كان ومازال ل «البنسيون» دور مهم في حياة المصريين فإلي جانب أنه الملاذ الأول للوافدين علي القاهرة من المحافظات الأخري لحضور «مولد» أو البحث عن عمل، أو من يمكن أن يكتشف مواهبه في الشعر أو الغناء أوالرسم - فهو أيضا شهد ميلاد نجوم كثيرين في جميع المجالات. والسطور التالية هي محاولة لكشف المستور والبحث عن المجهول داخل كواليس العالم السري للبنسيون. تعتبر اللوكاندات أو البنسيونات نوعا من الفنادق الصغيرة وإن كانت غالباً لا تمت بصلة للفنادق، من حيث التجهيز أو الرقابة أو الأمان لأنها في النهاية مجرد مجموعة حجرات في مبني صغير ومعظمها ذات حمامات مشتركة، ولكنها في النهاية تمثل ملاذا للكثيرين. وهذه اللوكاندات والبنسيونات تعتبر إحدي العلامات المميزة منذ أوائل القرن العشرين لبعض أحياء القاهرة القديمة مثل شارع كلوب بك المتفرع من العتبة، وشارع الحسين المتفرع من شارع الأزهر، هذا إلي جانب المتناثر منها ما بين ميدان العتبة وميدان رمسيس وشارع طلعت حرب وسليمان باشا، كذلك شارع محمد علي والدرب الأحمر أيضا منطقة شبرا والفجالة. وبالطبع تختلف مستوياتها وفقا للمنطقة الموجودة بها، أما الأسعار فيحددها أيضا المنطقة ومستوي اللوكاندة أو البنسيون، عموماً هي تتراوح ما بين 15 جنيهاً في الأحياء الشعبية إلي مائة جنيه في الميادين والشوارع الرئيسية، وهذه هي الأسعار الحالية أما أسعار زمان فكانت بالقروش وقبلها كانت بالمليم. وبالنسبة للنزلاء فهؤلاء يتنوعون أيضا ما بين الهاربين من الوحدة أو لعدم وجود سكن خاص بهم أو من تجبره ظروفه علي التنقل من مكان لآخر أوالنازحين من المحافظات الأخري إلي القاهرة سعيا وراء الرزق أو الدراسة في إحدي جامعاتها، أو مأمورية عمل سريعة ولا تساعد ظروفهم المادية علي المبيت في أحد الفنادق التي تبدأ أسعارها للمبيت في الليلة الواحدة إلي ما يقرب من 500 جنيه بدون طعام أو شراب. فئة أخري تقصد هذه البنسيونات هم السائحون الأجانب خاصة «المستشرقين» الذين يقصدون المقاهي الفاطمية لدراسة تاريخها والبحث في عادات وتقاليد أهلها، ومنهم من يعشقها فيقرر الإقامة الدائمة في تلك المنطقة ويصبح زبوناً دائماً في اللوكاندة. أما أقدم لوكاندة في المنطقة فهي «الصفا والمروة» ويعود تاريخها إلي عام 1901م وهي تقع في شارع خان جعفر وتكتسب أهميتها التاريخية من أنها كانت تسمي «الكلوب العصري» عند إنشائها، حيث كان يتم رفع كلوب كبير علي سطحها ليضيء ما حوله وكان القادمون من محطة مصر يشاهدون نور الكلوب من ميدان باب الحديد، أيضا يوجد في نفس المنطقة أو بالقرب منها «لوكاندة الحسين»، لوكاندات «نور الصباح، الأزهر الشريف، رضوان، الفردوس واللوكاندة الحسينية»، والأخيرة تواجه الباب الشرقي لحرم المسجد الحسيني، وبالطبع لم يقتصر وجود اللوكاندات والبنسيونات علي الأحياء الشعبية أو المنطقة الأثرية، بل امتدت للأحياء الراقية في جاردن سيتي والزمالك وباب اللوق وشارع فؤاد.. الخ. ويبدو أن القاهرة بشققها الفاخرة وقصورها الثرية قد ضاقت بعدد من سكانها من النخبة سواء رجال الأعمال أو الفنانين، فتركوا بيوتهم واقاموا في أجنحة فنادقها وغرف بنسيوناتها، وهناك العديد من الفنانين بدأوا حياتهم في غرفة بنسيون خاص في منطقة وسط البلد لقربها في وقت ما من المسارح واستديوهات السينما ومبني الإذاعة القديم في «الشريفين» ومنهم إسماعيل يس، أبوالسعود الإبياري، زينات صدقي، استيفان روستي، عماد حمدي، وداد حمدي، نجوي فؤاد، المخرج أحمد توفيق وآخرون مازالت صورهم موجودة في مدخل أغلب البنسيونات التي أقاموا