أعلنت في الاسبوع الماضي جوائز جمعية النقاد التي تكتفي باختيار أفضل فيلم مصري وأفضل فيلم أجنبي عرض خلال العام مع تنويه لفنان أوعمل آخر إذا لزم الأمر.. وقد غبت لأسباب قهرية عن حضور الاستفتاء السنوي الذي تعقده الجمعية من أجل هذا الغرض. والحقيقة ان إجراءات اختيار الفيلم والمناقشات التي تسبقها تعقد في جومفعم بالحرية والجدية مهما كانت النتائج التي تسفر عنها، سواء قبلتها أورفضتها. كان من الملفت أن يحصل فيلم «المسافر» علي جائزة افضل فيلم وهو الذي لم يحصل علي أي جائزة مهمة من مهرجان جمعية الفيلم الذي كنت عضوا في لجنة تحكيمه. لكني كنت اعتقد أن المناقشة ستشهد دفاعا حارا عن الفيلم علي الاقل من الزميل عصام زكريا الذي كتب في أخبار الادب عن الفيلم واحدا من أروع المقالات النقدية علي الإطلاق. وكنت أعتقد ان حماس عصام عن الفيلم قد يحقق تاثيرا طيبا ولكني لم أعتقد أنه سينجح في الوصول به إلي الجائزة في محيط ثقافي ونقدي رافض في معظمه للفيلم وإن كانت الأسباب في أغلبها غير موضوعية ولا تتعلق بالفيلم ذاته بقدر ما ترتبط بما أحاط به من ظروف اختياره وإنتاجه من قبل وزارة الثقافة. لكن الجائزة التي أثارت استيائي هي جائزة أحسن فيلم أجنبي والتي منحت لفيلم "هالا لوين "في تخط غير مقبول لفيلم بقيمة وأهمية ( خطبة الملك)، تماما كما ذكر الزميل مجدي الطيب في مقاله بنهضة مصر. وقبل ان أتحدث عن فيلم «خطبة الملك» دعوني أعود بكم عدة أسابيع قبل قيام ثورة 25 يناير، الموؤدة إلي حين، حيث إلتقيت مصادفة جاري الذي كان ينتمي للحزب البائد غير المأسوف عليه، سألني بدون مناسبة عمرك شوفت جمال مبارك وهوبيخطب ؟.. هرشت رأسي وحاولت أن أتذكر.. ولكنه سرعان ما ابتدرني مستطردا " لأ ..فاتك كتير.. دا الراجل دا بيبدع ..بيتجلي.. بيقول سحر.. ربنا بيلهمه بكلام زي البلسم.. ياريت تحضر مؤتمرات الحزب عشان تسمعه أكيد حتغير رأيك ".. كتمت ضحكي ، فانطباعي عن جمال من مشاهداتي لتصريحاته التي يذيعها التليفزيون كانت تعبر عن عكس هذه الصفات تماما . تذكرت هذا الموقف وأنا أشاهد فيلم ( خطبة الملك ) الذي تبدأ أحداثه بخطاب فاشل متلعثم للأمير في مدرجات ملعب ويمبلي عام 1925.. بينما تأتي مشاهد النهاية بعد سنوات ، بإلقائه هو نفسه خطبة رائعة تلهب حماس الجماهير وتعلن الحرب علي النازي .. بين البداية والنهاية نخوض رحلة إنسانية رائعة وقصة كفاح الملك متحديا عاهته.. وهوأثناءها يكتشف ذاته ويعيد اكتشاف العالم من حوله من خلال إحتكاكه بمعلمه ومرشده وطبيبه الفقير الخبير الذي سيتمكن من تخليصه من عقدة لسانه، عندما ينجح في أن يجعله يدرك قيمة الإنسان، ويتخلص من كل أمراض وأعراض الغرور وعقد الشعور المتضخم بالأنا والتعالي علي الآخرين. لا حب ولا حرب هذه هي الحبكة المجردة لفيلم «خطبة الملك» والتي ينجح السيناريو في أن يغزلها بمهارة وبتمكن درامي رفيع. وبعيدا عن اللجوء لكل أساليب أومفردات الدراما التقليدية السهلة أوكل الحيل المضمونة في جذب المشاهد. فلا توجد قصة حب عنيفة بين رجل وامرأة، وإن كانت الزوجة تعبر في كل سلوكياتها عن حب جارف ورغبة