تعرّفتُ عليها في أواخر السبعينات. أراها في أتيليه القاهرة وحيدة غالبًا. توهّم خيالي حاجزًا أتهيب اقتحامه. عندما تجرّأتُ وألقيتُ عليها تحية المساء، كانت فرحتي ودهشتي بدعوتها لي بالجلوس معها. بعد تعدد اللقاءات اكتشفتُ مثقفة من طراز نادر. جمعتْ بين لغة العلم والعقل الناقد . زاد احترامي لها بعد أنْ وجدتُ أنّ ماباحتْ به في جلساتنا هو ما كتبته. آلية المساومة في كتابها «الإخوان المسلمون والطبقة العاملة المصرية» الصادرعن شركة الأمل للنشرعام 92 أصّلتْ موقف الإخوان المعادي للعمال. لم تلجأ سناء إلي الكتابة الإنشائية، وإنما إلي وثائق الإخوان أنفسهم، فتنقل حديث حسن البنا عندما دعاه البارون «دي بنوا» مدير شركة القنال الذي عرض التبرع المالي لبناء مسجد بمبلغ 500جنيه. وأنّ البنا اعترض علي قلة المبلغ وليس علي المبدأ. ورغم ذلك قبل التبرع . وكان تعليق سناء عن آلية «المساومة». من جانب البنا وآلية الدفع «النقدي» من جانب البارون، ولماذا التبرع من شركة أجنبية «ليستْ جمعية خيرية» وربطتْ ذلك بتأييد الإخوان للملك فؤاد إذْ ألقي البنا خطبة لأتباعه أمرهم فيها بالتوجه لحضور الاحتفال الذي سيحضره الملك «ليعرف الأجانب أننا نحترم ملكنا ونحبه» وكما أيدوا الملك فؤاد فعلوا نفس الشيء مع ابنه فاروق فخرجوا يهتفون له «نهبك ولاءنا علي كتاب الله وسنة رسوله» وسموه «الفاروق» تشبهًا بعمربن الخطاب. ورغم أنّ إسماعيل صدقي كان يعادي كل القوي الوطنية، فإنه منح الاخوان كل الدعم ولم يكن يطمئن إلاّ لهم، لدرجة أنْ ثارت التساؤلات داخل الجماعة عن الأموال التي حصل عليها البنا من حكومة إسماعيل صدقي، وكان تبرير البنا أنّ ماحصلت عليه الجماعة «هو مساهمة حكومية لأنشطة الجماعة الخيرية» ولذلك لم تكن مفاجأة أنْ يربط الاخوان صدقي بآية من القرآن «واذكرفي الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد». رفض الأحزاب في مارس 38 تم إنشاء حزب العمال برئاسة النبيل عباس حليم وانتخاب المناضل يوسف المدرك وكيلا. ولأنّ الإخوان ضد تكوين الأحزاب، طالبوا بضرورة حل «هذه الهيئات الحزبية لإقامة الشريعة الإسلامية حكمًا علي مصر» وفي أغسطس 38 قرّرالعمال مناقشة أوضاعهم السيئة مع أصحاب العمل وأنّ سلاحهم الوحيد هو الإضراب. وفي اليوم الثالث للإضراب أرسل صالح العشماوي برقية باسم الإخون نصح فيها العمال بالعدول عن الإضراب لأنه يتنافي مع تعاليم الإسلام. وعندما شعرالإخوان بأهمية النقابات خططوا لاختراقها في عام 44وذلك لمقاومة اليسار. ونقلت سناء عن المؤرخ العمالي طه سعد عثمان أنّ الإخوان طعنوا الحركة العمالية، بل إنّ بعضهم عمل كمرشد للبوليس السياسي ومساعدته في القبض علي العمال الهاربين . وفي إضراب العمال في يونية 46 الذي اشترك فيه خمسة عشر ألف عامل، اتصل إسماعيل صدقي بوكيل مصلحة العمل «رئيس المصلحة رجل أمن بريطاني» فتم الاتصال بمسئول قسم العمال بجماعة الإخوان لتخريب الإضراب . فنشر الإخوان تقريرًا قالوا فيه إنّ العمال قرّروا العودة للعمل، رغم أنّ هذا لم يحدث. وشنّتْ صحف الإخوان حملة ضد العمال «المخربين» محترفي «الشغب من العناصرالهدامة» وضرب بعض الإخوان العمال. وذكر طه عثمان سعد أنّ إسماعيل صدقي عدو الشعب لجأ للإخوان لضرب اللجنة الوطنية. فأسّس الإخوان لجنة موازية باسم «اللجنة القومية العامة». كما أنّ الإخوان رفضوا المشاركة في مظاهرة 4مارس 46 لإحياء ذكري شهداء فبراير. ومع تصاعد الإضرابات العمالية كثفتْ صحف الإخوان هجومها علي العمال بساتر ديني فكتبتْ أنّ «اَلإضراب عن العمل والإضراب عن الطعام والاعتصام وتظاهر العمال ضد أصحاب العمل حرام، وعقد العمل مكروه وطاعة أولي الأمرواجبة» وفي إضرابات المحلة الكبري عام 47 ردّد الإخوان في صحفهم حجج الجانب المعادي للعمال والإشادة بموقف مدير الأمن الذي قتل ثلاثة من العمال واعتقل 27 ونصيحة الإخوان هي أنّ علي العمال أنْ «ينتبهوا للعناصرالمندسة» أي استخدام لغة أي حاكم مستبد يلجأ للتوهمات هروبًا من الوقائع. استهتار فاضح ولجأ الإخوان إلي سلاح آخرهوقتل العمال معنويا فهم «يهتكون الأخلاق وينشرون الرذيلة والفساد» ويكتب أحدهم تحت اسم «ش» قائلا «تلك كلمة موجزة نهمس بها في أذن أصحاب مصانع نيومان وكليب روناشان وداود عدس، ونرفعها إلي أولي الأمر، في تلك المؤسسات استهتار فاضح بالأخلاق والشرف وهناك اتصال يفرضه العمال بين الفتيات والعمال . الشيطان يبيض ويفرخ في تلك الأوكار» وبعد أنْ نقلتْ سناء المصري النص الكامل كتبتْ عن لغة الإخوان العدوانية ضد العمال والعاملات اللائي اشتركن مع العمال في الإضراب عندما رفضن محاولات أصحاب المصانع لتعيينهن بدلا من العمال الرجال . كما أنّ عدد العاملات قليل جدًا وأحيانًا يكون بالمصنع عاملة واحدة وأنّ الرقابة الشديدة في المصانع بالكاد تسمح بأي شأن شخصي» ويكتب إخواني آخر«إنّ خطبًا يلم بطبقة العمال هو انحلال الأخلاق هوالفوضي والإباحية». أيد الإخوان استيلاء الضباط علي الحكم في يوليو52، ولم يكتفوا بذلك وإنما وقفوا ضد العمال في أول اختبارلهم لدرجة أنه عندما حدث إضراب عمال شركة صباغي البيضا يوم 9/8/52 اقترح الإخوان تطبيق حد الحرابة علي العمال المضربين، أي تقطيع أياديهم وأرجلهم من خلاف. وكتب الإخواني «محمد بكير» مقالا يوم 5أغسطس بدأه بتملق الضباط والهجوم علي «الشيوعية الهدامة. وإذا كان البوليس قد تولي التحقيق مع الخونة للمحاكمة. كنتُ أريد من العمال أنْ ينصبوا من أنفسهم قضاة ويحكموا علي هؤلاء بالإعدام» وبعد إضراب عمال كفرالدواريوم 13 أغسطس كتب إخواني مقالا بعنوان «ابحثوا عن المجرمين الحقيقيين» اتهم فيه العمال بالتخريب ونشر الفساد في الأرض ليشوّهوا العهد الجديد. «يارجال التطهير لا تأخذكم بأعداء الله والوطن رحمة ولا شفقة» هكذا يكون توظيف الدين ضد العمال إذْ إنّ إضرابهم = العداء لله. وبعد إعدام خميس والبقري وسجن آخرين كما في مذبحة دنشواي، اتخذ الضباط من سيد قطب مستشارًا لهم كما كان مستشاررئيس المحكمة التي حكمت علي العمال. وقال إنّ النقابات في حاجة إلي أنْ تتطهر وأشار إلي أحمد طه سكرتير نقابة عمال ماركوني. كما تعثر انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للعمال «بسبب العوائق