لدينا مثل عربي شهير يقول : «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» وهناك مثل إنجليزي شهير أيضا يقول "المال يعني الوقت"«time money means » وهو علي الرغم من طابعه المادي البراجماتي فإنه في مفهومه المباشر واستخدامه التقليدي أقرب لدعوة إلي احترام الوقت والسعي إلي توظيفه بطريقة مفيدة ومثمرة. وها هي السينما الأمريكية تصنع فيلما يجسد هذه الفكرة النظرية بمنتهي الأمانة والبلاغة في التعبير. لكن حدود الفكرة في فيلم «في الوقت المحدد» in time تنطلق إلي آفاق أرحب للتعبير عن هذا المعني في دلالات موحية تتجاوز بكثير الحدود التربوية في توجيه الأطفال والصبية إلي احترام قيمة الوقت ولكنها تمتد لتنتقد من يسرقون عمر هذا المواطن البسيط لصالح امتداد أعمارهم واحتفاظهم بالسلطة والنفوذ والصحة علي حساب من يمتصون رحيق شبابهم وزهرة عمرهم ويعتبرونهم مجندين ومسخرين لخدمتهم. إنها رؤية درامية تنتقد بشكل سافر نظريات سياسية واقتصادية وفلسفات وممارسات نظم وطبقات من البشر تسعي لأن تستأثر علي أغلي شيء في الوجود وهو الزمن، عن طريق سلبه من كل من لا يملكون السلاح أو القدرة علي الحفاظ عليه أو استثماره في صالح سعادتهم مهما كانت محدودة أو بسيطة. مع الفيلم نعيش لمدة ساعة وخمسين دقيقة في زمن متقدم وغير محدد لكنه بالتأكيد وطبقا لما يمكن استنتاجه من الحوار يتجاوز واقعنا الحالي بمئات السنوات.. والدخول إلي العالم المستقبلي سينمائيا لا يصنعه أندرو نيكول مخرجا ومؤلفا عبر صناعة مظاهر خيالية مستقبلية في الملابس والمعمار والأجهزة ولكن في حدود المفردات التي تعمل لصالح فكرته وتحقيق الدرامية لصورته. فشوارع دايتون بلوس أنجلوس الخلفية الفقيرة تبدو كما هي وإن زادت علي صورتها حالة من الكآبة والرتابة لتخلو من أي لمسة جمال أو حتي قبح صنعه الإنسان الذي أنهكه الجري وراء اقتناص الوقت عن ممارسة أي مظهر من مظاهر الاستمتاع بالحياة. الكل مستغرق في همه اليومي من أجل الحفاظ علي عمره أو السعي إلي إضافة المزيد من الدقائق واللحظات إلي حياته. الشرائح المعدنية وساعات الشحن ليست لإضافة دقائق لمكالمات التليفون المحمول ولكن لإضافة أو حذف ساعات من عمر الإنسان. فكل شخص يرتسم علي ذراعه عدّاد العمر الذي يتحرك تنازليا مع استهلاك العمر ولا يصعد لأعلي إلا في لحظات الشحن ، فيحاول كل فقير أن يحصل علي عمر يوم أو شهر أو سنة علي قدر الخدمة التي يؤديها للشخص الذي يحصل منه علي الوقت الإضافي. في هذا الزمن المستقبلي المتخيل تم استبدال العملات النقدية بالعملة الزمنية، فكل السلع والأشياء مقابلها لحظات من الحياة وكل المكاسب يقابلها إضافات لعمر الإنسان. وهكذا يدين الفيلم بشكل صارخ الرأسمالية الجشعة التي سرقت عمر الإنسان . وقد تصل هذه الإدانة إلي حد الدعوة للثورة وهو ما يمكن أن يعبر عنه الحوار بوضوح . لكن أحداث الفيلم ذاته لا تتجاوز حدود البحث عن حل فردي في مغامرات متعددة من البطل وحبيبته في عمليات سطو لاسترداد حقوق الفقراء أو أعمارهم المنهوبة. يدخل بك