من الظواهر الثقافية التي قلما يعني برصدها وتحليلها الباحثون والنقاد إيثار بعض المفكرين والأدباء والشعراء البعد عن الأضواء والعزوف عن ارتياد المحافل العلمية والأدبية والعكوف بدلا منها علي إفساح الطريق للشباب الذين يتوسمون فيهم الموهبة فيقدمون لهم ما وسعهم من أدبهم ومعارفهم وحصيلة تجاربهم في الحياة والفكر والعلم، مدركين بذلك أن الحياة قصيدة مهما طال العمر، وأنها تمتد بقدر ما يبذلون لهؤلاء الشباب من زاد معرفي ينفعهم وهم يعيدون هذا الزاد الذي يقدمونه عقيدة ثابتة لا يتخلون عنها مهما كانت معاناتهم، بل إن هذه المعاناة عندهم ضرب من الرضي النفسي والسعادة الغامرة وفي ذلك يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد من هؤلاء المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والأديب الشاعر المحقق الأستاذ محمد محمود حمدان الذي رحل عن دنيانا.. أخيرا ولم ينعه اتحاد الكتاب والمحافل الأدبية، في حين أنها نعت من هم دونه قدرا وعطاء من الأدباء.. ولا تثريب لأديبنا الراحل إذا كان قد اختار العزلة بديلا عن السعي إلي ذيوع الصيت، فإن له من المؤلفات الإسلامية ما كان ينبغي أن يلفت نظر المعنيين بتراثنا الإسلامي فيبادرون إلي الإشادة به وإلقاء الضوء علي حياته وإنتاجه ولا سيما بعد وفاته. ومن هذه المؤلفات التي تدل علي جهد كبير لا يبذله إلا قلة قليلة، فللأستاذ حمدان رحمه الله كتابان محققان صدرا عن الدار المصرية اللبنانية التي يديرها صهره الأستاذ محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين، فله «أوجز السير لخير البشر» لأبي الحسين أحمد بن فارس الرازي، فقد حققه وقدم له وعلق عليه فقيدنا العلامة حمدان. أما الكتاب الثاني فهو «الكبائر للحافظ شمس الدين أبي عبدالله الذهبي»، وإنه ليعز علىّ ألا أتناول هذين الكتابين القيمين بالبحث والتحليل في أثناء حياة محققها نظرا لأنني كنت مقيما عقدا من السنين بالجزائر بسبب معارضتي للنظام الساداتي في تلك الفترة، وإن كنت حريصا علي زيارة هذا الصديق الكريم بعد عودتي عام 1978 إلي أرض الوطن، وأعلم كما حدثني أن له عدة مؤلفات كتبها وظلت مخطوطة لم تنشر منها عن مدرسة الديوان «العقاد والمازني وعبدالرحمن شكري» وكثير من المقالات . رفيق الصبا تشهد «حارة المجدلي» التي ولدت ونشأت بها في طفولتي وصباي، كما يشهد «شارع البراد» في حي شبرا والمدرسة التوفيقية تلك الصداقة الحميمة التي توثقت عراها بيني وبين حمدان، فقد كنا زميلين في تلك المدرسة العريقة التي تخرج فيها عديد من النابغين العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء. وكم تبادلنا الزيارات في منزلنا ذهابا وإيابا، في ذلك الزمن الجميل منذ أوائل الأربعينات، ولست لأنسي ما حييت لقائي بصديقي وشقيقه جمال حمدان الذي أصبح بعد ذلك من كبار العلماء والمفكرين المصريين والعرب بعد صدور موسوعته «شخصية مصر» لكم أمتعنا جمال الذي التحق بعدنا بعامين بالمدرسة التوفيقية بأحاديثه الدالة علي ذكائه ونبوغه المبكر وشجانا بغنائه ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وقد كان رحمه الله عاشقا للحياة والعلم والأدب والفن. بعد تخرجنا في المدرسة التوفيقية التحقت بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول «القاهرة الآن» ثم بكلية الحقوق ثم بكلية الشرطة، والتحق صديقي ورفيق عمري بالجامعة الأمريكية، وفي هذه الأثناء تعرفنا بالأديب الشاعر عبدالرحمن صدقي وكيل دار الأوبرا، وذلك لأننا قرأنا ديوانه «من وحي المرأة» الذي يرثي فيه زوجته ذات الأصل الإيطالي ونظمنا قصيدتين نواسيه فيهما، وأرسلناهما إليه، فنشرهما في خاتمة الجزء التاريخي من ديوانه «جنبا إلي جنب العقاد والمازني وحسين مؤنس وسيد قطب وخليل مطران وآخرين». زرنا صدقي في دار الأوبرا ودعانا إلي زيارته في منزله بحي الروضة وشهدنا عكوفه علي تأليف كتاب عن أبي نواس بعنوان «ألحان ألحان» وتعلمنا منه تفاني الأديب في عمله، فقد كان يعتلي سلما للبحث في الطابق الأعلي من مكتبته الكبيرة عن أحد المراجع، لتوثيق بعض المعلومات ولا سيما الجغرافية منها إحياء بغداد التي كان يرتادها النواسي ليعاقر الصهباء مع ندمائه. كان صدقي ويا للنفس الكبيرة يستشيرنا فيما يسجله من عبارات ومعان وصور، وكان يأخذ برأينا أحيانا وإن كان مخالفا لرأيه، وقد كان من فرط زهوه بالإبداع يصرح بالغناء ومن فرط حبه لنا كان يدعونا إلي دار الأوبرا لنشهد المسرحيات العالمية، وإن كنا لا نرتدي الزي الخاص الذي يرتديه رواد الأوبرا من كبار القوم. لقد تفرقت بنا حمدان وأنا السبل ومضي كل في طريق، كما يقول الشاعر إبراهيم ناجي، وها نحن يؤلف بيننا الحب والذكري والموت، فلا أملك إلا رثاءه والدعاء له أن يتغمده الله برحمته ويرحمنا، وكم أتمني أن يحيي اتحاد الكتاب والمجلس الأعلي للثقافة ذكري الأديب الشاعر المحقق الأستاذ محمد محمود حمدان ويحثوا طلاب الماجستير والدكتوراة علي كتابه أطروحات عن فقيد الأدب والعلم والخلق الرفيعة.