الحصر العددي لانتخابات النواب بقليوب والقناطر محافظة القليوبية    مصطفى بكري: أناشد الرئيس السيسي تخفيف الأعباء عن الغلابة والطبقة المتوسطة.. الأسعار هارية الناس    رئيس إدارة المديريات الزراعية: صرف الأسمدة سيضم 6 محافظات بموسم الصيف المقبل    «مطروح للنقاش».. إعادة هيكلة الجيش الأمريكي وتغييرات البث الرقمي    أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 ديسمبر في بداية التعاملات    عبد المنعم سعيد: الإعلان عن اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان هو تفعيل لها    العليا للتفتيش الأمني والبيئي تتابع إجراءات تشغيل البالون الطائر بالأقصر    مستشار الرئيس للصحة: لا يوجد وباء والوضع لا يدعو للقلق.. والمصاب بالإنفلونزا يقعد في البيت 3 أو 4 أيام    الحصر العددي للدقهلية: تقدم عبدالسلام وأبو وردة والجندي ومأمون وشرعان    انفجارات في أوريول.. أوكرانيا تستهدف محطة كهرباء روسية    واشنطن تفرض عقوبات على سفن وشركات شحن مرتبطة بإيران    اجتماع رفيع المستوى في ميامي.. ويتكوف يلتقي الوسطاء لبحث ملف غزة    اللجنة العامة للدائرة الثالثة بالإسماعيلية تعلن نتيجة الحصر العددي للناخبين    سامح مهران يحمل رسالة اليوم العربي للمسرح في يناير 2026    اللجنة العامة ببنها تعلن الحصر العددي لجولة الإعادة بانتخابات النواب 2025    الحصر العددي الأول بلجنة طنطا رقم 1، نتائج فرز أصوات اللجان الفرعية    بعد جدل أمني، تيك توك تبيع أصولها في أمريكا    بالأرقام، الحصر العددي للدائرة الثامنة بميت غمر    فوز «حسن عمار» في جولة الإعادة بالدائرة الأولى ب انتخابات مجلس النواب ببورسعيد    اللجنة العامة للدائرة الثالثة بالإسماعيلية تعلن نتيجة الحصر العددي للناخبين    نجاة الفنان وائل كفوري من حادث طائرة خاصة.. اعرف التفاصيل    بناء القدرات في تحليل وتصميم نماذج العواصف الرملية والترابية بالشرق الأوسط    سفير مصر في المغرب يكشف تفاصيل معسكر منتخب مصر قبل كأس الأمم    (اشتباكات الإسماعيلية) إهانات بين الكعب الأعلى: جيش أم شرطة؟.. وناشطون: طرفان في المحسوبية سواء    كأس عاصمة مصر - إبراهيم محمد حكم مباراة الزمالك ضد حرس الحدود    أمم إفريقيا - منتخب مصر يخوض مرانه الأول في المغرب    تركي آل الشيخ ينفي مشاركة موسم الرياض في إنتاج فيلم «الست»    بالأرقام، الحصر العددي لجولة الإعادة بالدائرة الأولى بالمنصورة    وكيل فرجاني ساسي يصدم الزمالك: سداد المستحقات أو استمرار إيقاف القيد    رئيس الوزراء يرد على أسئلة الشارع حول الدين العام (إنفوجراف)    جوتيريش يدعو إلى توظيف الهجرة لدعم التنمية المستدامة وتعزيز التضامن الإنساني    محمد موسى عن واقعة نبش قبر فتاة: جريمة تهز الضمير قبل القانون    «لم يصلوا أبداً».. حكاية 7 أشخاص احترقت بهم السيارة قبل أن تكتمل الرحلة بالفيوم    رحلة التزوير تنتهي خلف القضبان.. المشدد 10 سنوات ل معلم صناعي بشبرا الخيمة    أكسيوس: تيك توك توقع اتفاقية لبيع عملياتها فى أمريكا إلى تحالف استثمارى أمريكى    فلسطين.. قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف