق والأفكار غير " ان الصغيرة لديهم كبيرة لدينا والاستثناء فيهم قاعدة عمومية عندنا " وفتحي زغلول يعي تماما أهمية الكتاب، وحاول من خلال ترجمته بث رسالة ذات أهمية لمواطنيه، وهي أن يحفزهم للانتباه إلي عوامل تراجعهم وانحطاطهم "ويحتاج سر تقدم الانجليز السكسونيين في مطالعته إلي دقة نظر وروية حتي لا يفوت الغرض المقصود لنا من ترجمته وهو تنبيه الفكر إلي أسباب ما نحن فيه من التأخر والانحطاط" فقد عاب المترجم علي الجرائد المنتشرة في عصره عدم اهتمامها بنشر الفضيلة ونبذ الرذيلة، واهتمامها بما لا يفيد، وعدم حثها للأمة علي النافع وترغيبها فيه، حتي تتخلص الأمة من أمراضها، وتتعرف علي مواطن الضعف حتي يسهل معرفة الدواء، وهو يعترف بتخلف أمته عن الغربيين في مجالات الزراعة والتجارة ويعيب عليها ضعفها في العلم واقتصارها فيه علي ما يتصل بالدين، ولذا فهو يتساءل " أين فينا المؤرخ والنباتي والطبيب والكيميائي والمهندس والطبيعي والأديب والمنطقي واللغوي وعالم الأخلاق والحكيم والفلكي وعالم الزراعة وغير هؤلاء ؟! نعم نحن لا نعدم نفرا منهم ولكنهم قليلون بدليل انه لو كان عندنا منهم عدد يكفينا لما وجد الأجنبي بيننا علي هذه الكثرة التي نشاهدها لأنه ما كان يجد عندنا ذلك المرتزق الفسيح". محمد عمر كل ما نعرفه عن محمد عمر أنه من مستخدمي مصلحة البوستة المصرية، وهو ماجاء علي غلاف الكتاب، وشخصية محمد عمر غير معروفة علي الاطلاق في هذا العصر ولم يذكره أحد، ونجهل كل شيء عن حياته، وليست له كتابات اخري غير هذا الكتاب، ويضيف الدكتور مجدي عبد الحافظ " بالدراسة المتأنية لكتاب محمد عمر يتضح انه ينتمي للطبقة الوسطي، وليس للطبقة العليا التي كان ينتمي لها فتحي زغلول، علي الرغم من ان محمد عمر ينتمي للخط السياسي الذي كانت تمثله صحيفة الجريدة، وخط حزب الأمة الليبرالي، كما نفهم من فقرات الكتاب. أهمية الكتاب ويري صاحب الدراسة والتقديم أن اهمية كتاب محمد عمر" حاضر المصريين أو سر تأخرهم" تكمن في معالجته غير المسبوقة لحياة الناس في مصر، فقد استطاع أن يضع يديه علي مواطن ما أسماه بالداء التي يعيشها، ويتنفسها، ويفهم دواعيها وأسبابها، كما يعيها كمواطن مصري. لم تكن دراسة محمد عمر دراسة باهتة، أو سطحية او فاترة، مثلما بدت بعض دراسات المستشرقين في عصره. فالهدف من هذه الدراسة أصبح ربما لأول مرة علي يديه لا المعرفة المجردة، ولكن تجاوز سلبيات الواقع للانطلاق نحو النهضة المأمولة لأبناء وطنه من المصريين . لقد بدت النزعة الوطنية المصرية جلية واضحة في هذا الكتاب، وكان الحماس سمة أساسية من سماته، وحرارة الهم الذي يؤرق محمد عمر كمواطن مصري مثقف يزيد من حجم همته وبحثه واستقصائه، واحصاءاته . ويؤكد مجدي عبد الحافظ أن محمد عمر في كتابه استطاع ان يضع الباحث المدقق في أي من موضوعات البحث العلمي في أجواء مصر سنة 1902 : عاداتها ومعتقداتها وسلوك أبنائها في الزواج والطلاق والأفراح والمآتم والتربية والتعليم والاقتصاد والثقافة السائدة، والصحافة، وفي ممارساتها الدينية، وعلاقات الطوائف بعضها ببعض، وأنشطة اهليها الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والفنية . لم يكن نجاح كاتبنا يعود إلي ما قد استطاع ان ينقله من انطباعات إلي الباحث في طبيعة الحياة في هذا الوقت، لكن نجاحه يكمن في قدراته علي رصد مظاهر الواقع من خلال أرقام واحصاءات وبيانات دقيقة، مما نقل مستوي الانطباع الشخصي إلي مستوي الصورة الحقيقية لما كان عليه الواقع عليه بالفعل . وهناك أهمية أخري لإعادة نشر هذا الكتاب، تتصل بتشابه المناخ الذي نعيشه اليوم مع المناخ الذي ظهر فيه هذا الكتاب لأول مرة . فإذا كنا اليوم نشعر بأسباب تراجعنا الحضاري أمام الغرب، وسيادة المفاهيم والأنماط الغربية في حياتنا وتحكم الغرب في مصائرنا ومقدراتنا وثرواتنا، فقد كانت هذه هي ذات هموم مؤلف الكتاب، وكان قد نشره في أعقاب سيادة الأجانب علي بلاده خاصة بعد الاحتلال البريطاني السافر لها في سنة 1882 . وقد لا يكون وجه المقارنة متطابقا تماما، إذ زيد علي وضعنا اليوم ما نعانيه من تسلط تيارات دينية متطرفة، ترفض الاختلاف والتنوع، وتؤمن باحتكارها للحقيقة دون سواها ،ومن ثم فهي تدعو للإرهاب وتكفير الخصوم . بينما اتسم زمن النشر الاول للكتاب بترجمات أساسية لأهم الكتب الغربية، ونبذ التعصب والتزمت باعتبار هذا النبذ قيمة من قيم العصر الجديد.