رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    ارتفاع سعر الذهب اليوم بالسودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 9 مايو 2024    رسميًا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 9 مايو 2024 بعد الانخفاض في البنوك    خبير اقتصادي: صندوق النقد الدولي يشجع الدعم المادي وليس العيني    مئات المستوطنين يقتحمون بلدة "كفل حارس" في الضفة الغربية | شاهد    «الرئاسة الفلسطينية»: نرفض الوجود الأمريكي في الجانب الفلسطيني من معبر رفح    ولي العهد السعودي يبحث مع الرئيس الأوكراني مستجدات الأزمة الأوكرانية الروسية والجهود الرامية لحلها    أنشيلوتي: هذا هو أفضل فريق دربته في مسيرتي    في بيان رسمي.. الزمالك يشكر وزارتي الطيران المدني والشباب والرياضة    فينيسيوس: الجماهير لا يمكنهم تحمل المزيد من تلك السيناريوهات.. ولم يكن لدينا شك بالفوز    «جريشة» يعلق على اختيارات «الكاف» لحكام نهائي الكونفدرالية    مع قرب بداية شهر ذو القعدة.. موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في السعودية: تخطيط لاستمتاع بأوقات العطلة    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    العظمى بالقاهرة 36 درجة مئوية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    من يرفضنا عايز يعيش في الظلام، يوسف زيدان يعلق على أزمة مؤسسة "تكوين" والأزهر    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    ليس مرض مزمن.. سبب وفاة والدة كريم عبد العزيز    القضاء هيجيب حق أخويا.. شقيق ضحية حادث عصام صاصا يوجه رسالة مؤثرة    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    محافظ الإسكندرية يكرم فريق سلة الاتحاد لفوزهم بكأس مصر    هل يعود إلى الأهلي؟... مصدر يوضح موقف محمد النني الحالي مع آرسنال    أيمن يونس: واثق في لاعبي الزمالك للتتويج بالكونفدرالية.. وزيزو "قائد الأحلام"    تعرف على موعد إرسال قائمة المنتخب الأوليمبي    رئيس جامعة القناة يشهد المؤتمر السنوي للبحوث الطلابية لكلية طب «الإسماعيلية الجديدة الأهلية»    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    تحالف الأحزاب المصرية يجدد دعمه لمواقف القيادة السياسة بشأن القضية الفلسطينية    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    ماجد عبدالفتاح: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بفلسطين    أخبار الحوادث اليوم: حجز السودانية بطلة فيديو تعذيب طفل بالتجمع.. والسجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز القاهرة الجديدة    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    رئيس لجنة الثقافة: الموقف المصرى من غزة متسق تماما مع الرؤية الشعبية    حسام الخولي ل«الحياة اليوم»: نتنياهو يدافع عن مصالحه الشخصية    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    متحدث الوزراء: المواعيد الجديدة لتخفيف الأحمال مستمرة حتى 20 يوليو    التحالف الوطنى يقدم خدمات بأكثر من 16 مليار جنيه خلال عامين    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في ختام الأسبوع الخميس 9 مايو 2024    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح أسترازينكا|فيديو    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    الكشف على 1209 أشخاص في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    موعد وعدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    «اسمع واتكلم» لشباب الجامعات يناقش «الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي»    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الحليم حافظ الذي لا يعرفه آحد !
نشر في صباح الخير يوم 30 - 03 - 2010

إذا ما كان الجميع يعرفون مأساة عبد الحليم حافظ كطفل يتيم هرب من قسوة الخال وأنياب الشراسة لزملاء الملجأ؛ فمن الرائع أن كل من يسمعه حتي كتابة هذه الكلمات إنما يرفرف في سماوات الفرح بهذا الصوت الشجي الذي بدد جدران «الملجأ» الذي نعيش فيه جميعا، فكل منا بشكل أو بآخر، - أراد أم لم يرد- يعيش سجين الإحساس بالوحدة حتي وهو سابح في حنان الأب والأم؛ أو وهو لاعب مع أصدقاء الشلة؛ فإحساس الوحدة يحيط بكل واحد منا سواء شعر به أو لم يشعر، ولكن من المؤكد أن أيا منا لن ينتبه إلي أشواك أحاسيس الوحدة إلا عندما تلمسه كهرباء الحب. عن نفسي لن أنسي أبدا لحظة الانتباه العارم التي كهربت كل وجودي وأنا أصعد سلم بيت أول حبيبة لي وقت أن كان العمر أربعة عشر عاماً؛ وترامي إلي الأذن دقات موسيقي «علي قد الشوق ياجميل سلم». كانت ملامح الحبيبة تضيء القلب بالفرح وصوت عبد الحليم يقتحم القلب مباشرة وهو يردد «أنا ياما عيوني عليك سألوني وأنا بأتألم».