جباليا شمال قطاع غزة    ترامب يدعو أوكرانيا إلى التحرك سريعا لإنهاء الحرب    كونتي: هويلوند يمتلك مستقبلا واعدا.. ولهذا السبب نعاني في الموسم الحالي    مش فيلم.. دي حقيقة ! شاب مصري يصنع سيارة فوق سطح منزله مع "فتحى شو"    أزهر اللغة العربية    بميزانية تتجاوز 400 مليون دولار وب3 ساعات كاملة.. بدء عرض الجزء الثالث من «أفاتار: نار ورماد»    مصطفى بكري: الطبقة المتوسطة بتدوب يجب أن تأخذ حقها.. وننقد حرصا على هذا البلد واستقراره    الزمالك يهنئ بنتايج والشعب المغربى بالتتويج ببطولة كأس العرب    فرنسا تعلن تنظيم مؤتمر دولي في فبراير لدعم الجيش اللبناني    رئيس غرفة البترول: مصر تستهدف تعظيم القيمة المضافة لقطاع التعدين    لوسى ل اليوم السابع: أنا بخير وفى بيتى وتعرضى لأزمة صحية غير صحيح    هل يرى المستخير رؤيا بعد صلاة الاستخارة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل عليَّ إثم لو لم أتزوج؟.. أمين الفتوى يجيب أحد ذوي الهمم    الداخلية تكشف تفاصيل واقعة إلقاء مادة حارقة على 3 طلاب بالقليوبية    الحصر العددى فى دائرة حدائق القبة يكشف تقدم المرشح سعيد الوسيمى ب7192 صوتًا    سنن يوم الجمعة: آداب وأعمال مستحبة في خير أيام الأسبوع    اللجنة العليا للتفتيش الأمني والبيئي تتفقد مطار الأقصر (صور)    وزير الأوقاف يكرم عامل مسجد بمكافأة مالية لحصوله على درجة الماجستير    محافظ الدقهلية يكرم أبناء المحافظة الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم    المستشفيات التعليمية تناقش مستجدات طب وجراحة العيون في مؤتمر المعهد التذكاري للرمد    قبل صافرة البداية بساعات.. بث مباشر مباراة السعودية والإمارات في كأس العرب 2025 وكل ما تريد معرفته عن القنوات والتوقيت وطرق المشاهدة    الأردن يواجه المغرب في نهائي كأس العرب 2025.. كل ما تحتاج لمعرفته عن البث المباشر والقنوات وطرق المشاهدة أونلاين    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتح السفرجي باب شقة عبدالحليم ففوجئ بجمال عبدالناصر يستأذن في الدخول
نشر في القاهرة يوم 24 - 04 - 2012

مع وجود طلب هائل علي نتاج فن يلعب دورا ارتقائيا ويعبر عن الأشواق الروحية الجديدة للناس، ارتبطت مدرسة "جاهينطويلحليم" ارتباطا لا ينفصم بمعاناة الشعب وآماله وكان ذلك بين الأسباب التي عززت احتضان الناس لها.. لقد كانت بين محاولات التعبير الغنائي الأوفي عن قضية النهضة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.. وكانت منارة من منارات الفن والوعي حين يدرك الفن دوره الحقيقي في دفع التقدم والقضية هنا تتجاوز الفن والغناء إلي طبيعة الوجود لأن أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه- كما قال ابن خلدون- هو "صناعة الغناء" فالأمر مؤشر علي فتور الهمة الإبداعية والحماسة وعناق الحياة عناق حميم كان إسماعيل شبانة أخا حليم قد تقدم في ممارسة الغناء وراح يلح علي أخيه الصغير بضرورة دراسة الموشحات والأدوار حتي يقتفي أثره ولا يهدر صوته الجميل. وسافر حليم عام 1945 إلي القاهرة، وعاش مع أخيه إسماعيل الذي كان قد أنهي دراسته بمعهد الموسيقي