من المعروف أن جوائز أي مهرجان أو مسابقة سينمائية، لا يمكن أن ترضي الجميع، فإذا أرضت الجمهور لم ترض النقاد، والعكس، وإذا أرضت الاثنين لم ترض صناع الأفلام، وهي في النهاية مسألة أذواق وآراء شخصية لا يمكن أن تكون واحدة عند كل الناس. لكن موسم الجوائز السينمائية الأمريكية تحديدا، الذي بدأ فجر السبت 16 يناير الجاري بإعلان جوائز رابطة النقاد الأمريكيين وتواصل فجر الاثنين 18 يناير بتوزيع جوائز الجولدن جلوب (الكرة الذهبية) ويختتم 7 مارس المقبل بجوائز الأوسكار، تلاحقه دائما اتهامات بالمجاملة وعدم الشفافية ومراعاة الاعتبارات الشخصية، مثل منح الجوائز لبعض المرشحين لتقدمهم في السن أو عدم حصولهم من قبل علي أي جوائز، وحرمان مرشحين آخرين لمجرد أنهم فازوا بالعديد من هذه الجوائز من قبل، بالإضافة للاعتبارات السياسية مثل موقف الجهات المانحة - وهي علي التوالي: رابطة نقاد السينما بلوس أنجلوس، وجمعية الصحفيين الأجانب العاملين في هوليوود، وأكاديمية علوم وفنون السينما الأمريكية - من الإدارة الأمريكية الحاكمة، والسياسات الداخلية والخارجية التي تتبعها، وهناك موقف هذه الجهات من سياسات الدول الأخري، والذي يحكمها عند اختيار جائزة أفضل فيلم أجنبي. شراء الجوائز علي جانب آخر، من المعروف أيضا أن بعض شركات الإنتاج الأمريكية اشتهرت بقدرتها علي الحصول علي الكثير من هذه الجوائز بطرق ليس لها أي علاقة بالمعايير والمقاييس الفنية قد تصل إلي "الشراء"، مثل شركة "ميراماكس" التي طالما ثار الجدل حول الجوائز الكثيرة والمبالغ فيها التي تحصل عليها بعض أفلامها - مثل "شكسبير يقع في الحب" و"المريض الإنجليزي" - حتي لو كان عليها بعض التحفظات الفنية، وحتي لو كانت هناك أفلام أفضل منها خاضت معها السباق في أعوام إنتاجها. ولا شك أن هذه الأفلام جيدة، لكن ليس إلي درجة الحصول علي كل هذه الجوائز، مما يثير دائما الشكوك فيها.. والشراء ليس بالضرورة بالمال، ولكن أيضا بالعلاقات والضغوط الشخصية والإعلامية علي من يتمتعون بحق الاختيار والتصويت. وهدف هذه الشركات من الاستماتة بهذا الشكل للحصول علي الجوائز، واضح، وهو تسويق أفلامهم وتحقيقها أعلي الإيرادات داخل وخارج أمريكا، فوضع عدد جوائز الأوسكار أو الكرة الذهبية التي فاز بها أو رشح لها الفيلم علي الأفيش، يصنع دائما الفرق ويضمن إقبال المشاهدين. وفي ظل ذلك كله تتعرض أفلام كثيرة للظلم، رغم أن بعضها يعد من التحف السينمائية، ومنها "الأوغاد المغمورون"، أحدث أفلام المخرج الأمريكي الكبير كوينتن تارانتينو، الذي لم تمنحه الجولدن جلوب سوي جائزة أفضل ممثل في دور مساعد للممثل النمساوي كريستوف فالتس، وهذه الجائزة في حد ذاتها نوع من الظلم، فالدور كان يستحق جائزة أفضل ممثل، التي حصل عليها من مهرجان "كان" الأخير في مايو الماضي. جحافل التفاهة وكنا قد سبقنا الجولدن جلوب في عدم تقدير هذا الفيلم، فلم يقابل في أي مكان في العالم كما قوبل في مصر، لا جماهيريا ولا نقديا.. فقد رفع من دور العرض بعد أسبوعين عندما عرض تجاريا في أكتوبر الماضي ولم يحقق إيرادات تذكر، في حين حقق أعلي الإيرادات في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا الصيف الماضي، وظل متربعا علي قمة أنجح الأفلام هناك لأسابيع طويلة. وإذا كان الاستقبال الجماهيري متوقعا بسبب نجاح جحافل الابتذال والسخافة والتفاهة في إفساد الذوق السينمائي لدي