في الأسبوع الماضي وبمنطقة عشوائية بالإسكندرية رأيت أناساً يسندون سقوف بيوتهم بعروق خشبية حذار سقوطها، فلماذا قامت الثورة إذن؟ سؤال لم أجد له جوابا! فكان أن سقط قلبي ملتاعاً يسأل: ما السبب؟ ليلتها كتبت قصيدة ثم محوتها . ما قيمة الشعر في زمن فيه الفقراءُ يهيمون علي وجوههم كالفراش المبثوث، بينما الثوار ُيقتلون، والمحتجات ُيسحلن والنخب السياسية تكتفي باستعراض آرائها في القنوات الفضائية؟ بالأمس القريب كان المليارديرات الجدد يتبخترون بملاعب الجولف السندسية حول قصور الزبرجد، وكان مذيع البرنامج التليفزيوني يسأل أطفال "أبو دهشان" ماذا يطلبون؟ غمغموا: نريد الخبز. قال تلميذ منهم: أنا جائع الدهر ! فسقط قلبي إلي ركبتىّ باحثا عن سبب لذلك، بعدها قدمتْ نسوةٌ للمذيع التليفزيوني - علي سبيل الاستشهاد - ماءً بلون البول، فانفجر المذيع يتحدي البيه المحافظ أن يشربه. قالت ثكلي مات ثلاثة من أبنائي بفشل الكُلي فسقط قلبي تحت قدمي بينما كان ثمة كهل يصيح: أين رئيس الحكومة؟! واليوم وقد ظننا - وليس بعض ما يظن إثماً - أن الثورة سوف تغير الوطن وتنقذ البلاد ؛ مازال المليارديرات الجدد لاعبين آمنين سواء في قصورهم أو منعمين مدللين والمركز الطبي العالمي و" منتجعات " طرة، وما زال الخبز عزيزاً علي الطفل الجائع، وما زال الماء كدرا ً وطينا ً للظامئين في أبي دهشان وابن دهشان وخاله وعمه ! فهل من سبب معقول لهذا التناقض ما بين ثورة نجحت في إقصاء رموز النظام وبين استمرار الأوضاع المعيشية البائسة؟! بين الهم العام والهم الخاص في السنة قبل الماضية قيل فشلت مفاوضات مصر مع دول منابع النيل، وفي الإسكندرية تواترت الأنباء عن فضيحة كبري: عرضت أرملة نفسها علي طالبي المتعة الحرام لقاء أرغفة للعيال.. لكن شرطة الآداب تداركت الفضيحة بأن "ضبطتها.". وبهذا نظفت مصر ثوبها من لطخات الدعارة ! اليوم وقد مضي أكثر من عام علي الثورة ما تفتأ غيوم الهجمة المضادة وسحبها السوداء تحيط بالهلال الوليد كي تخنقه خنقا كي تبقي مصر كما كانت مرتعا ً للوحوش الطبقية والذئاب الحارسة للغابة المصنوعة خصيصاً لصيد الكائنات البشرية التعسة . . والحق أن الهجمة المضادة هذه حققت أو كادت تحقق أهدافها الشريرة بنشرها للفوضي في البلاد من خلال آليتين، أولاهما توظيفها للفئات المحرومة من العمل والكسب للقيام بأعمال البلطجة والإرهاب والقتل مما أسهم في تراجع المد الثوري بدرجة ملحوظة، والثانية إشاعة اليأس في قلوب العامة عبر التمسك بمنظومة قوانين غير ثورية تؤدي فعالياتها إلي إفلات أغلب رموز الفساد من العقاب، فضلا عن ترسيخ ثقافة بيروقراطية الدولة ذات التراخي المعهود الأمر الذي يحول دون مصادرة أموال الشعب التي نهبت وهربت . وبهذه التكتيكات الشريرة والمرتكزة علي استراتيجية الجمود والثبات؛ عمدت تلك القوي إلي التمترس بمؤسسات الدولة ذاتها تباشر من مواقعها المحصنة تاريخيا ً مهمة تفريغ الثورة من مضامينها بعيدة المدي إلي مجرد انتفاضة " عابرة " مقصدها حسب ُ خلع رئيس وحبس أعوانه، في اعتماد من هذه القوي المضادة للثورة علي استعداد النفوس المرهقة لهجر الثورة الشعبية اكتفاء ب " شعبوية " الشعارات، وكأن في رفع الشعارات غاية المراد من رب العباد ! أما الاستعداد الكامل لسداد فاتورة العيش الكريم المشترك