المخرج إلي عالمه من خلال حوار بسيط وسريع بين الشاب سالاس والمرأة الشابة الجميلة التي تقيم معه ونعتقد في أول الأمر أنها امرأته حتي نكتشف أنها أمه والتي توقف عمرها عند الخامسة والعشرين مثل كل البشر في هذا الفيلم الذين يتوقف مظهرهم عند حدود هذا الشكل الذي يقال إنه علميا هو قمة النضج البشري بيولوجيا. مع سالاس ننتقل إلي عمله في مصنع شواحن الزمن حيث نتعرف علي المزيد عن هذا الواقع المستقبلي المؤلم وعن أحوال الفقراء في هذا الزمن اللعين حيث يفقدون أرواحهم بلا رحمة حين ينتهي شحنهم زمنيا ولا يقدرون علي الحصول علي المزيد. وهو ما نراه في مشهد ميلودرامي علي الطريقة الأمريكية حين يعجز سالاس عن توصيل الشحنة لأمه فتفقد حياتها في نفس اللحظة التي يصل فيها إليها بشحنة الإنقاذ بعد فوات الأوان. يتم تحقيق المشهد علي نفس طريقة المشهد الرومانسي الشهير من فيلم قصة حب حيث يعدو كل من الأم والإبن نحو الآخر من مسافة بعيدة حتي يتلقفها بين ذراعيه. ولكن شتان بين ما تعبر عنه اللقطة في الفيلم القديم من معان رومانسية وبين ما يفرضه نفس التكوين الشكل الحركي من ذروة مأساوية. يتحول سالاس إلي بطل تقليدي في تلك اللحظة التي يحصل فيها علي شحنة مهولة بإضافة مائة عام إلي عمره في مصادفة قدرية. بفضلها يتمكن من الدخول إلي عالم المرفهين من أصحاب الأعمار الطويلة. بل إنه يعيش قصة حب مع ابنة أغني رجل في تلك المدينة ولتبدأ مرحلة جديدة من الصراع من أجل تغيير قوانين المجتمع والسعي للقضاء علي النظام الطبقي الذي يكفل حق العمر الطويل للأغنياء فقط. يحقق أندرو نيكول سيطرة إيقاعية ويرسم خريطة متمكنة لحركة سرد روايته بلغة وأسلوب يتناسب مع طبيعة الأحداث والمواقف والأمكنة والتأثير المطلوب تحقيقه. وهو من خلال سيطرته علي عنصري السيناريو والإخراج ينجح في أن يستبدل الإيقاع الحركي الظاهر الصاخب في الأحياء الفقيرة إلي إيقاع ساخن بالمواجهات واشتعال الدراما في حي الأغنياء يعوض هدوء الكاميرا وطول اللقطات الذي يتناسب مع الواقع المخملي للمكان وشخصياته المستريحة الهادئة المسيطرة، رغم ما يدور في النفوس من قلق علي ما يمتلكونه من زمن. يفتقد الممثلون في هذا الفيلم فرصة توظيف الماكياج والملابس كعناصر تسهل لهم الدخول إلي عالم الشخصية والتعبير وتحقيق التأثير المطلوب، فالكل في مستوي عمري واحد ظاهريا تقريبا لا يتجاوز الخامسة والعشرين. ولكن الكثيرين منهم يتجاوز عمرهم الفعلي هذا الزمن بكثير. وهنا تبدو القدرة المتمكنة في اختيار الممثلين وتوجيههم لتحقيق حالة من الانسجام في الأداء وفي تمكنهم من الأداء تعبيريا عن هذه الأعمار المتقدمة التي يبدو تأثيرها علي الروح عوضا عن غيابها عن الظهور جسديا أو بيولوجيا. ويحقق البطل جاستين تيمبرلاك في هذا الفيلم خطوة متقدمة في طريقه كممثل معبرا عن شخصية شديدة الندرة تعاني أزمة وجودية وتواجه مأزقا حادا وهموما تتعلق بالجنس البشري كله. ويتوازي رسم ملامح الشخصية بأبعادها الإنسانية الطبيعية الواقعية مع أداء الممثل البسيط وقدرته