أتعرف بعد سنوات من كمال الطويل كيف تم تأليف هذه الأغنية، حين كان عبد الحليم وكمال الطويل يسيران علي الكورنيش السكندري في واحدة من ليالي الصيف، وغازل كمال الطويل إحدي الجميلات فقال لها «علي قد الشوق ياجميل سلم»، فسمعها مؤلف الأغاني مرسي جميل عزيز، وكتبها أغنية تزرع القلب بالفرح، ودندن بها عبد الحليم لتكون هي القاطرة.
ثم تتبدد قصة الحب لأتوه عن الحب في بحيرة من الدموع عندما يغني عبد الحليم «لو شفتم عنيه حلوين قد إيه.. حاتقولوا انشغالي وسهد الليالي مش كتير عليه» وكان شعر الحبيبة في نعومة صوت عبد الحليم، وحين أعلنت ذلك لصديق العمر في تلك الأيام والذي صار من بعد ذلك أميرا للبحار ضحك أحمد نجيب لحظتها وهو يعلن لي أن عبد الحليم الذي تذيبنا أغانيه حاليا هو نفس المطرب الذي كان يغني علي مسرح اللونا بارك بأرض كوتة بالشاطبي، وهو من فضل عليه الجمهور ذلك المنولوجست السفيه حمامة العطار الذي يتبادل مع الجمهور الدخول في قافية تتناول الأم والأب. وأن أحدا لم يصغ إلي عبد الحليم؛ مما جعل المعلم صديق متعهد المسرح يفسخ عقده معه، وانسحبت معه من الاستعراض تحية كاريوكا؛ وأغلق المسرح لأن الجمهور كان يأتي في الأساس لرؤية تحية كاريوكا بعد وصلات الإهانة المتبادلة بين حمامة العطار والجمهور.
كان اليأس في أعماق المصريين صيف عام1951 قد فاض، ولم يبق لدي الناس سوي السخرية من أنفسهم، فكل شيء له رشوة محددة الرقم من الوظائف إلي كرسي البرلمان، وكان سكين المهانة فوق رقاب الجميع، والشرطة السرية تحكم من وراء ستار أو علنا، ولكنها لن تعتقل رجلا يسب نفسه أو يسب جاره، أو يتبادل القافية التي تتناول الأهل والأقارب مع منولوجست يفرغ ما في أعماق الناس من احتقار لأنفسهم.
أتذكر - وأنا ابن الإسكندرية - أني رأيت الناس تكاد أن تتشقلب من علي كراسيها وهم يتبادلون السباب والقافية مع حمامة العطار. وكنت مندهشا لذلك الصخب المجنون، فكيف يتجه هؤلاء الناس للاصطفاف علي الكورنيش لتحية الملك في ذهابه إلي مسجد سيدي المرسي أبو العباس لصلاة العشاء، ثم الخروج من المسجد إلي قصر المنتزه، ثم تسلله من قصر المنتزه إلي ملهي المونسنير كي يلعب البوكر مع أحمد عبود باشا ليقلب له الوزارة بعدة ألوف من الجنيهات.
