في هدوء يليق بالمبدعين رحل عن عالمنا يوم الجمعة 10 مارس عام 1995 الأديب الإنسان الدكتور نجيب الكيلاني في مستشفي بمدينة طنطا. ولا يعرف كثير من القراء أن الطبيب الأديب نجيب الكيلاني كان في طفولته المتأخرة (12 عاما) مريضا بالبلهاريسيا وكان يقيم في بلدة زفتي مع أسرته ويقطع نحو سبعة كيلومترات سيرا علي الأقدام للعلاج في بلدة ميت غمر ويعود في اليوم نفسه في القطار، وأثناء علاجه في ميت غمر وجد مثله الأعلي في طبيب الوحدة العلاجية الذي كان يجمع الأطفال المرضي ويثقفهم في مجال الصحة والوقاية من الأمراض، وظلت صورة هذا الطبيب ماثلة أمام عينيه حتي حصل علي شهادة التوجيهية «الثانوية العامة» القسم العلمي عام 1949، والتحق بكلية الطب أملا أن يحذو حذو مثله الأعلي طبيب الوحدة العلاجية «المثقف الصحي». الثقافة الصحية ويشاء الله أن يحقق أمنيته عندما عمل في دولة الإمارات العربية المتحدة - وبعد قيام الاتحاد - أن يختار ميدان الثقافة الصحية، ويتمكن من نشر الوعي الصحي في كل إمارات الدولة من رأس الخيمة والفجيرة حتي أبوظبي، ويصبح العضو الدائم في وفد الإمارات العربية لدي مجلس وزراء الصحة لدول الخليج العربي. أردت بهذه المقدمة أن أبرز لشبابنا العربي مدي أثر القدوة والمثل الأعلي في حياة الإنسان. ديوان الشعر ولنتكلم الآن عن حياة نجيب الكيلاني، فحياته وأعماله قدوة يقتدي بها: ولد نجيب الكيلاني في قرية «شرشابة» مركز زفتي - محافظة الغربية حصل علي شهادة الثقافة العامة عام 1948، ثم حصل علي شهادة التوجيهية «القسم العلمي» عام 1949، ثم التحق بكلية الطب قصر العيني «جامعة فؤاد الأول»، وهو من مواليد أول يونية عام 1931 هذا وبالرغم من نبوغه وتفوقه في مجال الشعر والأدب في المرحلة الثانوية، فقد كان له في هذه المرحلة أكثر من ديوان شعر. وأثناء المرحلة الجامعية تقدم لمسابقة وزارة التربية والتعليم في الرواية الطويلة» عام 1957 وفاز بالجائزة الأولي عن روايته «الطريق الطويل»، وقد قدمت في السينما «طريق الأمل». وفي عام 1960 تخرج في كلية الطب، وعمل عقب تخرجه في الوحدة المجمعة بمسقط رأسه «شرشابة» وتزوج في نفس العام، ثم انتقل للعمل في وزارة المواصلات حتي عام 1965. وترك مصر في مارس عام 1968 ليعمل في دولة الكويت، وانتقل في العام نفسه إلي الإمارات عن طريق الكويت طبيبا عاما تابعا للبعثة الطبية الكويتية، وظل بمستشفي الكويت بدبي حتي قيام اتحاد الإمارات العربية، فكلف بإنشاء المجلس الطبي والصحة المدرسية وإدارة التثقيف الصحي - وكان مديرا للثلاثة إلي أن اتسعت فاكتفي هو بإدارة التثقيف الصحي وظل مديرا لها حتي سن التقاعد. وقد من الله عليه بثلاثة أولاد وبنت من زوجته الكاتبة الإسلامية كريمة شاهين وفي 10 مارس عام 1995 انتقل إلي رحاب الله تعالي بعد صراع مع المرض الخبيث بعد عمر حافل بالجهاد في الميدانين الطبي والأدبي. أما عن أعماله الأدبية فنستطيع أن نقول إن بدايات الكيلاني القصصية كانت مبشرة بمولد كاتب متميز، فقد حصل في منتصف الخمسينات القرن الماضي علي عدد من الجوائز