فيها. لكن هناك آخرين حاليا يلجئون لأجنحة الفنادق بغض النظر عن الدوافع إن كانت بحثا عن الرفاهية أو الإحساس بعدم الاستقرار لدي أهل الفن.. فإن مائة مصري يهجرون منازلهم للفنادق والبنسيونات الراقية، وهذا ما أكده أحد تقارير وزارة السياحة عن وجود مائة جناح بفنادق القاهرة يشغلها مصريون بصورة دائمة خلال الأعوام الماضية وكان علي رأس هؤلاء النجم الراحل أحمد زكي، المطرب عامر منيب، المطرب حلمي عبدالباقي وقبلهم المطرب إيمان البحر درويش، هذا بالإضافة لعشرات الفرق في بنسيونات مختلفة. وعلي النقيض تماماً من حالة البحث عن الرفاهية والتميز أو حتي اتساقاً مع متطلبات المهنة أو للتفرغ لتصوير مسلسل أو فيلم بالنسبة للفنانين ومن هؤلاء الفنانون محمد صبحي، نور الشريف، يحيي الفخراني، ومن الموسيقيين الراحل محمد الموجي الذي كان يفضل الإقامة في فندق شيراتون القاهرة، الموسيقار محمد عبدالوهاب، وكان يفضل الإقامة في أحد المنتجعات في ضواحي بيروت، ومن الفنانين أيضا الذين كانوا من زبائن البنسيونات في بداية اشتغالهم بالفن الفنان سعيد صالح، محمود الجندي، الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، الشاعر أمل دنقل، الشاعر شوقي حجاب والموسيقار بليغ حمدي وعشرات الأسماء الأخري هذا عدا العديد من رجال الأعمال والمبدعين من فنانين تشكيليين ومخرجي مسرح وسينما وكتاب وملحنين. وتشير احصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء أن ما يقرب من 670 ألف مواطن يعيشون في لوكاندات وبنسيونات صغيرة بشكل دائم لعدم وجود سكن خاص لهم. والغريب أن هؤلاء وجدوا أنفسهم يوما مخالفين للقانون وعليهم أن يخلوا غرفهم في تلك اللوكاندات والبنسيونات بعد صدور قرار من وزارة الداخلية في العهد البائد، يمنع إقامة سكان أي محافظة أو مواليدها في لوكاندات أو بنسيونات شعبية في نفس المحافظة بصفة دائمة، ويهدف هذا القرار كما أعلن للتطبيق علي الخارجين علي القانون دون أن يضع في الاعتبار ظروف هؤلاء سكان اللوكاندات أوالبنسيونات، صحيح أن هذه البنسيونات واللوكاندات الصغيرة تشهد من وقت لآخر العديد من الحوادث، ومنها علي سبيل المثال إحدي لوكاندات حي الازبكية حينما استغل ابن صاحب الكافتيريا باللوكاندات تردده علي والده فغافل الموظف واستولي علي مفاتيح الغرف واستولي علي مبلغ كبير من إحدي الغرف وفي بنسيون بالإسكندرية، اختبأ محام بعد أن قتل صديقه في شقته بالقاهرة واستولي علي مبلغ من المال. أيضا قضت محكمة الأحوال الشخصية بقبول اعتراض زوجه علي إنذار الطاعة، الذي وجهه لها زوجها علي محل إقامة بنسيون رغم استغراب الزوج من موقفها لأنها قبلت الزواج به في البنسيون وقبلت الحياة معه في غرفة بالبنسيون. ووفقا لتقارير المباحث، فاغلب الخارجين علي القانون والجماعات الإرهابية يتم ضبطهم داخل بنسيونات وخاصة الموجودة بالأحياء الشعبية. ووفقا أيضا لتقارير مركز السلامة والصحة فإن هناك 400 ألف بنسيون علي مستوي الجمهورية تفتقر لشروط السلامة والأمان ولا يوجد داخلها عمال مدربون علي عمليات الانقاذ ومقاومة الحرائق. هذا بالإضافة إلي أن هذه البنسيونات في الغالب موجودة في مبان قديمة ونظراً لكثرة المترددين عليها فإن هناك خطورة علي تلك المباني من الانهيار المفاجئ خاصة أن بعضها تعدي المائة عام، تلك كانت جولة داخل العالم السري لبنسيونات القاهرة وسكانها من النجوم والمبدعين والمثقفين التي شهدت علي مدي تاريخها ميلاد العشرات من أهل الفكر وعظماء الشعراء ونجوم الفن التشكيلي والكاريكاتير والموسيقي والغناء والصحافة.