أكيدة في مساعدة زوجها. لا توجد معارك حربية أوحتي خطط أو حيل في رفع الشعور بالتوتر من خطر الحرب المحيط بالأحداث وبالخلفية التاريخية القوية للفيلم. لا توجد علاقة تحد أو صراع بين رجلين من أجل الحصول علي شيء مادي محدد، وإن كانت حلقات الصراع لا تنتهي طوال أحداث الفيلم بين الملك ومعلمه. ولكنه صراع من أجل ترويض التلميذ وإنارة بصيرته وتوجيهه نحو الطريق الصحيح لمواجهة الحياة بقوة وصلابة تليق بملك. ربما تواجه البعض صعوبة في تقبل الفيلم نتيجة لاعتماده علي إيقاع متمهل رصين كأحد ملامح الطابع الإنجليزي في السينما والدراما. وهو ما يحاول المخرج تخفيفه من حين لآخر باستخدام الفوتومونتاج أو الفلاش باك الخاطف أو الانتقال السريع في الزمن. وفي الحقيقة إن الطابع الإنجليزي يحيط بالفيلم بحكم انتماء مخرجه وأبطاله، وأيضا بفضل موضوعه وأسلوبيته. فأنت بصدد سيناريويعتمد علي نص مسرحي. والمشاهد السينمائية التي يتضمنها هي وحدات درامية متكاملة تتصف بالطول الزمني وتعتمد علي الحوار وأداء الممثل. وهوأداء تمثيلي في غاية الرقي ينتمي معظمه لمدرسة المعايشة الكاملة فالممثلون في حالة تماه مع الشخصيات. وهي مسألة تتفق مع الأجواء التاريخية كما أنها تساعد الجمهور علي التصديق والاندماج حيث تعد هذه الموضوعات هي الأصعب في كسب مصداقية لدي المشاهد. عين الكاميرا علي مستوي الصورة تتميز الانتقالات وحركة الكاميرا بطابع من الرصانة ولكن تحقق الزوايا غير المألوفة والمؤثرة حالة من الجاذبية والتدفق وتكسر نوعا ما من رتابة الإيقاع. وتتلبس الكاميرا بمهارة ورشاقة روح الشخصيات ، فتتحرك من منطلق إحساسهم بالتوتر أوالثقة وتطل علي العالم بأعينهم.. يحقق المخرج فيلمه بسيطرة تامة علي لغته السينمائية وبتوظيف أساليب كلاسيكية في التعبير البصري ولكن باقتدار وبتوليف بارع بين اللقطات الثابتة ونقيضتها المتحركة التي قد تمتد بطول ردهات طويلة. تتلون هذه اللقطات بسحر الزمن وعبق التاريخ وروعة التباين الضوئي بكاميرا داني كوهين.. وهوينجح في هذا في المشاهد الداخلية التي تدور فيها معظم أحداث الفيلم بنفس مهارته في اللقطات الخارجية والتي تتجلي روعتها في مشهد الحوار العاصف بين البطلين وسط البرد والمطر والضباب. تؤدي الديكورات دورها بأمانة وبلا مبالغة.. ويجري توظيف المواقع وأماكن التصوير وقطع الديكور في خدمة المضمون الدرامي للمشهد بحالة من الثراء والغزارة التي تجعلك في حاجة لإعادة مشاهدة الفيلم أكثر من مرة للاستمتاع بالتوظيف الخلاق لعناصر الصورة.. وعلي مستوي الصوت يأتي أداء الممثلين جميعا كدروس في التلوين الصوتي والتعبير بعمق بالكلمات عن مكنون النفس ، أوفي مراوغة الشخصيات لإخفاء ما في باطنها من أسرار.. وتتناغم مع المؤثرات الصوتية الرصينة موسيقي عالية التأثير والتعبير وموظفة باقتصاد ومقادير محسوبة ومن وحي الموقف والضرورة للفرنسي أليكساندر ديسبلا.. ويصل توظيف الموسيقي الي ذروته حين تطغي علي صوت البطل في محاولاته الفاشلة المتلعثمة للإلقاء وكأن كلماته تغرق في هذا البحر الموسيقي الهائج. ولكن كل هذه الحيل والألاعيب