تشهد مصر حالة مزدهرة من الحراك السياسي نظراً لأنها تسقبل عرساً جديداً لها وهو انتخابات رئاسة الجمهورية التي ستسفر عن أول رئيس منتخب غير توافقي عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير الماضي، وهذا العرس يجعلنا نطيل النظر في مقدماته لاستشراف إحداثياته التي من المتوقع أن تجري وتحدث في بر مصر المحروسة،ويكفيك أن تأخذ ورقة وقلماً لتكتب الأحداث السياسية التي جرت بمصر في غضون أشهر قلائل لتدرك حجم الهجمة الشرسة التي تجتاح وتستبيح جسد مصر السياسي، مجلس استشاري ومجلس شعب ومجلس شوري ولجنة تأسيسية لوضع الدستور، وهذا الأخير أصبح محك الرهان علي ديمقراطية مصر ومدنيتها من عدمها . الحكمة من الدستور وفي الوقت الذي كانت تتصارع فيه جميع القوي السياسية علي اختيار العناصر الممثلة للجنة صياغة الدستور وكأن قدر مصر أن تتصارع طوائفها لا من أجل بنائها إنما بغرض التواجد والتمثيل فقط . كانت النقطة الأكثر أهمية هي ما سيوضع بالدستور نفسه، والدستور وثيقة سياسية لتدبير وتسيير شئون البلاد والعباد في مستقبل وليس المرحلة الراهنة فقط وهذا ما ينبغي أن يعيه القاصي والداني في بر مصر المحروسة . وإذا شرعنا في محاولة استقراء الحكمة من وضع الدستور في أي بلد أدركنا علي الفور أنها تكمن في وضع أية دولة علي طريق التنوير، والتاريخ الدستوري في مصر يقر في بعض مراحله هذه الحكمة، وفي الحالة المصرية تحديداً يمكننا أن نقر أن البلاد جاهدت في كفاح طويل من أجل الدستور وصمدت رغم قلة مقدراتها البشرية والمادية أمام سلطات الاحتلال الأجنبي التي حاربت وجود دستور شرعي بشتي الوسائل والطرائق المتاحة في تلك الأوقات . معظم المواطنين المنتمين لثقافة السمع والطاعة أو ما اتفق علي تسميتهم بالأغلبية الشعبوية لا يفطنون كنه الدستور، فهم يرونه مجرد قانون يحكمهم، بل ربما بعض العامة لا يفطنون إلي أن كلمة دستور أصلاً مأخوذة من اللفظة الفارسية المركبة دست التي تعني قاعدة، وور التي تعني صاحباً، بمعني أن الكلمة المركبة تفيد التأسيس أو النظام أو التكوين السياسي. ويمثل الدستور القانون الأعلي الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة) ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية)، وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة. ويشمل اختصاصات السلطات الثلاث (السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية) وتلتزم به كل القوانين الأدني مرتبة في الهرم التشريعي . باختصار شديد مختزل عملية وضع وصياغة الدستور عملية شاقة ومجهدة لأنها تنظم حياة أمة بأكملها . وفكرة وجود جمعية أو لجنة تأسيسية لصياغة مواد الدستور ليست فكرة مصرية أصيلة، لكنها فكرة أمريكية الصنع، حيث تم انتخاب أول جمعية تأسيسة لوضع الدستور في الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد استقلالها عن بريطانيا سنة 1776م، والمشكلة ليست في وجود لجنة، إنما المشكلة الحقيقية بشأن الحالة المصرية الراهنة هو مدي التوافق بين أعضاء هذه اللجنة، والتي من الناحية الدستورية لابد وأن تضم كل أطياف المجتمع وهو أمر سيكون محل جدل وسجال دائر غير مستقر . وربما تكمن المشكلة الكبري في صياغة