إن المتتبع لكتابات نجيب محفوظ سواء الصحفية أو إبداعاته الأدبية من رواية إلي القصة القصيرة سيجد أنها ترصد أعمق الأحاسيس والمشاعر الإنسانية بنوع من النبل والسمو، وتكاد تجزم أن مداده مزيج يبقي القلب والفؤاد معا.. فيدافع عمن أوقع به الظلم حتي عندما امتدت يد الإرهاب إليه.. كان قلبه علي شباب بلاده، فقد اتسع قلبه لكل مصري منذ أن وهب نبضاته لهذا الشعب. ويتجلي ذلك في روايته «اللص والكلاب» عندما يدين جميع الظروف التي تضع الإنسان في ساحة الإرهاب فإنه لا ينظر إلي القوة كوسيلة للردع، ولكنها قدرة لإحقاق الحق، وإنها لإنصاف المظلوم من ظالميه. ولعل ذلك المفهوم الحافز دائما للرؤية الإبداعية التي تمجد خط أبناء البلد أي تمجد الشهامة والنخوة الفتونة لإنصاف من يقع عليه الظلم لذلك كانت سمة بارزة أسبغها علي إبداعاته الروائية التي استلهم أجواءها من الشارع المصري بل الحارة المصرية. فإذا عدنا إلي ملحمة الأجيال في الثلاثية سنجد أن جزءها الثالث يحمل عنوان «السكرية» وهو اسم حارة عتيقة، قدم من خلالها الجيل الثالث للسيد عبدالجواد، ففيها بيت خديجة حيث تدور أبرز الأحداث في المجتمع المصري في الفترة من عام 1925 حتي عام 1944م. ولقد شاء نجيب محفوظ أن يرصد سائر التحولات الفكرية من خلال أبناء حارة «السكرية» حيث تنمو الأفكار الجديدة وتعبر عن جيل منه من يتبني أفكار الإخوان المسلمين وآخر تجذبه الأفكار الشيوعية، ونوع ثالث يجعل من السياسة لعبة لتحقيق غايته. فهنا خضم الأفكار التي تتصارع في مناخ يتجه نحو التغيير والتجديد، وأمر طبيعي أن يكون حال الشباب علي هذا الوضع، فالحرب العالمية الثانية لم تجعل لمصر دورا تحريريًا حقيقيا حتي تبدأ مرحلة بناء المجتمع الجديد فالانتصار للمتبوع بينما ظلت حقوق التابع في الحرية معلقة، وعليه فما أسهل أن يضيع الشباب في خضم الصراعات الفكرية التي جاءت رد فعل لهذه الأوضاع التي احتشدت الأحداث في حارة أو رواية «السكرية» وأنه أيضا أروع ما حفلت به ملحمة «الحرافيش» فقد احتشدت تنوعات بشرية ترعرعت في حواري مصر القديمة فجاءت نماذجها الشعبية مصداقا لتلك البيئة، لذلك فإن إطلالة علي اللوحات القصصية في «حرافيش» نجيب محفوظ خصوصا حكاية «عاشور الناجي» نجد أنها دعوة صريحة للثورة علي التسلط.. وأنها قد بدأت في الحارة المصرية أو قل إنها دعوة لمواجهة ترهيب أهل الحارة. وهذا مما يوضح أن موقف نجيب محفوظ ضد الإرهاب له جذوره في إبداعاته، وأنه مشفق علي الناس من تبعة هذا التوجه المروع.. وهو ذات موقفه عندما دفعت القلة الضالة المضللة بمن وجه إليه طعنة غادرة في عنقه وقد عافاه الله من جرحها الغادر. وبرغم رقدته التي تألم لها كل إنسان أعلن نجيب محفوظ أن قلبه علي شباب بلاده. وإطلالة علي حرافيش نجيب محفوظ خصوصا حكاية عاشور الناجي سنجد دعوته للثورة علي التسلط والترهيب بدأت من الحارة أيضا، فلنتأمل هذا الحوار الذي يدور بين أولاد الحارة. وذات يوم طرح عاشور هذا السؤال علي الحرافيش: ماذا يرجع حارتنا إلي عهدها السعيد؟ «يقصد مواجهة الفتوة المتجبر شيخ الحارة حسونة السبع». وأجاب أكثر من صوت: أن يرجع عاشور الناجي. تساءل باسما: هل يرجع الموتي؟ فأجاب أحدهم مقهقها: نعم. قال بثبات: لا يحيا إلا الأحياء. نعم أحياء ولكن لا حياة لنا. سأل: ماذا ينقصكم؟ الرغيف. بل القوة. الرغيف أسهل منالا. كلا. وسأله صوت: إنك قوي عملاق فهل تطمح إلي الفتونة؟ ثم تنقلب كما انقلب وحيد جلال وسماحة. وقال ثالث: أو تقتل كما قتل فتح الباب؟! فقال عاشور: حتي ولو صرت فتوة صالحا.. فما يجدي ذلك؟ إننا نري خلال هذه البانوراما للأنماط الشعبية في حوارها الجمعي.. ليست مجرد الحارة الخاصة كما زعموا ولكنهم كل حارة وكل حي وكل مكان من أرض مصر. وتصلح الحارة أيضا عند نجيب محفوظ ليترجم من خلالها رؤية الحاكم للشعب، وذلك من خلال سلوك مراد عبدالقوي شيخ الحارة مع أهل الحارة، فهم في نظره ليسوا غير مجرد أرقام ونسب إحصائية في ماكينة العمل والإنتاج، أما القلب والعقل فلا يقاس عليهما، ولنتابع هذا الحوار عندما راح عبدالقوي يحاور عبدالله كصديق: الحارة شيء وأهلها شيء آخر. ... ... ... ... ... ... وبعد الصمت يعاود عبدالقوي: الحارة كل ما يتجزأ وليس من العسير أن أعرف ما ينقصها وما يضرها، أما أهلها فأفراد لا حق لهم، وتتعدد مشكلاتهم بتعدد أهوائهم. يقول عبدالله: ليس ثمة يقين؟ بلي.. مجرد احتمال؟ نطقت بالصواب. وبالنسبة المئوية لكلا الاحتمالين؟ نقل 50%. 50%؟! وهكذا يصل بنا نجيب محفوظ إلي الحقيقة البشعة، كما توسل بها إلي عبدالله، وكشف عن مأساة الشيخ مروان والأستاذ عنتر.. لذلك إذا سئل عبدالله: وهل أنت سعيد؟ فابتسم عبدالله ابتسامة لا تخلو من حزن وقال: بنسبة لا تقل عن 50%. والحارة أيضا مسرح لأفكار مطلقة، ففي قصته الحوارية «التركة» يوظف الحارة لها.. فهي التي يمكن أن يكون فيها ولي الله ويعود الابن، بعد زمن باحثا عن تركة الولي الصالح، ليجد أكداسا من الكتب تمثل الإرث المعنوي أو الروحي، وأموالا تشغله عن الموروث الديني، وبينما هو في غمرة الانشغال بالمادة، يقتحمه رجل يدعي أنه من الشرطة، ويدور الصراع ويقبض عليه وفتاته ويثبتهما بالقيد، ثم ينهب الأموال والكتب أيضا. ولذلك مدلول وظفت فيه عناصر بشرية تنسجم مع عناصر المكان ويكشف عن المدلول البعيد.. عندما يأبي رجل الشرطة بهيئة أخري ليحول بيت ولي الله إلي مصنع إلكترونيات. وبذلك فالسلطة قد استولت علي كل شيء والتراث الروحي العادي، الحلم والكل مجرد حالة فردية لا وزن لها.. وتصبح مصدرا للتسلط والإرهاب.