حيث التحق حليم للدراسة في قسم الآلات بالمعهد وكان طبيعيا أن يلتقي هناك بكوكبة من المتطلعين النابهين بينهم المطرب كمال الطويل الذي حضر إلي القاهرة بعد أن أنهي الدراسة في معهد جمجوم لتعليم الموسيقي في الإسكندرية علي أمل مواصلة دراسته تداعبه أحلام أن يغدو مطربا يشار إليه بالبنان.. أيامها اعتذر د. محمود الحفني عميد معهد الموسيقي والمسرح عن قبوله لأن الدراسة بدأت منذ شهور ولما اكتشف الرجل أن كمال هو ابن صديقه القديم الشاعر زكي الطويل تراجع وعقد له لجنة قررت قبوله بعد توصيته بالاجتهاد لكن كمال سرعان ما اكتشف أن كل زملائه يتقدمون عليه بأشواط تتجاوز ما فاته من شهور الدراسة فأغلبهم من النابهين خريجي معهد فؤاد الأول ومنهم أحمد فؤاد حسن وعلي إسماعيل وفايدة كامل وحليم شبانة حليم يكتشف الطويل لقد لفت حليم نظر الطويل لأنه كان صغير السن والجسم، ولأنه كان لا يحضر إلا محاضرات التمثيل. ولما سأله عن السبب أخبره بأنه يدرس آلة الأوبوا وغاوي تمثيل، ولأن الطويل استراح إليه أخبره بأنه يفكر في ترك المعهد، لأنه يجد صعوبة في ملاحقة مدرسيه وزملائه. فوعده حليم بمساعدته علي مراجعة ما فاته، وسرعان ما تكررت اللقاءات وتوطدت الصداقة بينهما. راح كل منهما يتحدث عن أحلامه، كمال في عالم الغناء، وحليم في عالم الموسيقي. لكن حليم، بخبرته وذكائه وحساسيته الفنية، اكتشف رويدا أن كمال ملحن أكثر منه مطرباً، ولما سأله لماذا لا يلحن استحسن الطويل الفكرة، وراح يبحث في أشعار والده، واختار قصيدة "إلهي ليس لي إلاك عونا.. فكن عوني علي هذا الزمان"، وعندما استمع حليم إلي اللحن أعجب به واتفقا مع زميلتهما فايدة كامل- وكانت مطربة معتمدة بالإذاعة- علي غناء القصيدة، التي نجحت كثيراً مما دفع كمال لمواصلة مشوار التلحين، فاختار قصيدة أخري لوالده "قل ادعو الله" لتغنيها شادية. تخرج كمال وحليم، وذهب كمال مدعوما بوضع والده ليعمل في الإذاعة، بينما عين حليم مدرسا للأناشيد في مدرسة النحال الإعدادية للبنات في الزقازيق، لكنه سرعان ما التحق في نفس الوقت كعازف أوبوا بالإذاعة، بعد أن قدمه إسماعيل شبانة وكمال الطويل إلي بعض معارفهما، ومع حماس أحمد فؤاد حسن له، انضم لفرقته كعازف أوبوا. أغاني "يحيا الحب" كان حليم مشغولا بأداء أغاني عبدالوهاب العاطفية في فيلم "يحيا الحب" لتلميذاته، أكثر مما هو مشغول بتدريس الموسيقي والأناشيد! وفي القاهرة أيضا لم ينس الغناء، وفي أوقات فراغ العازفين كان يغني لهم فيدهشهم بحلاوة صوته ورقته، وهكذا اختير للمشاركة في عمل دوبلاج بصوته لفيلم "مصباح علاء الدين" الهندي (1951) وغني فيه أربع أغنيات، وسرعان ما وجد طريقه إلي الغناء في الإذاعة علي نحو غير رسمي، من خلال أركان عبدالحميد زكي توفيق وأحمد صبرة، و... . وكما اكتشف حليم ملكة التلحين لدي كمال الطويل راح الطويل يؤكد له أن مستقبله الحقيقي في الغناء، ويحثه علي التقدم لاعتماد صوته في الإذاعة. كانت دنيا الطرب لا تعترف في الماضي إلا بالأصوات القوية الجهيرة من الرجال والنساء. وحلاوة الصوت لم تكن تغني عن جهارته، لأن الحلاوة لم تكن لتبلغ الأسماع- قبل الميكرفون- إلا في جلسات ضيقة لا