جيل كامل من الشباب بأفلام المواسم والأعياد والموالد، فإن ما أدهشني حقا هو رد فعل النقاد، الذين هاجم بعضهم الفيلم بضراوة، وركزوا هجومهم علي مشاهد العنف المبالغ فيها - من وجهة نظرهم - وإقدام تارانتينو علي تغيير التاريخ، خاصة فيما يتعلق بنهاية الزعيم النازي أدولف هتلر. أما العنف فمعظمه ساخر، وأذكر أن المخرج مروان حامد قال لي ضاحكا - أثناء تواجدنا في مونتريال لحضور الدورة الأخيرة لمهرجانها السينمائي الدولي - أن بعض المشاهدين الكنديين قارنوا بين العنف في فيلمه "إبراهيم الأبيض"، الذي كان مشاركا في قسم "خارج المسابقة" بالمهرجان، وفي فيلم تارانتينو، وقالوا له : "لقد صدمتنا.. فتارانتينو كان يمزح، أما أنت فلا تمزح"! كل الدنيا تعرف أن هذا المخرج الأمريكي الكبير يقدم في فيلمه سخرية راقية من الحرب ومن العنف ومن النازيين ومن اليهود ومن كل شيء، ما عدا نقادنا الذين حاسبوه بمنطق سينما الثمانينات "الواقعية"! حرية الفنان وأما تغيير التاريخ، فأعتبره أقوي ما في الفيلم، لأنه صورة رائعة من صور الخيال السينمائي الجامح الذي لا يجب أن يحده شيء، ولا يجب أن يناقشه أو يعترض عليه أحد، لأنه يدخل في إطار الحرية المطلقة لصناع الأفلام، ولنا أن نقبل ذلك أو نرفضه، نحبه أو نكرهه، لكن ليس من حقنا مناقشته أو الحكم عليه بأنه خطأ، إلا إذا كان المخرج يصنع فيلما وثائقيا أو تسجيليا. ولم يصنع تارانتينو فيلما وثائقيا عن الحرب العالمية الثانية وآخر أيام هتلر، بل صنع عملا ساخرا هدفه الرئيسي إدانة الحرب والعنف والكراهية لدي كل الأطراف، دون الانحياز لجانب علي حساب الآخر.. فقد أدان عنف النازيين من خلال شخصية الضابط الساحر/ السادي الملقب ب "صائد اليهود"، والتي قدمها فالتس بأداء مذهل.. وأدان عنف الأمريكيين من خلال فرقة "الأوغاد المغمورون"، وهم مجموعة من الجنود اليهود الأمريكيين الذين يأتون إلي فرنسا تحت حكم النازي لمطاردة الألمان والانتقام منهم بصور بشعة لا تقل سادية عن أساليب النازيين، وقد أدي براد بيت دور زعيم الفرقة في واحد من أفضل أدواره.. وأدان عنف وكراهية اليهود الذين يحبسون هتلر وكبار مساعديه في دار سينما ويحرقونهم جميعا بلا رحمة. لا جدال في جائزة فالتس، الممثل الذي لم يذق طعم النجومية إلا علي يد تارانتينو وهو في الثالثة والخمسين، لكن براد بيت أيضا يستحق جائزة، ويبدو أن مانحي الكرة الذهبية أرادوا تكريم الممثل المخضرم جيف بريدجز، الذي طالما تخطته هوليوود، فمنحوه جائزة أحسن ممثل عن فيلم "قلب مجنون". لغة راقية وبلا شك كان تارانتينو يستحق جائزة، تقديرا لهذه الروح الساخرة وذلك التكنيك المبهر وتلك اللغة السينمائية الراقية في معظم المشاهد، خاصة المشهد الطويل الممتع الذي يستجوب فيه "صائد اليهود" صاحب مزرعة فرنسيا يشك في أنه يأوي يهودا، ويدير الاستجواب بمنتهي الهدوء وهو يتناول حليب المزرعة اللذيذ ويطلب منه المزيد! كان تارانتينو يستحق جائزة تقديرا لخياله الخصب، وقدرته علي التجديد، سواء كمخرج أو كسيناريست، والتي تجلت في مشاهد الحريق الأخيرة غير المسبوقة، حيث يتم إضرام النار في شرائط الأفلام الموجودة في السينما، باعتبارها سريعة الاشتعال، ويحترق هتلر وجوبلز وباقي رموز الحكم النازي وهم يتابعون باستمتاع فيلما من إخراج ليني رايفنشتال عن أمجاد ألمانيا النازية.. لقد قتل هتلر وغير التاريخ.. وماذا في ذلك؟ لتفعل السينما ما تريد!