ولا يعي الملك فاروق أن نماذج من فئات الشعب المختلفة كانت تستلقي علي أقفيتها وكأنها تلعن عدم قدرتها علي تغيير الوضع القائم، فتتبادل اللغة المبتذلة مع حمامة العطار، ثم تلقيه بالطماطم، ليخرج من بعده مطرب شاب هو عبد الحليم شبانة ليغني «صافيني مرة وجافيني ومرة.. وما تنسانيش كده بالمرة» من لحن شاب يقتحم دنيا الموسيقي بوهج بوهيمي يتواصل مع وهج «سيد درويش» «هو محمد الموجي»، لكن المستمعين يقذفون عبد الحليم شبانة ببقايا الطماطم التي مازال بعضها في أيديهم من بقايا ما قذفوا به المنولوجست حمامة العطار، ويطالبونه أن يعيش التكرار بغناء ما سبق وقدمه محمد عبد الوهاب. ولكن شيئا في أعماق عبد الحليم يرفض التكرار، وكأنه يقرأ بهذا الرفض نبوءته عن نفسه، فيخرج منكسرا من خشبة المسرح لتستقبله الراقصة التي كانت غارقة في هواه، والتي تحلم بأن ترقص أمامه كما ترقص سامية جمال أمام فريد الأطرش، أو كما ترقص تحية كاريوكا أمام كارم محمود، وحين تسأله الزواج، يضحك ساخرا، فمن أين يصرف علي زوجة ؟ وهل يسمح مرتب مدرس الموسيقي في ثلاث مدارس كي يتزوج، فهو معين في وزارة المعارف كمدرس موسيقي في طنطا وكفر الشيخ ومدينة ثالثة، أي أن عليه أن يقضي نصف عمره راكبا القطارات من محافظة إلي أخري لتستقبله ضحكات البنات في المدارس، ضحكات سببها صغر عمر المدرس فضلا عن عدم احترام إدارات المدارس لفكرة تدريس الموسيقي، فدراسة تلك الفنون في مدارس المحروسة هي لمناسبة الاحتفالات السنوية فقط دون رغبة في اكتشاف مواهب تعيش في المجتمع لتقتحم قمته، فعند المجتمع علي قمة الفنون ما يكفيه، هناك أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ولا مجال إلا لصغار قد يجدون الانبهار بهم، وعميق الترحيب بما يقدمونه، مثل ليلي مراد ومثل فريد الأطرش ومثل كارم محمود، ثم عبد الغني السيد، وهناك في الرقص تحية كاريوكا وسامية جمال، فلماذا يزيد عدد الفنانين علي القمة ؟ لذلك تم إهمال تدريس الموسيقي في المدارس لتكون احتفالية فقط.
ومن الشعبطة في القطارات إلي مسرح اللونارك بالإسكندرية لتلقي الرفض يتجه عبد الحليم بصحبة مجدي العمروسي إلي فيللا عبد الوهاب في جليم طالبا منه أن يسمع أغانيه، فيري عبد الوهاب ملامح الوجه الرافض للهزيمة والقابل للتحدي، فيظن أن صاحب الوجه في حاجة إلي دعم مادي، فيقدم له خمسة جنيهات، ويحاول إنهاء المقابلة. ويري عبد الحليم في الجنيهات الخمسة أفعي تقتنص كرامته، فهو من جرب رحلات اقتناص الكرامة حين كانت زوجة الخال تقطع الفرخة كقطع صغيرة تكفي أبناءها وهذا الضيف ابن بهانة شقيقة عماشة زوجها. فتحاول أن تترك جلد الفرخة فوق الدبوس ليبدو نصيب عبد الحليم كبيرا، ولكن أصابع زوجة الخال كانت قد اقتنصت جزءا من لحم الدبوس لتضيفه إلي نصف ورك الفرخة الذي تعطيه لواحد من أبنائها.
لم يكن عبد الحليم قادرا علي قبول اقتناص للكرامة من أي أحد حتي ولو من محمد عبد الوهاب، هذا المطرب الذي سقط عبد الحليم ذات مرة من فوق عمود خشبي محاولا الاستماع إليه، فتنكسر ساقه ليضربه شقيقه إسماعيل حتي وهو محمول علي حمار كي يتم تجبيس ساقه في المستشفي الأميري، ويكون تجبيس الساق هذا هو ثاني عملية تجبيس لساق عبد الحليم، فقد انكسرت من قبل عندما سقط باب بيت قديم علي عبد الحليم وكاد أن يفصل جزءا من ساقه عن بقية جسمه، ولم يستطع حتي أن يصرخ لأن حصانا كان مربوطا بجانب الباب أخذ يلحس وجه عبد الحليم وكأنه يطيب خاطره.
يرفض عبد الحليم نقود عبد الوهاب لأنه رآها تكسر كرامته.
نضحك معا حين نتذكر ذلك ومعنا طبيبه الخاص هشام عيسي وكان صوت مجدي العمروسي متسائلا عبر التليفون '' هل يعطي ذلك الثري الكويتي عدة آلاف من الجنيهات لأن عبد الوهاب اقترضها منه أثناء تواجده في فندق البرنس دوجال بباريس أم ماذا ؟. ولابد من إيضاح تلك المسألة للشريك الثاني في صوت الفن وهو عبد الحليم، فقد اشتكي هذا الثري الكويتي لمكتب الرئيس السادات من تهرب عبد الوهاب منه كلما اتصل به طالبا سداد الدين. وركب الثري الكويتي رأسه عنادا فلم يقبل أن يضحك عليه محمد عبد الوهاب. والحكاية ببساطة أن عبد الوهاب كان ينزل في الفندق الباريسي الفخم البرنس دوجال، وسمع الثري الكويتي خبر وجود موسيقار الأجيال بالفندق، فاتصل به ليجلس معه. وكان عبد الوهاب طوال مدة زيارة الثري الكويتي له يرفع سماعة التليفون ويسأل شخصا ما عن ميعاد وصول التحويل المالي، فأحس الثري الكويتي بأن عبد الوهاب في حاجة إلي سلفة، وسأله عن قدرها وناوله إياها. وعندما زار الثري الكويتي القاهرة طلب منزل عبد الوهاب، فتهربت سعاد مديرة المنزل منه ولم توصله بالفنان، فما كان من الثري الكويتي المرموق سوي رفع الأمر لمكتب الرئيس السادات الذي اتصل بدوره بالعمروسي طالبا حل المشكلة. عبد الحليم يعلم درجة حرص عبد الوهاب المالي، إلي الدرجة التي كان يقدم فيها الدعم لأبنائه ثم يجبر الشركة علي تسديد ما قدمه لأبناء عبد الوهاب.