تتيح للمطرب أن يشتهر أو يتكسب، كما يحدث لأصحاب الأصوات الجهيرة. وجاء مكبر الصوت فأزال الخوف علي الصوت الخافت الصغير المساحة والحجم، لأن نبراته الهامسة صارت تكبر وتصل بسهولة للمستمعين، لكن الولع بالصوت الجهير، في مجال تقويم الأصوات، كان لايزال مسيطرا بفعل القصور الذاتي، فاتهم صوت حليم- ربما لكون الميكرفون أداة أجنبية- بأنه خواجاتي، ولم يكن كذلك لا بروحه ولا بتدريبه ولا بمخارج ألفاظه، بل كان جديد التصوير جديد التعامل مع المقامات الغنائية والقفلات والزخارف اللحنية، كما أن مساحته لم تكن ممهدة علي الطريقة المتعارف عليها لدي مشاهير الغناء في عصره، فأحباله الصوتية بعيدة عن القرارات (الأصوات الغليظة) والجوابات العالية (الأصوات الرفيعة) ولهذا كان- الصوت- يشبه، في جملته وبعض تفاصيله، لهجة غير مألوفة للأذن القديمة. وكان حليم يعي ما ينقص صوته، منذ اتفاقه مع أخيه علي دراسة الموشحات والأدوار، فتدارك الأمر بالتدريب والاستيعاب والصقل، ووضع أنفاسه المدربة الخبيرة، التي يستحيل دونها ضبط نغمات الأوبوا، في خدمة حنجرته، وغير من نبراته الهادئة المنخفضة المحصورة في مساحة صوتية ضيقة، فازدادت متانة أدائه، وتلاعب فيه بحيث تجعله التباينات يبدو أطول وأكثر عمقا وامتدادا، ومع ذلك بقيت علي حواشي الصوت آثار اللهجة الخاصة، التي جعلت حليم وفق تعبير عبدالوهاب فيما بعد: "سكة جديدة في الأداء رغم مساحة صوته الضيقة". وجعل دأب الصوت الحنون الرقيق العذب الذي يحمل مذاقاً مختلفاً وأداء جديدا، حليم يواصل صب الشجن في وجدان الناس ليعرفوا معه رويدا الوجد، وصدق المشاعر المتراوحة بين الفرح الآسر والحزن النبيل، ليحيط به الجمهور ويحتضنه. وبعد أن صار الحكم للجمهور لم يعد لاعتراض أحد، أيا كان، معني أو قيمة. وهكذا أسدل الستار علي مرحلة غنائية بكاملها ليبدأ عصر حليم. المناخ العام والبطل الجديد كانت أيام ربيع الأغنية الفردية، بعد أن وضع الميكروفون- كما وضعت حفلات الإذاعة المرئية والمسموعة- إمكانات هائلة في خدمتها. ولم يكن مسرح الغناء وحده الذي يحتاج إلي بطل جديد، فقد كان الظرف العام في حاجة إلي مثل هذا البطل مع نهاية الأربعينات وثورة يوليو 1952، بالذات مع وجود طلب هائل علي نتاج فني يلعب دورا ارتقائيا، ويعبر عن الأشواق الروحية الجديدة للناس مع الثورة. وهكذا ارتبط حليم القادم الجديد- الذي لا ينوء كاهله بأعباء مراحل سابقة- ارتباطا لا ينفصم بمعاناة الشعب وآماله في حينه، وكان ذلك بين الأسباب التي عززت احتضان الناس له. ولا بأس من استباق الأحداث هنا إلي مشهد لعب دورا في جعل حليم صوتا لثورة يوليو. فقد اصطحب صلاح سالم حليم (جاره وصديق أخيه) في نوفمبر 1952 للقاء عبدالناصر، الذي بادره وهو يصافحه: "أنت فنان شاب ومخلص وابن لهذه الفترة، وقد عرفت ما حدث في بداية طريقك بالإسكندرية فلا تحزن، إن ما حدث ليس فشلا. إن أهل الإسكندرية لا يمنحون قلوبهم بسهولة.. وأسلوب أدائك الجديد فاجأهم". كان حليم قد كون ثنائيا مع كمال الطويل زميل الدراسة، وانتقل للعيش في حجرة بالمنيل إلي جوار بيت زكي بك الطويل في الروضة، الذي كان أشبه بالندوة أو النادي، يؤمه أناس في حجم كامل الشناوي وأحمد بهاء الدين و...