وترسيخ الحريات واعتماد السياسات الواقعية لتحقيق العدل الاجتماعي فدونه لاشك ثورة جديدة . ذكرت هذا بأعوامي السبعين فسقط قلبي مخترقاً أسفلت الوطن المكسور الذي تتدحرج عليه الأعين المفقوءة والدماء الطاهرة المسفوكة والأعراض الغالية المنتهكة . في العام قبل الماضي وقّعت حماس مع إسرائيل هدنة لعشرة أعوام، واستدارت تحاول اقتحام حدود مصر بالألوف من سكان غزة المحاصرين، فزايدت عليها إسرائيل بقرار ترحيل عشرات آلاف الفلسطينيين عن الضفة مرشحة لهم سيناء وطناً بديلاً، وكان السادات قد حصل علي جائزة نوبل للسلام مناصفة مع بيجين، عامها سقط قلبي هلعاً فغضب السادات ورماني في "القلعة" مثل الكلب، وأمس قال السلفيون - الذين شيدوا مكانتهم عند الناخبين علي عقيدة محاربة اليهود - إنهم يعترفون بمعاهدة الصلح مع إسرائيل عسي ترضي عنهم أمريكا كما رضيت عن أساتذتهم بني بديع الذين يستأسدون الآن ليس دفاعا عن الشهداء أو الأعراض المثلومة لنساء الوطن، بل دفاعا عن "حقهم" البرلماني كأغلبية كاسحة في تشكيل الحكومة القادمة، وكانوا من وقت قريب يقسمون بالله أن الإخوان لا يطلبون الحكم، وكنت - مثل غيري من السذج - أصدقهم، قائلا ً: إنهم كسياسيين محنكين لابد أدركوا أن السلطة لم تعد تغري في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي.. فأنّي لهم أن يحققوا العدالة والتنمية اللهم إلا لو كانوا يستلهمون النموذج الباكستاني؟! وما أدراك ما النموذج الباكستاني ! إنه عدالة تقسيم الفيء (حاضر الشعب ومستقبله) بين الدبابات والكتاتيب، وهو تنمية القواعد العسكرية الأجنبية علي أرض الوطن، جنبا ً إلي جنب تنمية الطبقات الحاكمة دون غيرها، مع تراتب ثقافة الاستغفال لباقي الطبقات . إشكالية النموذج الباكستاني؟ سيقول البعض إنهم في باكستان تمكنوا من تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ، ونجحوا في إعطاء بعض السلطة للبرلمان و البعض ُ الآخر منها لرئيس الوزراء بجانب تعزيز سلطة قائد الجيش مما أسهم في تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد، ليكن بيد أن ذلك الاستقرار جاء علي حساب الديمقراطية كما يفهمها العالم المعاصر، فقائد الجيش الباكستاني - في نهاية المطاف - هو الذي يفرض السياسة العامة ويسيطر علي مقدرات البلاد هناك، ولا أحد يجرؤ علي معارضته. ولو أننا مضينا الحافر وراء الحافر خلف هذا النموذج - دون تعديلات حقيقية له - لحكمنا علي ثورة يناير بالفشل الكامل . ويبقي سؤال: تري ما السبب فيما وصلنا إليه من أن النظام السلطوي الجائر باق في مجمل منظومة الحكم - وإن استبدل بالبذلة والقبعة الكاب والجلباب - بينما كتائب اليسار وفرق الليبرالية تقف شبه عارية إلا من ورقة التوت؟ سؤال لا بد له من إجابة.. هل السبب مؤامرة خارجية؟ أم تجذّر دولة الاستبداد الشرقي في التربة المصرية بثقافتها المضللة؟ أم هو ضعف خبرة الثوار واخضرار عودهم؟ لابد من سبب يذكر يا ناس قبل أن يطير العقل بددا أم تري العقل العربي لا يعبأ أصلا ً بقانون السببية، منذ أنكره أبو حامد الغزالي من قرون لصالح أدبيات التبلد؟ ليكن ذلك كذلك أو غيره، لكن ما الحل؟ الحل أن يسقط قلبي في ثقب الكون الأسود، عسي الانفجار العظيم القادم يعيده للبداية فيحتاز القوة من منابعها، رابطا ً بين النتائج والأسباب .