المهمة مثل: جائزة المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، وجائزة مجمع اللغة العربية، وجائزة نادي القصة بالميدالية الذهبية، وجائزة الشبان المسلمين، وجوائز عديدة من وزارة التربية والتعليم بمصر. علاقة إخوانية ونجيب الكيلاني سجن أكثرمن مرة في عام 1958 بسبب علاقته بجماعة الإخوان المسلمين، وتمكن الوزيركمال الدين حسين وزير التربية والتعليم من الحصول علي عفو صحي، وخرج من السجن بعد فوزه عن رواية «الطريق الطويل» وعاد ليستكمل دراسته بكلية الطب ويصف الدكتور محمد حسن عبدالله أنه في نقاشه مع نجيب الكيلاني عن خطورة الانضمام إلي هذه التنظيمات في أثناء الدراسة - كان دائما يتحدث عنها حديث الفنان الساحر وليس المغرور الحاقد، يصف لصديقه طوابير الصباح في السجن والاكراه علي الترديد وراء أم كلثوم: أجمل أعيادنا المصرية، بنجاتك يوم المنشية وعصي الحراس تداعب من لا يرفع صوته بالغناء حتي ولو كان الهضيبي نفسه! وسجن مرة أخري عام 1965، وكان هذه المرة لم تعد صحته تحتمل السجن بسبب «آلام المفاصل في الركبتين خاصة»، وسافر بعدها إلي الكويت ليعمل في الإمارات حتي عام 1991 سن التقاعد ليودع أيام السجن. وحظيت رواية «الطريق الطويل» باهتمام خاص، حيث اشترت منها وزارة التربية والتعليم كميات كبيرة للمدارس الثانوية بعد أن قررت تدريسها في التعليم الثانوي بمصر، وترصد الرواية قصة أسرة مصرية فقيرة تكافح من أجل تعليم ابنها وتحرز نجاحا كبيرا مع وجود المعوقات والصعوبات المادية والاجتماعية، وخلال أحداث الرواية تظهر الروح المتسامحة التي تبلورت فيما بعد في بقية رواياته وقصصه. لجأ الكيلاني إلي التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية يستقي منها كرافدين لأعماله الروائية والقصصية فكتب مجموعة من الأعمال المهمة التي قدمت التاريخ والسيرة في أسلوب قصصي جيد يحقق المتعة والفائدة في آن واحد، فضلا عن قدرته علي اختيار الأحداث والشخوص التي تمثل معادلا للواقع المعاصر بأحداثه وشخوصه، ويمكن القول إن التاريخ منجما ثريا استدعاه الكيلاني أو صاغه من جديد في صورة روائية ليعالج من خلال واقعنا الراهن الأحداث والأحزان والآمال في لغة فنية تحقق ما يسمي ب «السهل الممتنع» ومن أبرز أعماله الروائية: «نور الله» في جزأين و«قاتل حمزة» و«أرض الأنبياء»، «مواكب الأحرار»، «اليوم الموعود»، «النداء الخالد»، «أرض الأشواق»، «رأس الشيطان»، «الربيع العاصف»، «طلائع الفجر»، «عمر يظهر في القدس»، «ليل العبيد»، «عذراء القرية»، «الرايات السوداء»، «ابتسامة في قلب شيطان»، «حارة اليهود»، و«دم لفطير صهيون». وقد سجل نجيب الكيلاني الهدف من قصة «دم لفطير صهيون» في العبارات التالية: «إن حقد الصهيونية علي المسيحية قديم، ومؤامراتها ضد الإسلام والمسلمين لا تخفي علي أحد وليس من وراء هذه القصة من هدف سوي أن تعيد للأذهان حلقة من سلسلة طويلة من العداء الصهيوني ضد الإنسانية جمعاء، لعل العالمين المسيحي والإسلامي يدركان خطر الموقف». الرواية الطبعة الرابعة 1985 -ص14 إلي جانب التاريخ والسيرة فإن نجيب الكيلاني غزا ميدانا بكرا لم يتجه إليه أحد قبله، وهو صياغة تاريخ المسلمين المظلومين في عديد من الدول والمناطق، حيث قامت قوي الشر بالتعتيم علي مأساتهم وما جري لهم مثلما جري في تركستان، واندونيسيا ونيجيريا واثيوبيا لقد تكشفت هذه المأساة مؤخرا بسقوط الاتحاد السوفيتي، والدول التابعة له. وعرف الناس من خلال الأحداث الدامية في القوقاز والبوسنة والهرسك، وارتريا، واثيوبيا، أن هناك مسلمين مضطهدين محرومين من دينهم من ناحية ومن اشقائهم المسلمين في بلاد العرب وغيرها من ناحية أخري. أسبق العرب كان الكيلاني من أسبق كتاب العرب الذين عرفوا بهؤلاء الضحايا فكتب «عمالقة الشمال» و«الظل الأسود»، و«ليالي تركستان»، و«عذراء جاكرتا». وتعتبر هذه السلسلة من الروايات الإسلامية المعاصرة أول عمل يعالج قضاياالعالم الإسلامي ومشكلاته المعاصرة. وهذه الروايات تستمد أحداثها من وقائع مثيرة ثابتة تاريخية، صيغت بأسلوب قصصي شائق، يتميز بدقة التصوير وقوة الحوار وتماسك الحدث، فرواية «ليالي تركستان»، تعد أول رواية عربية تجري أحداثها علي أرض البطولات والأمجاد تركستان الشرقية الفردوس المفقود الذي قلما سمع به أحد من أجيالنا الفنية، وهي تصور الليالي القاسية التي عاشها ذلك الشعب المسلم وكفاحه ضد مطامع واحقاد جيرانه مع الصينيين والروس الذين تآمروا للقضاء علي استقلاله وعقيدته، ورواية «عذراء جاكرتا»، تلقي ضوءا علي التناقض الكبير الذي عاشته جاكرتا في عهد سوكارنو، حيث كانت مقاليد الأمور كلها بيد الحزب الشيوعي، كانت جاكرتا عجيبة، فيها القصور الفخمة ذات السجاجيد العجمية الغالية الثمن، والثريات المذهلة تحوطها الحدائق الجميلة ذات الأزهار والثمار، وفيها أيضا الاحياء الفقيرة تفوح منها رائحة القذارة والمرض والفقر، والأطفال العراة الحفاة، والنسوة الممزقات الثياب، وتصور الرواية الحدث الكبير الذي شمل الجزر الاندونيسية عام 1965 بانحدار الشيوعيين وانتصار المبادئ السامية علي قوي الشر والفساد، وعن صراع الإسلام والوثنية في نيجيريا كتب «عمالقة الشمال» وفي فترة مبكرة ألف عن الشاعر الإسلامي العالمي «اقبال»، كما أفضي بجانب من حياته الشخصية في «مذكرات طبيب»، وإن يكن كتب عن نفسه مباشرة في «ملامح حياتي»، وهو من جزأين. وفي السنوات الأخيرة من حياته قفز نجيب الكيلاني قفزة هائلة حين انتقل إلي رصد الواقع المعاصر ومعالجته روائيا، فيما يمكن أن نطلق عليه «الواقعية الإسلامية» وهي مختلفة عن «الواقعية الأوروبية» - الاشتراكية الانتقادية - لأنها محكومة بروح الإسلام وعدالته وغير منحازة لطبقة أو فئة، واقعية تنحاز للحق والإنسان الذي كرمه الخالق. وفي هذه القفزة يعالج الكيلاني قضايا المجتمع من خلال الظواهر الطارئة التي طرأت علي أهله وناسه، والقيم المادية التي استجدت فأفسدت النفوس والقلوب والعقول، وجعلت المقاييس الاجتماعية تبتعد عن تحقيق العدل والحرية والتسامح والرحمة، لقد كتب نجيب الكيلاني مجموعة من الروايات الجميلة التي تستبطن الواقع والإنسان معا في رؤية إسلامية