، وهناك نضجت سكة "حليمطويلية" قادت إلي التوافق العجيب بين صوت حليم ولحن الطويل. مؤسسة اللحن والكلمة لقد ساعد حليم علي صنع شخصية غنائية متميزة، مع جيل من الملحنين الجدد، يضطرم وجدانهم بنزعات التغيير ويميلون إلي التعبيرية والانطباعية الجديدة، ملتزمين في إبداعهم إيقاعا جديدا وروحا جديدة.. الطويل الذي أدخل إيقاع العصر للموسيقي المصرية، والموجي الذي أبدع شرارات موسيقية خالصة الطابع الشرقي، وبليغ حمدي الذي طور موسيقانا الشعبية ومواويلنا وغير من إيقاعها. لكن صوت حليم وطريقة أدائه فرضا علي ملحني أغانيه أسلوبا "حليميا" خاصا. إذ كان الملحن يجد نفسه ملزما بمراعاة المساحة الصوتية الحليمية الضيقة الخصبة، ذات الطعم الخاص والجو الخاص. ولم يكن حليم يردد وراء الملحن ما يقوله، بل كان يستمع إلي اللحن ويستوعبه ويتمثله، ثم يفرزه بطريقته الخاصة. ولهذا مهما اختلف الملحنون في أساليبهم ظل الجو العام لأغاني حليم لا يتغير. بل ووصل الأمر إلي "فرض" حليم جوه الخاص علي جو الأغنية العام في حينه، وإذا لم يكن غريبا أن يلحن له عبدالوهاب ملتزما بالمنهج الحليمي، فإن غناء عبدالوهاب نفسه متأثر بالجو الحليمي الخاص لأمر بليغ الدلالة. لقد صنعت المدرسة الجديدة مجري جديدا للأغنية. القصر والتنوع في العناصر الإنسانية: من المرح إلي الحزن الشفاف إلي الدراما الخفيفة والرومانسية و... . وقد فرض هذا اللون نفسه، لأن فيه حركة ومرحا وحيوية أكثر من أغاني أم كلثوم. ومن الطريف أن ثومة طلبت من كمال الطويل يوما أحد ألحانه، ولما سألها عن طبيعة اللحن الذي تريد ردت: "عاوزة لحن زي اللي بتعملهم لحليم"! لكن الأمر سرعان ما بلغ ذرا أخري. قدرات جاهين الفذة كان أحمد حلمي جد صلاح جاهين أول صحفي مصري يحاكم ويسجن بتهمة العيب في الذات الخديوية. وكان رائدنا الطلعة يدعو للثورة شعرا: "يا شعب اكسر قيود الضيم ما قويت/ واخلع رداء هوان طال تذييلا، وانهض وحاسب وخذ حقا ومت شرفا/ فالموت أبقي من التخليد مذلولا"، كما أنه أصدر عام 1900 مجلة (الهوانم) بالعامية المصرية وأتبعها بأسبوعية (القطر المصري) عام 1908 . وقد نشأ صلاح في كنف هذا الجد يشهد احتفاء الجميع به. وكانت أمينة حسن زكي، والدة صلاح من طليعة المتعلمات حتي أنها رشحت لبعثة إلي أوروبا لاستكمال تعليمها. لكن أباها رفض هذه البدعة وسلمها إلي زوجها بهجت أحمد حلمي، لتسلك الطريق المعتاد لبنات جنسها، وتلد بكرها صلاح، الذي حاولت معه تعويض ما لحق بها من خسارة وظلم في مجال التعليم، فأحاطته برعاية الأم المربية الرائدة الواعية، وأقامت له في كنفها مدرسة خاصة بادئة بتعليمه القراءة والكتابة وهو في الثالثة من عمره. وبتأثيرات الجد وعالمه الذي يحتفي بالشعر واللغة العامية، ومع اهتمام الأم غرم صلاح بالشعر والقراءة، وكانت مكتبات الأسرة وعلي رأسها مكتبة جده طوع بنانه. ولما كانت علاقات صداقة صلاح مع أقرانه تتقطع بسرعة، مع تكرار تنقل الأسرة مع والده، فقد تعزز ميله إلي الانطواء وطالت صحبته للكتب، وهكذا تجاوز مكتبات الأسرة إلي كل ما طاله من المكتبات العامة، في المدن والبلدات الكثيرة التي