التي وضعها البكباشي عبدالنعم أمين رجل المخابرات الأمريكية وسيد قطب رجل الإخوان» وفي يوم 28يوليو«أي بعد جلوس الضباط علي كراسي الحكم بخمسة أيام» ورد بصحيفة الأهرام «بيان للمرشد إلي الإخوان بوادي النيل» جاء به «الإخوان المسلمون خير سند لحركة الجيش. يظاهرونها ويشدون أزرها.. إلخ» . مظاهرات حلوان في يوم 1يناير75 حدثت مظاهرات عمال حلوان في ميدان باب اللوق ضد ارتفاع الأسعار. تعاملت قوات الأمن مع العمال بكل وحشية ومعها صحف الحكومة. ولم تتخلف صحف الإخوان عن المشاركة في ذبح العمال معنويا فتكتب الاعتصام أنّ «حوادث الهدم والتخريب الأخيرة وراءها تنظيمات ماركسية يجب القضاء عليها» وفي عدد آخرمن الاعتصام «إنّ علي ولاة الأمور أنْ يضربوا بيد من حديد علي رءوس هذه الفئة الهدامة حتي لا تقوم لهم في دولة العلم والإيمان قائمة» وكان تعليق سناء البليغ أنّ الديكتاتورية العسكرية، إذْ تلتقي مع الفاشية الدينية، فإن الأولي لا تنتظر النصيحة وإنْ كانت تُرحب بها. ولتأكيد الولاء يكتب حسن عاشور مخاطبًا السادات «سيدي الرئيس.. تبارك جهادك الكريم في بناء صرح الدين. لبنة للعلم ولبنة للإيمان. الأمل فيكم كبيرياصاحب القلب الكبير» وبعد الانتفاضة الشعبية في 77 فإنّ مفخرة الإخوان أنهم لم يشاركوا فيها. مع المطالبة بعقاب الشعب علي جريمة التظاهر ضد الحاكم. وكتب محمد عبدالقدوس «أحداث 18، 19يناير أثبتت أصالة الجماعات الإسلامية» واستشهد برأي حافظ سلامة- الذي يصفه ببطل المقاومة الشعبية- مع أنه كان يهاجم الجماهر الشعبية وطالب بإنزال العقاب علي الشعب وعلي قياداته. وأنّ «العناصر الإسلامية لم تنخدع بهذه الأحداث مما أفسد مخططها» وكان تعليق سناء التي جمعت بين لغة الواقع والضمير«يبدوأنّ حافظ سلامة حامل لواء الدعوة الإسلامية وطربوش الخلافة العثمانية لم ينتبه إلي أنّ الانتفاضة أخمدت ليس بسبب عدم اشتراك الجماعات الإسلامية فيها، بل بفعل قوات الجيش التي زحفت علي المدن وتراجع الحكومة عن قرار رفع الأسعار» ونقلت سناء افتتاحية مجلة الاعتصام «رفضتها الأمة ثورة حمراء فكانت ليلة سوداء» وهكذا وضع كاتب الافتتاحية نفسه في سلة واحدة مع نظام السادات القمعي. وأرسلت جماعة «شباب محمد» برقية إلي السادات قالوا فيها إنهم «لك بالخير ويشجبون حوادث 18، 19يناير الإجرامية التخريبية ويطلبون حل وإلغاء حزب اليسار لاحتضانه لمبادئ مستوردة هدامة.. إلخ» وكان تعليق سناء أنّ هذه البرقية كما لو أنها كتبت بلسان وزير الداخلية. وانتهز الإخوان أحداث يناير77 للمطالبة بإقامة الحدود «في إقامة حد الله أمن للمجتمع وتطهير للجاني» وفي إضراب الحديد والصلب «أغسطس 89» شاركت صحف الإخوان في الحملة ضد العمال مع نفي أية صلة لهم بالأحداث وتحذير الأمة من أية تحركات عمالية قبل «انتقال ماحدث في حلوان إلي غيرحلوان» . هذا عرض مختصرلكتاب سناء المصري، بنت مصرالمنحازة للغة العلم والمُصغية لنداء الضمير كما فعلت في كتابها «هوامش الفتح العربي لمصر» الذي أزاحتْ فيه الستارعن كل ما تُصر الثقافة السائدة البائسة في مصرعلي أنْ يظل أسير مقابر التاريخ.