نقدية. وأسلوب متميز استطاع أن يعتمد علي السرد الحي والحوار الشفاف- محققا - ربما لأول مرة - قدرة فريدة علي تضمين الحوار الروائي آيات قرآنية وأحاديث شريفة - دون أن يشعر القارئ بالافتعال أو التكلف، من هذه الروايات: «اعترافات عبدالمتجلي»، و«امرأة عبدالمتجلي» و«مملكة البلعوطي»، و«أقوال أبوالفتوح الشرقاوي»، و«أهل الحميدية»، و«الرجل الذي آمن»، و«ملكة العنب». رواية طويلة لقد كتب نجيب الكيلاني اثنتين وثلاثين رواية طويلة، مما جعله واحدا من اغزر كتابنا الروائيين، وإلي جانب الرواية كتب عددا من المجموعات القصصية القصيرة استوحاها من عمله كطبيب أو من البيئة الريفية التي عاش فيها طفولته وشبابه، أو من التاريخ، وتقرب مجموعاته القصصية من عشر مجموعات منها: «موعدنا غدا»، - و«العالم الضيق» و«عند الرحيل» و«فارس هوازن» و«حكايات طبيب»، و«دموع الأمير». ونجيب الكيلاني كان شاعرا أيضا له أكثر من أربعة دواوين شعرية من بينها ديوان «نحو العلا» وقد كتبه وهو طالب بمدرسة طنطا الثانوية، و«أغاني الغرباء» و«غدا ألقاك» و«عصر الشهداء» ويتسم شعره في عمومه بالبساطة والوضوح والتعبير الفطري، وتحس في شعره بالصدق والعذوبة في آن واحد، وقد صاغه صياغة عمودية صافية وفي مجال الإبداع المسرحي كتب الكيلاني عدة مسرحيات استلهمها من التاريخ ومنها مسرحية «علي أبواب دمشق». أما في مجال البحث، فلقد تنوعت الموضوعات التي طرقها نجيب الكيلاني فقد كتب في الثقافة الصحية الإسلامية والبحوث الأدبية ومن أهم البحوث التي نشرها بحثه عن «محمد اقبال» و«اقبال الشاعر الثائر» ونال به جائزة وزارة التربية والتعليم «قسم التراجم والسير» وقد بدأ في كثير من أفكاره ورؤاه متأثرا بالشاعر الباكستاني الكبير الذي كان يمثل مرحلة مهمة من مراحل الجهاد الإسلامي في العصر الحديث. والكيلاني بحوثه تحول نظرية الأدب الإسلامي، وتصوراته لهذا الأدب الذي صار اليوم حقيقة راسخة وله رابطة عالمية تحمل اسمه وتدعو إليه، وتصدر مجلة تضم إنتاجات الأدباء الإسلاميين المعاصرين. ولعل كتاب نجيب الكيلاني «الإسلامية والمذاهب الأدبية» مع كتابه «مدخل إلي الأدب الإسلامي» الذي يبرز فيه سبب انحطاط الأدب المعاصر علي الرغم من كثرة الأدباء والمفكرين يقول: «كان لتقسيم الأدب إلي عنصري الشكل والمضمون أثر سلبي لا يمكن تجاهله فقد احتفي بعض الأدباء احتفاء زائدا بالفكرة علي حساب الشكل الفني - فاختلت الموازين الفنية وضعف التأثير وقلت المتعة». وبصفة عامة فإن إنتاجه الفكري والإبداعي والعلمي يتسق تماماً مع تكوينه الإنساني. وقد ترجمت أعماله إلي العديد من لغات العالم كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوروبية والصينية، ودرس بعضها في الجامعات والمدارس. كما قدم العديد من الباحثين والكتاب دراسات حول «الأب نجيب الكيلاني» منهم: «عباس خضر» و«د.أحمد زكي» و«محمد قطب» و«د.حلمي القاعود» و«د.محمد حسن عبدالله» وغيرهم ودارت نحو أدبه عدة رسائل في الماجستير والدكتوراه كما حصل علي العديد من الأوسمة والجوائز المحلية والدولية».