اختلف إليها، في ركب والده، ذلك أن مهنة الحقوقي جعلت الأسرة رحالة نشطة بين أقاليم مصر المختلفة. وكان صلاح إلي جوار ذلك يتوقف طويلا، في كل مكان حطت فيه الأسرة، منصتا إلي لهجات الناس وأغانيهم (الزواج والسبوع والطهور والحصاد و...) ليحفظها ويرددها. ومنذ تلك الأيام شغف صلاح بالغناء والشعر، ونمت قدراته كثيرا مع تورطه في عوالم زكريا الحجاوي واليسار والاشتراكية. ثورة غنائية حين عرف حليم طريقه إلي قدرات جاهين الفذة في تبسيط المعاني وقعت ثورة "جاهطويلحليمية". إن صلاح جاهين هو الشاعر الذي جعل العامية تمتطي جواد البهجة والفرح والحلم، وقد كان حليم منفتحا عن قناعة علي فهم تيارات عصره، ولم يغلق ذاته علي مآسيه الشخصية ويعزلها عما يجري حوله، وكان ما يشغل الناس يهمه دوما. كانت أشعار جاهين انعكاسا حقيقيا خلاقا للأحداث التي تمر بها الأمة العربية، لا تفرق بين ما هو ذاتي وما هو عام. وكان الوطن عنده يجري في الدماء كما الأم والحبيبة والابن و...، وهكذا بدأت سلسلة الأغاني الشهيرة التي كان يكتبها جاهين ويلحنها الطويل ويغنيها حليم، لتصبح في اليوم التالي علي ألسنة كل الناس. كانت تجسيدا تلقائيا لحالة الصحوة العامة، والأمل في الإنجاز والحياة: «مصانع كبري، مزارع خضراء، تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا». واستطاع جاهين أن يحول أعقد المعاني السياسية إلي كلمات غنائية قابلة للحفظ والترديد، بعد تطويعها بالحس الشعبي الراقي عند كمال الطويل، في ألحان تجد صداها في الأذن المصرية ليحملها شدو حليم، ناقلا المرتبطين بصوته وبالحياة من مزاج الهيام
والوصال والهجر و..إلي مزاج الانشغال والوجد بقضايا الإنسان والوطن والمصير فيما يشبه الإعجاز. بالأحضان: "يالي علي الجرار وقصاد لهاليب الصلب.. يا سواعد عربية.. ونفوس حرة أبية.. يحميكم وتدوم الهمة ويحيا الشعب".. "نفوت علي الصحرا تخضر.. نشقي خدود الناس تحمر.. والمسئولية بين أحضاننا مقاديف توصلنا للبر". ويستوقف النظر في هذا الصدد موسيقي الطويل البارعة في تجاوبها مع الحس الشعبي لأشعار صلاح ومناسبتها للموقف.. لنتذكر مثلا المقدمة الموسيقية التي صنعها الطويل لأغنية المسئولية، مجسدا إياها في فرح شعبي صاخب بالمزمار الصعيدي والزغاريد والتصفيق. لقد كان دخول عازفي المزمار الصعيدي وحاملي الطبول بأزيائهم الشعبية إلي المسرح لكي يصطفوا إلي جانب عازفي الفرقة الماسية بين الاختراقات الجديدة للفرقة الموسيقية التقليدية. وكان ذلك أحد الابتكارات الذكية الجريئة للمدرسة الطويلجاهينية، ولحليم وقدرته علي تقديم نفسه في فرح شعبي وسط إحساس غامر بالنشوة، إذ أدرك بذكائه الفطري أن ظهور هؤلاء العازفين بأزيائهم وآلاتهم المميزة لن يبعث الحيوية في اللحن بآلاته "الرسمية" المعتادة فقط، وإنما سيدخل عنصر البهجة والاندهاش والصهللة علي الجمهور نفسه، الذي راح يستعيد عزفهم مرة ومرات، في ترحيب حار، دع عنك أن ذلك كان يتماشي مع ما يسعي إليه صلاح والطويل وغيرهما في العودة بالأغنية المصرية إلي أصولها الشعبية، ومحاولة خلق جو الفرح الشعبي الصادق. ثروة قومية هكذا حين عرف حليم طريقه إلي موهبة صلاح جاهين الفذة في