لن تتمكن من أن تتيح لك الاستمتاع بالفيلم ما لم تتمكن من البداية من الوصول إلي جوهر المتعة وإلي مفتاح الإنارة لهذا الفيلم الرائع.. «خطبة الملك» الذي حصد أربع جوائز أوسكار لا يسعي إلي تسجيل التاريخ وإن كان يلتزم بوقائع تاريخية حقيقية.. لكنه شأن كل الأفلام العظيمة التي تستند علي التاريخ من أجل تقديم خطاب للحاضر والمستقبل.. وهو هنا يعتمد علي أسلوبية إنجليزية ذهنية مناسبة تماما.. فلغة العواطف لا محل لها والمنطق العقلي هو القوة المحركة للشخصيات والحدث.. وحيث يكون صراع الأفكار هومحور الدراما الذي يقود دفتها وليس أي شيء آخر.. فتصل الرسالة بالتالي بمنتهي القوة والتأثير وبعد مساحات من النقاش والجدل.. إن قتل الإحساس الطبقي داخل نفوس البشر هو أهم ما يحققه هذا الصراع المستمر بين الملك ومعلمه.. وهو ليس فقط دعوة للملوك والحكام بالتخلي عن عليائهم والإيمان بضرورة احترام الإنسان لأخيه الإنسان.. ولكن هذه الفكرة يجب أن تنطلق أيضا من نفوس البشر البسطاء الذين يجب ألا يعميهم فقرهم عن قيمتهم وعن حقوقهم وعن حقيقة أن شعورهم بالكرامة هووحده فقط الذي يمنحها لهم. سخرية وصرامة وعلي الرغم من الجدية الصارمة التي تسيطر علي البناء الفيلمي ككل إلا أن العمل لا يخلو من لمحات ساخرة في منتهي الذكاء والكوميديا سواء في إشارات أوتلميحات وإيماءات عابرة أوفي جمل حوارية مباشرة مثل تلك التي يعلق بها الطبيب وهويدرب الملك علي الجلوس علي العرش "كم مؤخرة جلست علي هذا العرش ".. إن هذه الملامح الساخرة البسيطة هي جزء من صميم الروءية الفكرية للفيلم.. فالتيجان والعروش أمور بلا قيمة ولكن القيمة الحقيقية تكمن في هؤلاء المواطنون البسطاء الذين بدونهم يصبح الحاكم لا شيء.. هذه الرحلة الطويلة التي خاضها البطل من أجل أن يصل إلي قلوب وعقول شعبه كان لابد منها ليصبح حاكما حقيقيا حي ولو كان وريثا شرعيا للعرش.. ولكن من يعميهم غرورهم هم هؤلاء الذين يتصورون أنهم سوف يتمكنون من هذا العرش وسيصلون إلي قلوب الجماهير عبر الكذب والادعاء والإعلام المضلل وترويج الإشاعات وليس من خلال العمل الحقيقي والإيمان بقيمة الشعوب وحقوقها وكرامتها.. إن الأعمال الفنية العظيمة هي التي تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان وتنير له طريقه وتجيب عن تساؤلاته.. الآن فقط عرفت لماذا انصرف جاري سريعا قبل أن يتلقي ردي علي قصيدة المدح التي ألقاها في رجل كان يتهيأ للاستيلاء علي عرش مصر.. كان كمن يقوم بواجب دعائي أملته عليه عضويته في اللاحزب.. كان يتحدث وكأنه يلقي تقريرا مكلف بنشره بين المعارف والأصحاب ربما تطبيقا لمبدأ : إن الدوي علي الودان أمر من السحر.. وربما اقتنع جمال بنصائح مستشاروه الأغبياء أنه بهذه الطريقه يمكن أن يتقبله الشعب مع الزمن.. وهي الوسيلة التي لم يلجأ إليها ملكنا، بل قرر أن يتعلم بحق وأن يتعالج من أمراضه العضوية والنفسية والاجتماعية ليستحق عن جدارة عرشه الشرعي.. أعود لأكرر ان تجاهل جائزة جمعية النقاد لهذا الفيلم العظيم لا تقلل من قيمة الفيلم بقدر ما تضعف من مصداقية الجائزة والجمعية.