؟؟
صعد النجم إلي القمة علي سلم من الحلم والألم. الحلم الذي رواه عبد الحليم هو ذلك الإخلاص العميق الذي ينضح به صوته الخلاب في كل تفصيلة من تفاصيل الأداء، وهو معاملته لكل أغنية من أغانيه معاملة أي مايسترو عالمي من حيث تعرف أي مايسترو علي قدرات كل عازف، ومحاولة ضبط روح كل عازف مع آلته لتنسجم بدورها من خلال البروفات مع بقية العازفين. ولعله - وهو الدارس للموسيقي المسرحية - يعرف كيف يجب أن تكون الموسيقي مخترقة تلال التوتر في القادمين إلي المسرح كي يستمعوا إلي الموسيقي، وأن المطرب الحق هو من يقوم بتمثيل الكلمات فلا يكتفي بتلوين الصوت فقط، بل لابد أن يكون الصوت مفتوحا علي المشاعر، مغموسا في أعماق ما تحمله كل كلمة من معني، ويمكننا أن نقول بمنتهي الراحة أن اثنين فقط عبر تاريخ الأداء الغنائي قد تبوءا تلك القمة، وهما أم كلثوم التي تغني بكل ملليمتر من وجودها الحي وعبد الحليم حافظ الذي يغني بكل ملليمتر من وجود طاقات المشاعر التي يعبر عنها.
أما أغلبية من يغنون فهم يحترفون تلوين الصوت لإبراز جمالياته، دون إبراز ما تحمله الموسيقي والكلمات من معان اللهم إلا ثلاثة استثناءات واضحة هم محمد الحلو ومحمد منير وعلي الحجار.
ومن ينظر إلي الفرقة الموسيقية التي تعزف مع عبد الحليم حافظ سيري ما لاتخطئه العين هو انضباط قوس كل كمان مع كل ضربة إيقاع مع كل نفخة في أي آلة من آلات النفخ.
ومن قضي ساعات مثلي في غرفة مكتب عبد الحليم حافظ الموجودة بجانب غرفة نومه سيجد اسطوانات الموسيقي الكلاسيكية لكبار المؤلفين العالميين، وقد يكون قد نال شرف متابعة عبد الحليم وهو يرقب تدفق صوت كل آلة موسيقية لتعانق الصوت الصادر من بقية الآلات.
ولا أظن أن إصرار عبد الحليم علي تكرار البروفات لكل أغنية كان عن جهل بما يمكن أن تفعله التكنولوجيا من خلط أصوات الآلات، بل كان يتوقع ذلك، ولكنه كان يحترف مزج أعماق ومشاعر كل عازف في الفرقة الماسية مع كل كلمة من كلمات الأغنية وكل جملة موسيقية كتبها الملحن. وها أنذا أضحك من مشهدين في الذاكرة، المشهد الأول وهو يغار من كمال الطويل حين أعطي صوت سعاد حسني في '' خلي بالك من زوزو '' كل طاقات الإحساس، فيعلق '' إنها مطربة تتنازل عن الغناء لحساب شقيقتها الكبري نجاة الصغيرة ''. ويصمت قليلا ليؤكد أن كل لحن يؤلفه كمال الطويل يترك وراءه كمية من الجمل الموسيقية تكفي لتلحين عشرات الأغاني، وهذا حال الموهوب المبذر كمال الطويل الذي يرفض أي جملة موسيقية يري فيها لمحة من ضعف التعبير».
وعندما استطاع عبد الحليم انتزاع عبد الرحمن الأبنودي أولا من محمد رشدي، وكتب له أغنية «أنا كل ما أقول التوبة ترميني المقادير» ليلحنها علي إسماعيل كأغنية راقصة، هاج عبد الرحمن الأبنودي ضد اللحن، ولكن عبد الحليم كان يضحك قائلا له '' ستعيش هذه الأغنية لأجيال، وسيحسدنا عليها من يأتي من المطربين بعدنا، وذكرت عبد الرحمن الأبنودي بذلك عندما اختارتها '' ماجدة الرومي'' لتؤديها فور عودتها إلي الغناء في مصر، فقال عبد الرحمن '' رحم الله عبد الحليم كان أكثر حساسية للمستقبل''.
وعندما التقط بليغ حمدي من انغماسه اللاهي طوال الوقت بمعهد الموسيقي العربية، أجده وهو يخاف من سطوة أم كلثوم علي من يلحنون لها، ولكنه يصحب بليغ في رحلة إلي المغرب، ثم رحلة إلي الولايات المتحدة، ولا يضن بأي قدر من الاسطوانات يقتنيه بليغ، فالموسيقي بالنسبة للمؤلف الموسيقي هي كالكتاب بالنسبة للكاتب، فلماذا لا يسبح بليغ في أي موسيقي يهواها.
ولن أنسي أيام أكتوبر 1973 وأراد أن يغني للانتصار، فأخذ عنوان مقال كتبه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، وجعلها مقدمة لأغنية '' عاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب ''. وأكمل الشاعر الغنائي محمد حمزة بقية كلمات الأغنية. فأين بليغ حمدي ليكمل اللحن ؟
البحث يجري ليلا ونهارا عن بليغ فلا يجده عبد الحليم، فيمسك بالعود ليلحن هو الجملة الموسيقية الأولي في هذا اللحن، ثم يأتي بليغ ليكمل اللحن.
وعندما تستولي وردة علي كل وجود بليغ حمدي يكاد عبد الحليم أن يجن، لأن كمال الطويل ضنين للغاية في التلحين، وبليغ منتشر بين أم كلثوم ووردة،وكل من يطلب منه لحنا، وتحتل وردة كل وجود بليغ فيوقظ الصداقة بينه وبين محمد الموجي، تلك الصداقة التي ينام فيها جرح زواج الموجي لأيام من الراقصة التي أحبت عبد الحليم في الإسكندرية. فعبد الحليم لا يغفر أبدا لأي امرأة تمنته ثم اتجهت إلي غيره إما لأنه مشغول عنها بنفسه وأغنياته، وإما هو مشغول عنها بالمرض، وهو مرض متوحش ومفترس.
ويقوم محمد الموجي بتلحين «رسالة من تحت الماء» لنزار قباني، ومعها موشح «يا مالكا قلبي»، ولن أنسي تلك الليلة التي حضرت غناءه لها في قاعة الاحتفالات الكبري بجامعة القاهرة. وكيف صعدت سيدة علي المسرح لتحكي له خناقتها مع زوجها، فيضحك لها، وأسأله آخر الليل: «هل أنت طبيب نفسي ؟ يضحك من صميم قلبه وهو يقول '' قل ذلك لصديقك أحمد عكاشة حتي يكتب شرائط أغنياتي بدلا من الأدوية ''. وكان عبد الحليم في تلك الأيام يزور أحمد عكاشة لأنه يرغب في التخلص من عادة التفاؤل والتشاؤم التي تغمره كطوفان عارم، خصوصا من بعض أفراد عائلته. ولم يكن عند أحمد عكاشة حل لذلك سوي الاستماع لعبد الحليم ومحاولة كتابة مهدئ للتوتر الغامر الذي يعاني منه كلما فرغ من أداء أغنية جديدة، ثم ينسحب هذا التوتر المتشائم ليحمل محله توتر جديد بمناسبة الأغنية الجديدة.
وعندما لم تأته نوبة التشاؤم من أغنية «فاتت جنبنا» أيقن أنها لن تنجح مثلما نجحت «رسالة من تحت الماء». وما أن استعد لأغنية «قارئة الفنجان» فرح بهذا التشاؤم، الذي انقلب إلي فرح وتفاؤل.
ومازلت أسمع ماقاله لي أحمد عكاشة عن هذا الموهوب بغير ضفاف عبد الحليم حافظ '' الأغنية بالنسبة له هي رسالة منه إلي الحياة كي تأذن له بالبقاء فيها، فالكبد المتهالك يسرق أيام العمر، وهو يطرد الموت بالغناء.
ومازال عبد الحليم حتي كتابة هذه السطور يطرد الموت بالغناء رغم وجوده تحت الثري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.