ضمن سلسلة محاضرات المترجم التي يقيمها مركز الدراسات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة قدم الفنان التشكيلي والمترجم عادل السيوي محاضرة بعنوان "الترجمة والشغف" تحدث فيها عن علاقتة بالترجمة ودورها في حياته حيث ترجم نظرية ليوناردو دافنشي في الرسم، ونظرية التصوير لبوكيلي، بالإضافة لترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الإيطالي جوسيب أونجاريتي (المتوفي عام 1970)، وهي المرة الأولي التي تترجم فيها أعماله عن الإيطالية، حيث إنه واحد من كبار مؤسسي الحداثة الأوروبية الشعرية. وقد كان لعلاقة السيوي بعدد كبير من الشعراء والمبدعين وكذلك ذائقته الشعرية أثر كبير في تقديم وترجمة أو نجاريتي، حيث قال إنه اتجه للترجمة في بداية رحلته إلي إيطاليا وكانت في البداية بمثابة عمل يتكسب منه بالخارج، فقد تخرج السيوي في كلية الطب ودرس الفن التشكيلي بالقسم الحر وسافر إلي إيطاليا وعمره 27عاماً، عندما قدم أعماله التشكيلية فوجئ بمن يخبره بأن هذه الأعمال لا ترقي إلي عمره وأن عليه بذل مزيد من الجهد والدراسة حتي تصل خبرته إلي المرحلة العمرية آنذاك، فبذل مجهودا كبيراً في عدة مجالات وحاول العمل كثيراً علي تطوير نفسه. كانت الفترة من 1980 وحتي 1985 تمثل خمس سنوات من العمل المضني والشاق الذي أرتكز عليه الآن، كانت هذه السنوات بمثابة هدية قيمة قدمتها إليه إيطاليا، فعندما سافرللخارج كان يشعر أن هناك عوالم أخري بفكر وبثقافة مختلفة وأسئلة متطورة، تعلم الترجمة باللغة الانجليزية ولكن علي الطريقة الإيطالية، فالترجمة معادل للحياة، وقد تحدث السيوي باستفاضة عن ترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الإيطالي أونجاريتي مؤكداً أنه توطد عاطفياً معه ومع ليوناردو دافنشي وبول كيلي كما استفاد من ترجمته لهم نظراً لرغبته في المشاركة في شيء عام أما أونجاريتي علي وجه الخصوص فربما يعود لفكره المصري حيث عاش في الإسكندرية إذن كان لتجربته المصرية ومحاولته لتأمل ذاته الغريبة في الإسكندرية وأوروبا جزء كبير من فاشيته. يقول السيوي "دعاني ذلك الشاعر للتخلص من الركاكة والثرثرة في العمل الفني، فهو شاعر من نسيج خاص قضي عمره يدور حول المفردات بحذر بالغ ليكتشف تلك الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها إلي قلبها ويحولها بذلك من مفردات متاحة في حيادها إلي كلمات تخصه وحده، كلمات تنفصل عن القاموس وعن التداول اليومي، فتصبح الكلمة التي عثر عليها كما قال هاوية محفورة في الروح". ويضيف السيوي "وما الطريق إلي نص قابل للتداول بالعربية ومن داخل منطقها، بينما يرفض النص الأصلي الخضوع للسياقات ويستمد قوته من ذلك الحضور المنفلت والمباغت للكلمات خارج منطق اللغة الذي يقود حركة المعني والشعور بالضرورة في اتجاه بعينه، يمكننا بذلك من صياغة محاكاة ما؟ وكيف نتعامل مع بناء سيمانطيقي مفتوح علي الاحتمالات خارج قواعد اللغة المتعارف عليها نحواً وصرفاً وترقيماً، يخفي مناطق الاتصال ويفتح التكوين علي أكثر من إمكانية التفسير، ويستطرد السيوي: لقد واصلت الترجمة رغم كل هذه التحسبات ويبدو أنها آلية عجيبة تفرضها الحماسات الأولي التي تسيطر علي في لحظة أتورط خلالها، ثم تتحول بعد ذلك إلي التزام أو صراع لا فكاك منه وهكذا قضيت أياماً طويلة من العمل بعيداً عن مرسمي لتجاوز قصور التكوين مدفوعاً بمحبة لايمكن ردها". وعن أونجاريتي يقول أيضاً لقد شكلت الصحراء والبحر السكندري وجدانه العنيد، حيث كان مراقباً للمشاعر العربية وما تفرزه حولها من كلمات وألحان، ويؤكد دائماً أن مدخله للشعر والعالم معاً قد انطلق من سراب الرمل وأصوات الليل والعديد والنواح في وداع الموتي. فقد ظلت مصر حلم أونجاريتي المتكرر الذي لازمه طيلة حياته ومنحه أسماء متقاربة في قصائدة مثل: بلدي، حلمي المعتاد، حلمي الأليف وغير ذلك، كما كان حضور الذاكرة المصرية في شعره طاغياً إلي حد تداخل اللحظة المعيشية هناك بلحظة آخري من الذا كرة، عاشها هنا، ففي اللحظة التي يتفتح له فيها جسد حبيبته فوق رمال الضفة الأخري من المتوسط يتذكر تفتح أزهار الياسمين في الإسكندرية وإذا تأمل الضباب يغطي ميلانو فتتحول إلي بحيرة بيضاء تعود إلي ذاكرته بحيرة مريوط المصرية ويسمع أصداء الغناء المسحور الذي يحيط بها. كما كتب كثيراً عن مصر والوالي محمد علي والصحراء والفقراء كما صور لنا حالة الاختلاط السكندرية بين الأجناس واللغات والأفكار، كما كان يبحث منذ بدأ الكتابة عن تلك الخيوط الخفية التي يمكن أن تربط بين كلمات منفصلة تليق بتلك اللحظات البينية،وتمنح الصوت لمناطق غائمة لاتدركها الحواس ما بين لحظة انتزاع الزهرة ولحظة إهدائها علي حد تعبيره فما بين اللحظتين الفارقتين، لحظة الاقتلاع ولحظة المنح يقبع زمن ميت وعمر لا صوت له وحياة مغلقة علي أسرارها، وقد كتب أونجاريتي أقصر قصيدة في تاريخ الشعر الإيطالي وربما الإنساني بأكمله مكونة من كلمتين يربطهما حرف وضمير،كلمتان فقط الأولي فعل والثانية صفة وقد كان هذا موضع تهكم كبير تعرضها معه هو وقصيدته لنقد شرس من كثيرين ولكنه لم يعبأ لذلك فلم يكن يسعي لكتابة أقصر قصيدة كهدف في ذاته، فبعد خفوت صيحات السخرية بدأت قيمة العمل المختصر تتضح للغاية، فقد شكلت قصائده بقدرتها المذهلة علي الاختصار والتكثيف مرجعية رائقة للشعر في القرن العشرين ومازال لشعره تأثير في الثقافة والإبداع المعاصرين، فقد راهن علي كلمات قليلة قادرة علي التحول إلي طاقة موحية تتقاطع مع التجربة الإنسانية دون ادعاء القدرة علي كشف أعماقها وبلارغبة في التوضيح أو الإمساك بالحقائق، كلمات تأخذنا معها بحثاً عن براءة أولي مستحيلة.