تبسيط المعاني ازداد اهتمامه بالحياة والسياسة، فكان أكثر من غني- دون افتعال- أغان سياسية بالمعني الأشمل. كانت هناك رغبة في مشاركة الناس حياتهم وأحاسيسهم، فكان يجري التقاط الشرارة منهم، ثم إعادتها لهم غناء شجيا، ومن هنا كان النجاح المدوي لهذه الأغاني. لهذا رأي البعض أن موهبة جاهين وحليم كفيلة بجمع شمل الأمة حول أهداف النهضة، ورأي البعض أن هذه المدرسة تستطيع التأثير علي الناس العاديين أكثر من مقالات "هيكل" ومن شعارات الاتحاد الاشتراكي، وكان عبدالناصر يتحدث عن عبدالحليم حافظ بصفته ثروة قومية. والقيمة الحقيقية للمدرسة ال "جاهطويلحليمية" أنها كانت فتحا ألهم الآخرين، بجاذبيته وتمثله للواقع ووعيه بالمصير، ودفعهم إلي المشاركة في خوض بحورها وجني ثمارها. فها هو أحمد شفيق كامل يقدم مع الطويل وحليم "حكاية شعب: الحكاية مش حكاية السد. حكاية الكفاح اللي ورا السد. حكايتنا إحنا". وها هو الموجي يقدم مع صلاح وحليم "بستان الاشتراكية...". وقد سبق أن أشرنا إلي ما قالته أم كلثوم للطويل، عن حاجتها إلي ألحان مثل التي يصنعها لحليم. وحتي ندرك مغزي ما فعلته هذه المدرسة بالغناء لابأس من كلمات ذات مغزي..تقول ثومة: وأنا أغني مرة "سبحان من أرسله رحمة" صفر الجمهور وراح يصيح "عاوزين هات القزازة واقعد لاعبني". ليلتها لم اغضب، لأن الجمهور يعتاد ما يقدم إليه. وفكرت في تعويده علي أشياء أخري. هكذا اتخذت أم كلثوم نهجاً جديداً في الغناء، ورغم يقظتها المبكرة لتجنب الأغاني المبتذلة، استطاعت أن تشق طريقها وسط زحام المطربات. ولم يكن رامي يفكر في أن ينزل عن عرش الشعر، ولكن تأثره بصوت أم كلثوم وحبه لها دفعه إلي أن يطرق ميداناً جديداً يمزج فيه الشعر بالزجل، ليدخل قلب كل مستمع، كما طلبت منه ثومة. وقطعت أم كلثوم رحلة هائلة مع أساتذة كبار من عيار أبوالعلا محمد، والقصبجي والسنباطي وبيرم التونسي وآل عبدالرازق و... . لكنها وصلت بتأثير المدرسة الحليمطويلجاهينية إلي غناء: "من أرضنا هل الإيمان والدين/ عيسي ومحمد ثورتين خالدين/ والعلم ثورة ومن هنا قامت/ والفن والحرية والتمدين/ ثوار نهزك يا تاريخ تنطلق/ نحكم عليك يا مستحيل تتخلق/ نأمر رحابك يا فضا تمتلئ/ والخطوة منا تسبق المواعيد". تبقي إشارة لا يمكن تجاوزها هنا.. عام 1963 غني حليم في عيد الثورة أغنية "المسئولية"، وبعد الانتهاء من الأغنية تعرض لنوبة من نوبات النزيف فسقط علي المسرح ونقلوه إلي منزله، ولم تمر ساعة إلا وكان باب بيت حليم يدق، وكان الطارق عبدالناصر نفسه. دخل عليه غرفة نومه قائلا: "خليك في سريرك" وقبل أن ينصرف- عبدالناصر- قال: "يا حليم إنت تلم نفسك دلوقت وتسافر للعلاج، ولما تيجي بسلامة الله حاول تتفق مع جاهين والطويل وتعملوا 28 أغنية صغيرة عن حروف اللغة العربية. لسه فيه ناس لا تعرف القراءة والكتابة. يمكن لما تعملوا الأغاني تساعدوا علي محو أميتهم".. ورغم أن كلمات ناصر كانت تحاول أن تخرج بحليم من أجواء الألم والمرض والفزع إلي أجواء الحياة والتطلع والمستقبل والقيمة والدور والإبداع إلا أن معناها كان ينطوي علي مغزي أكبر بكثير.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.