يعترف الكاتب ناصر عراق بأن وصول روايته "العاطل" للقائمة القصيرة للبوكر يحمله مسئولية كبيرة تجاه الأعمال القادمة، تلك الرواية التي حاكت إرهاصات ثوره 25يناير كونها عكست الظروف الصعبة التي مرت بمصر ليثبت أن المبدع صاحب رؤية مستقبلية". القاهرة التقته فدار هذا الحوار: في البداية نريد نبذة مختصرة عن "العاطل " والعالم الذي تدور في فلكه؟ ترصد رواية «العاطل» مواجع شاب مصري متعلم من أسرة فقيرة يقطن في حي شبرا الخيمة، لم يتمكن من إيجاد عمل لائق علي الرغم من كونه تخرج في كلية التجارة، فاضطر إلي العمل نادلاً (جرسون) في مقهي شعبي بوسط البلد، حتي جاءته فرصة عمل بدبي في دولة الإمارات العربية، وهناك انفتح أمامه عالم شاسع يضج بالحب والحسد والعشق والصداقة والجريمة إلي آخره. اقتربت «العاطل» من إرهاصات ثورة 25 يناير لتدين النظام السابق ، فإلي أي مدي استطاع العمل أن يعكس الظروف الصعبه مرت بمصر؟ لقد انتهيت من كتابة العاطل في 30/8/2010، وصدرت في 24 يناير 2011 أي قبل اندلاع ثورتنا العظيمة بيوم واحد فقط، وعليه كان المناخ القاتم الذي يعتري مصر كلها يهيمن نسبياً علي أجواء الرواية، فزمن الرواية يتأرجح بين أعوام 2000 وحتي 2006 تقريباً، وهي فترة بائسة في تاريخ الشعب المصري انعكست ظلالها علي أحداث ووقائع الرواية. ولكن علينا الانتباه جيداً: فالعمل الروائي الناجح، أو أي عمل إبداعي ناجح عموماً، ليس تعبيراً مباشراً وفجاً عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، بل يحقق نجاحه من خلال قدرته علي التلميح والإيحاء والاستشراف ضمن بناء روائي محكم ومتين، ومدعم بشخصيات من لحم ودم مدروسة جيداً تتفاعل وتتصارع ضمن حبكات منضبطة ومنطقية، تعززها صياغة لغوية باهرة ومشرقة وسلسة. كل ذلك ينبغي أن يأتي وفق إيقاع مرن وحيوي. آنذاك فقط يمكن للرواية أن تحقق هدفها الأول وهو إمتاع القارئ وإثراء روحه وإثارة خياله. نعم... حاولت جاهداً أن أحقق هذه الأهداف كلها في (العاطل)، والحكم في النهاية علي مدي نجاح العمل يعود للقارئ الكريم فقط! . إذن ما الهدف أو الرسالة التي أردت إيصالها من خلال هذه الرواية؟ العمل الفني الناجح لا يمكن له أن يقدم رسالة مباشرة، وإلا سقط في مستنقع الوعظ والخطابة والإرشاد، وهي أمور تخاصم الفن تماماً، فالفن الجميل هو الذي يلمح ولا يصرح، يعرّي بنعومة ولا يفضح بخشونة وبالتالي، فالعاطل تقرع، بفن، أجراس الخطر الاجتماعي الذي كان يمسك بتلابيب الشباب في أواخر عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، باختصار تستطيعين القول إنها رواية ضد الفقر والجهل والاستبداد، وإن بصورة فنية حاولت جاهداً أن تكون محبوكة وممتعة وآسرة. ماذا يمثل لك وصول الرواية للقائمة القصيرة للبوكر؟ يخيل إلي أنه لا يوجد أجمل من الشعور بالتكريم والإنصاف. لذا أسعدني كثيراً وصول «العاطل» إلي القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2012 المعروفة إعلامياً باسم البوكر العربية. ذلك أنني أعتقد أنني بذلت جهوداً كبيرة طوال حياتي لتثقيف نفسي وتطوير ذائقتي وإمكاناتي الإبداعية، فكنت أقرأ كثيراً وأنصت وأتأمل كثيراً وأكتب كثيراً. من هنا يعد هذا الإنجاز مكافأة محببة يتلقاها المرء بحبور كبير. لكن المبدع لا يتصدي للكتابة من أجل اصطياد جائزة من هنا، أو تكريم من هناك، ذلك أن الكاتب الموهوب والجاد يذهب نحو الكتابة تحت ضغط إلحاح داخلي يدفعه دفعاً لأن يعبر عما يجيش بصدره ويجول بخياله، فإن جاءت كتاباته متميزة وفاتنة نال التقدير والاستحسان، وهو أمر محمود لا ريب. صرحت بأن وصول الرواية للبوكر يحملك مسئولية كبيرة فما مدي هذه المسئولية؟ لا مناص من الاعتراف بأن المبدع الذي يحصد جائزة مرموقة في مجال ما، يتم تسليط الضوء علي كتاباته التي ستصدر بعد ذلك، الأمر الذي يعني أن عليه واجباً أهم وهو أن يسعي لتطوير إمكاناته ومواهبه من خلال الانكباب علي القراءة والعمل، حتي يتمكن من تجويد منجزه الإبداعي. من هنا قلت: إن وصول «العاطل» إلي القائمة القصيرة يجبرني علي أن أتحري الدقة أكثر وأكثر في كل ما أكتبه بعد ذلك، فالقارئ الحصيف لن يقبل مني برواية أقل من العاطل من حيث الكفاءة والجودة، وبالتالي يتحتم علي أن أنتبه لهذا الأمر جيداً. رغم أنك فنان تشكيلي ولك كتابان في هذا المجال إلاأنك تعرف أكثر كروائي وكاتب صحفي؟ صحيح أنني تخرجت في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1984، إلا أنني لم أنظم سوي معرض واحد فردي في إبريل سنة 1994 في أتيليه القاهرة، بالإضافة إلي مشاركتي في عدة معارض جماعية أخري. أقول لك صحيح إنني فنان تشكيلي، كما أنني مارست الكتابة في النقد التشكيلي كثيراً، ولي عشرات المقالات والدراسات في هذا المجال المظلوم. وعندي كتابان هما «ملامح وأحوال»... قراءة في الواقع التشكيلي المصري، و«تاريخ الرسم الصحفي في مصر» الذي نال الجائزة الأولي في مسابقة جائزة أحمد بهاء الدين في دورتها الأولي. لكنني أعرف جيداً طموحاتي وقدراتي في هذا المجال، فبعد أن غادرت القاهرة في يناير 1999، وجئت إلي دبي لأسهم في تأسيس دار الصدي، توقفت عن الرسم بالألوان الزيتية، واكتفيت باستخدام الألوان المائية والقلم الجاف. أجل أنا أعشق الرسم جداً، لكن علي أن أعترف بصراحة شديدة أنني لم أترك فيه أثراً مهماً. أرسم يومياً اسكتشات سريعة، ولكن من باب الهواية فقط ليس إلا. كما أنني غير طامع في أن أترك أثراً ذا بال في مجال الفنون التشكيلية، لكنني أطمح بقوة في أن تحتل رواياتي صفحات مهمة في كتاب السرد العربي العامر بنصوص روائية مدهشة. أما عالم الصحافة، فقد ولجته وأنا مازلت طالباً في الكلية، حيث أصدرنا محمد القدوسي وسعيد وشعيب وأنا مجلة ثقافية شهرية في يناير 1981 أطلقنا عليها اسم (أوراق)، وكنا نبيعها بخمسة عشر قرشاً فقط. وقد أصدرنا منها سبعة أعداد طوال عام. وبعد تخرجي وأداء الخدمة العسكرية عملت في الصحافة الثقافية فالتحقت للعمل بجرائد «مصر الفتاة» و«الشعب والعربي» و«أخبار الأدب» كما عملت مراسلاً لجرائد «القدس العربي» و«البيان الإماراتية» و«الجزيرة السعودية» حتي يناير 1999، حيث غادرت القاهرة إلي دبي لأشارك في تأسيس دار الصدي للصحافة وأتولي رئاسة القسم الثقافي في مجلة «الصدي» الأسبوعية لمدة ست سنوات ونصف السنة وفي أكتوبر 2004 أسهمت في تأسيس مجلة «دبي» الثقافية الشهرية وشغلت موقع مدير التحرير بها حتي فبراير 2010 باختصار، فإن عملي الصحفي طغي بمعني ما علي نشاطي التشكيلي. إذن ما مدي استفادتك من ثقافتك التشكيلية في المجالات الإبداعية الأخري؟ عالم الفنون مترابط، بمعني أن هناك علاقة ما بين اللوحة والموسيقي والشعر والسينما والمسرح إلي آخره، وبالتالي فإن دراستي التشكيلية وممارستي للفن والنقد قد أسهما في تعزيز ذائقتي وثقافتي العامة، وقد وضح ذلك جلياً في الروايات التي أنجزتها (أزمنة من غبار،من فرط الغرام والعاطل)، كما لاحظ بحق كثير من القراء والنقاد. أما رسم الشخصية الروائية، فيجب أن يخضع للقوانين الداخلية للعمل الروائي نفسه، حيث تتكون الشخصية وتتطور وفقاً لوقائع النص وتناقضات وصراعات أبطاله. انتشرت الجوائز بصورة كبيرة مؤخراً فهل هذا مؤشر حقيقي لوجود حركة إبداعية؟ في اعتقادي أن الجوائز تسهم في تشجيع المبدعين وإشعال حماسهم، كما أنها تنبه القراء إلي الأعمال اللافتة والمتفردة، لأن الجائزة تُعد بمثابة ترويج لعمل إبداعي يستحق الاطلاع عليه. ولكن الحركة الأدبية الناجحة تستلزم وقتاً حتي تستقر وتؤثر، ومن ثم ليس بالضرورة أن تكون الجوائز الكثيرة معبراً عن وجود حركة إبداعية حقيقية، لكنها قد تسهم في التسريع بتشكيل ملامح هذه الحركة وتعزيز حضورها. كثر الإقبال علي كتابة الرواية في الفترة الأخيرة خلال مدة قصيره فهل هذا استسهال لفن جاد؟ الإقبال علي كتابة الرواية أمر جيد ومبهج، حتي لو كان أغلب المحصول الذي تصدره المطابع يعاني عطباً فنياً أو آخر، المهم أن ينتبه الناس إلي أهمية الفن الروائي وضرورته، فيقبلوا عليه كتابة وقراءة. وهو بالمناسبة فن ارتبط ارتباطاً وشيجاً بالمدينة الحديثة التي تضج بصراعات وأحلام وإحباطات قاطنيها. كما أظن أن الكم الكبير في إنتاج الرواية العربية حالياً سيفرز مع الوقت الكتاب الجادين والموهوبين الذين سيقفزون بفن الرواية العربية قفزات كبري إلي الأمام. إلي أي مدي أثر عملك الصحفي علي مفرداتك وكتابتك الأدبية؟ وأظن أن الصحافة منحتني ومازالت، فأنا أكتب وأنشر مقالاتي بانتظام،منحتني مهارات لغوية متعددة، أهمها القدرة علي تطويع اللغة العربية الفصحي وكبح جماحها. كذلك وهبتني نعمة الاقتصاد في السرد وشرح الفكرة، والابتعاد عن الثرثرة غير المفيدة، علاوة علي ضرورة أن تكون لغتي أكثر حلاوة، مشمولة بالطزاجة والرشاقة واليسر. كما أعتقد أن غرامي بالأدب أثري تجربتي الصحفية وأغناها، فالكتابة تحتاج ثقافة عريضة في كل فروع المعرفة، والمرء لا يشرع في الكتابة إلا حين تثور داخله مشاعر وأفكار وقضايا تبحث لها عن مخرج أدبي وفني، ومن ثم تصبح الكتابة للمرء فعل حرية، وفعل حبور في المقام الأول. وأذكر هنا مقولة مدهشة لأحد فلاسفة القرن التاسع عشر تشرح وتلخص قيمة الفن وضرورته، حيث يقول (الفن هو أعلي درجة من درجات الفرح يستطيع أن يهبها الإنسان لنفسه). فالكتابة بالنسبة لي إذن فرح وبهجة وحرية. أخيراً كيف تنظر لثورة 25يناير بعد مرور عام علي قيامها،ومدي تأثيرها علي الحركة الأدبية؟ ثورة 25 يناير كانت حدثاَ مدهشاً ليس في تاريخ مصر فحسب، بل في تاريخ العالم كله. لقد أثبت شباب مصر الذي أشعل قناديل الثورة أنه أجمل من الورد وأغلي من الذهب. أجل... لقد تمكن المصريون من إطاحة رأس النظام وطرد حسني مبارك من عرين الرئاسة، لكن أهداف الثورة لم تتحقق كاملة حتي الآن بكل أسف. فلم تتحسن أحوال الفقراء، ولم ينتقل المصريون خطوة إلي الأمام في مجالات عديدة مثل العدالة الاجتماعية والحريات السياسية وإزالة القبح وأكوام القمامة من فوق الأرصفة والميادين وغير ذلك. لماذا؟ لأن الذين ثاروا لم يستلموا السلطة السياسية، بل خطف المجلس العسكري السلطة في 11 فبراير 2011، والمجلس بالمناسبة هو الوجه الخشن والمسلح للطبقة الاجتماعية التي تحكم مصر منذ أكثر من أربعة عقود. هذه الطبقة يمكن وصفها بأنها طبقة رأسمالية جشعة وتابعة للقوي الكبري في العالم. إذن علينا أن نحتفل بمرور عام علي ازدهار ورود الجسارة والشجاعة في نفوس المصريين.أما الاحتفال بنجاح الثورة فلم يحن الوقت بعد. كما أعتقد أن الأدب سيختلف بصورة كبيرة بعد استقرار الأوضاع في مصر، لأن الإبداع لا ينمو ويثبت حضوره في فترات الاضطرابات والتحولات الكبري. ومصر تعيش هذه التحولات المدهشة ومازالت منذ عام. علينا بحق أن نستبشر بأدب أكثر جمالاً وروعة بعد حين، لكن علينا أن ننتبه حتي لا يخطفوا منا الثورة ويطيحوا بأصحابها الحقيقيين.