علي أن يرسم كل هذا العمق في نظرة العين بإحساس خاص بالشجن والقلق وفي حركة الجسد الحريصة المتمهلة وفي الأداء الصوتي المتريث دون أن يفقد حراراته وسخونة تفاعله مع الموقف. وعلي الرغم من اعتماد المخرج أندرو نيكول علي فكرة عبقرية ومبتكرة واجتهاده الشديد في التعبير الدرامي والسينمائي إلا أنه يظل مخلصا بلاشك لتراث الفيلم الأمريكي وتقاليده وقواعده في بناء المعالجة والسيناريو. وهو يرضخ لكل شروط شباك التذاكر في استخدامه للحيل الدرامية المعتادة والمواقف المضمونة والأكليشيهات المكررة . فالصدام يحتدم بسبب قصة حب مع ابنة أحد الكبار. والمعارك والمطاردات الساخنة تتوالي بصورة مبالغ فيها والحلول تأتي دائما في آخر لحظة والصراع البدني يسيطر علي مساحات من الفيلم. ولكن مهارة نيكول تكمن في تمكنه من توظيف هذه العناصر لخدمة رؤيته الفكرية والسياسية وفي قدرته علي أن يصنع من السيناريو ملحمة لإدانة نظم ومنهجية فكرية طبقية وعنصرية. من الجائز أن تقدم لنا السينما الأمريكية من حين لآخر فيلما بهذه القيمة تحسينا لوجهها وتكفيرا عن سيئاتها وعن أعمار طويلة لأجيال ضاعت في مشاهدة أفلامها التافهة التي حشت الرءوس بأفكار متخلفة وخزعبلات ساهمت في الترويج لأسطورتها المزعومة كقوة عظمي وحيدة خارقة ومرعبة لمن يفكر في أن يمسها أو يحلم بأنه بالإمكان مواجهتها. وسوف يظل فيلما كهذا يتميز علي الأقل بفكرته الموحية الملهمة الساخرة من كل أصحاب النفوذ الأغبياء، كبيرهم وصغيرهم، وكل من يسهم في إضاعة عمرنا وانهاكنا في تفاهات لتخليص أوراق تافهة أو تحقيق أهداف متواضعة أو الجريء وراء عدالة بطيئة تغتال الأحلام وتستهلك سنوات العمر من أجل لا شيء . المفاجأة الأسعد التي يحملها لنا فيلم «الوقت المحدد» هو هذه المتعة الذهنية التي يحققها بعد أن فقدت معظم أفلام الخيال العلمي قيمتها العلمية والثقافية وأصبحت مجرد وسيلة لاستعراض التقنيات السينمائية الأمريكية الحديثة وافتعال صورة تهدف بالدرجة الأولي إلي تحقيق الإبهار والإثارة خاصة لجمهور الشباب والمراهقين. يعود بنا فيلم «الوقت المحدد» إلي زمن روائع أفلام الخيال العلمي «البرتقالة الآلية» و451 «فهرنهايت» و«برازيل» وغيرها.. تلك الأفلام التي تعاملت مع هذا اللون السينمائي باعتباره وسيلة لتثقيف البشر والانتقال بهم من خلال النظرة العلمية المستقبلية إلي صور من الخيال الرائع توازيها بنفس القدر دعوة للتأمل والتفكير وإعمال الذهن في واقع ومستقبل البشرية وتبصيرهم بكل ما يرتكب ضدهم من ممارسات وكل ما يحاك من مؤامرات لسلبهم ونهبهم واستعبادهم. وإذا كانت الدراما التاريخية في أحسن أحوالها هي تلك التي تستند إلي حكايات وقصص من الزمن الماضي لتقديم دروس وحلول وتجارب سابقة نافعة للواقع الآني، فإن استشراف المستقبل بغية الوصول لنفس الهدف هو الذي يجعل الفن أكثر عطاء وفائدة وقيمة علي مستوي المتعة الفكرية، كما يتيح له أن يلعب دوره الواجب نحو تنمية الوعي وتعميق الثقافات والمناداة بتحرير الإنسان من كل أنواع القهر والاستعباد.