دستور مصري جديد في أعقاب ثورة يناير في صراع الهيمنة بين أهل الدراية وأهل الرواية في إعداد وصياغة مواد الدستور . ومفهوما الدراية والرواية من المواضعات المرتبطة بالفقه الإسلامي وهي تعني العقل والنقل، أو ما يعرف لدي المتخصصين بظاهر النص وتأويل الرأي . وهذا ما ستسفر عنه مناقشات هذه اللجنة المرتقبة . ولابد ونحن بصدد الحديث عن صياغة دستور جديد للبلاد، أن نشير إلي حالة الصدام والنزاع بين تيارات مهتمة بإعداد الدستور، ويمكن أن نحددها في تيارين رئيسيين، وتيارين فرعيين ؛ أما التياران الرئيسيان فهما الليبرالية وما تشكله تحالفات الكتلة المصرية والوفد والائتلافات الشبابية الثورية التي غابت عن حضور المشهد الانتخابي البرلماني إلا أنها لن تفوت فرصة مشاركتها في المشهد السياسي الرسمي والتخلي قليلاً عن المشهد الميداني . والتيار الديني الذي يشكله جناحا حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور الذي حصد أغلبية تاريخية في برلمان الشعب رغم حداثة عهده بالعملية السياسية الرسمية غير متناسين أن معظمهم احترف العمل السياسي السري بسبب الاحتجاب القهري الذي فرضه عليهم نظام مبارك البوليسي . وهذان التياران الرئيسيان سيتباريان بصورة محمومة ومضطربة ومضطرمة أيضاً في استلاب مواد الدستور موضع الخلاف والتي بدأ كل فريق منهما في قراءة وتأويل وتفنيد دستور 71 من أجل اقتناص ثغرات به يمكن ملؤها عن طريق تسييس وتوجيه هذه الثغرات في صالح فريق معين. أما التياران الفرعيان فيمثلهما أقباط مصر الذين يصرون علي التأكيد بشراكة الوطن وهذا حق تاريخي لهم لا يمكننا المزايدة عليه أو إنقاصه بشكل عمدي، وتيار النخبة الصامتة التي تريد وتشجب وتقرر سراً لكنها علي إصرارها القديم في عدم الاحتدام مع أي سلطة أو تيار بحجة الترفع والتعالي علي المشهد الشعبوي الجماهيري الذي ربما لا يقدر دور هذه النخبة. مواد النقل فهناك ثوابت حاكمة مسبقاً ستوضع وضعاً مطلقاً دونما اجتهاد في مواد الدستور القادم وهي المواد التي يمكن أن نسميها مواد النقل، وتتمثل في نظام الدولة الجمهوري رغم احتمال وجود لغط شديد علي كلمتي اشتراكي وجمهوري الموجودتين بالمادة الأولي حيث ربما تعترض بعض التيارات الدينية الصاعدة بقوة رسمية برلمانية وشعبية جماهيرية في تحشيد المواطنين علي رفض كلمة اشتراكية التي تشير بصورة ربما تكون بعيدة إلي نظام الرئيس جمال عبد الناصر، وكلمة ديمقراطي التي تعد من المواضعات الأكثر كراهية لدي التيارات السلفية بدعوي أنها ذريعة أجنبية وافدة علي المنطقة العربية والإسلامية. أما المادة الثانية التي تعد من المواد الرئيسية في الدستور والتي شابتها مساجلات صحفية وفضائية بسبب كون مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فإن ذلك لن يعكر صفو عبور وصياغة الدستور نفسه لأن الشريعة الإسلامية حاكمة للبلاد والعباد منذ الفتح الإسلامي لمصر علي يد عمرو بن العاص، وإنه لمن المضحك والمستفز أيضاً أن نري بعض قيادات التيارات الدينية تتجاذب أطراف الحديث المكرور عن عدم جواز تولي القبطي رئاسة مصر، لأن كتب التاريخ التي أُحرقت بفعل فاعل لا يزال مجهولاً بالمجمع العلمي أكدت أنه لم يتول أي قبطي رئاسة مصر منذ أن عرفت الإسلام وهذا الزعم السلفي ما هو إلا محاولة لصرف أنظار النخبة والعامة علي السواء عن حالة مصر الراهنة . الاحتفاء بالرواية ولكن ما سيحدث إذا رأينا أن مواد الدستور تسير نحو زاوية دينية محضة؟ أي تتجه باتجاه الرواية والنقل دون الدراية والعقل، بالطبع كل المسلمين المتدينين في شتي بقاع مصر المحروسة سيفرح، ويهلل وأنا منهم أيضاً بجعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع والأداة الحاكمة لكل الممارسات الاجتماعية والسياسية للمواطنين، حتي التيارات الليبرالية ستنعم بالحرية الدينية التي تكفلها الشريعة الإسلامية بل إذا طبقت الشريعة بصورتها الخام الصالحة لكل زمان ومكان ستستقر مصر. لكن ماذا إذا لم يصر المشهد كما نتوقعه؟ بمعني أن تتجه التيارات الدينية بمواد الدستور بعيداً عن جوهر الشريعة الإسلامية وممارسات الحكم والسلطة والقانون في الإسلام كما نعرفه وقرأناه في كتب التاريخ الإسلامي والفقه وأصول الحكم في الإسلام والخلافة الراشدة التي لا تحيد عن الصواب . هذا هو المحك الرئيسي بين الاحتفاء بالرواية وانتفاء الدراية، بمعني أن واضعي الدستور من قبل بعض التيارات الدينية المتشددة غير الوسطية ربما سيفرضون مواد بعينها منقولة نقلاً مباشراً من بعض دساتير الدول التي تزعم أنها تدار بحكومات إسلامية من حيث الاسم لا الأداء . وتظهر مشكلة أخري جديدة في خضم الصراع المحتمل بين أهل الدراية وأهل الرواية عند صياغة مواد الدستور، وهي مشكلة الانفلات الأمني القائمة في البلاد بصورة مخيفة، لأن الانفلات الأمني من شأنه أن يعيق عمل وسريان أي دستور مدون أو غير مدون، فطبيعة الدساتير العالمية ومعها الدستور المصري تنفرد بسمة السمو والإعلاء بمعني أنه القانون الأعلي في الدولة الذي لا يعلوه قانون آخر، وهذا العلو والسمو الذي يطمح في التطبيق لن يكون هكذا في ظل ظروف أمنية مضطرمة ومضطربة ومحمومة أيضاً، وكذلك لن تطمح مواده في أن تكون بمثابة حق حياة للمواطنين في ظل محاولات بعض الأطياف في التشكيك والتخوين في الأطراف الأخري المشاركة فيه، فإن هذا سيفتح باباً جديداً للحرب أو للكلام، علي حد قول الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين حينما قال في قصيدته " نقطة من دم المحارب الحزين " : نقطة من دمي علي آخر السطر / هذا اعتراف بأن الحروب انتهت، وأن الحرب التي لم تنته ستفتح باباً جديداً للحرب أو للكلام . ورغم أن البلاد تحتاج إلي دستور بصورة سريعة وأن الشعب كان من مطالبه الدستور أولاً، إلا أننا يجب أن نعي جيداً أن ما سنقوم به من إعداد ووضع لمواد دستورية هي ليست لنا ولا من أجلنا وربما لن ننعم بظلها، لأن باختصار الدستور المحتمل هو ملك للأجيال القادمة، والقائمون علي أمر صياغة الدستور لابد وأن يضعوا نصب أعينهم المواطنة والدولة الديمقراطية الحديثة ذلك الشعار الأثير الذي رفعه الشعب المصري في ثورة الربيع العربي منذ عام، وإن بات هذا الشعار من الصعب تحقيقه بسبب عوامل متباينة منها المد الإسلامي السياسي، وظاهرة الانفلات الأمني، وتقاعس الثوار أنفسهم عن المشاركة في الحراك السياسي، فإننا بحاجة إلي إعادة هذا الشعار عن طريق تمثيله ضمن مواد الدستور الجديد.