الوطنية للانتخابات: مشاجرة بين أنصار مرشحين في إسنا    إعادة تخصيص قطعة أرض لاستخدامها في إقامة مشروعات تنموية بالقاهرة    طرح 25 ألف وحدة سكنية عبر منصة مصر العقارية.. الأحد المقبل    "الزراعة" تستعرض أنشطة المركزي لمتبقيات المبيدات خلال أكتوبر    مشاورات مصرية - سودانية لبحث العلاقات الثنائية وجهود احتواء الأزمة    شاهد البث المباشر لمباراة السعودية ومالي في كأس العالم تحت 17 عامًا اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    إعلامي يكشف حقيقة معاقبة زيزو بسبب نائب رئيس الزمالك    تأجيل محاكمة 8 متهمين بخلية مدينة نصر    مصرع أم بطلق ناري خرج من سلاح ابنها أثناء العبث به في شبرا الخيمة    تأجيل محاكمة 8 متهمين بخلية مدينة نصر    امبابة تودع إسماعيل الليثي في جنازة مهيبة.. نجوم الغناء الشعبي يشاركون في وداعه    الجامعة الأمريكية بالقاهرة تحتفل بفوز الكاتب إبراهيم نصر الله بجائزة نيوستاد الدولية للأدب    الأزهر للفتوي: إخفاء عيوب السلع أكلٌ للمال بالباطل.. وللمشتري رد السلعة أو خصم قيمة العيب    صدام بين ترامب وحليفته الجمهورية "مارجوري تايلور جرين" بعد زيارة الرئيس السوري للبيت الأبيض    مجلس الشباب المصرى لحقوق الإنسان يدعو المواطنين لاستكمال المشاركة بالانتخابات    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    في واقعة الشاب المصفوع.. عمرو دياب يطعن على حكم تغريمه 200 جنيه    شاب ينهي حياة والدته بطلق ناري في الوجة بشبرالخيمة    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك».. ندوة علمية حول "خطورة الرشوة" بجامعة أسيوط التكنولوجية    علي ماهر: فخور بانضمام سباعي سيراميكا للمنتخبات الوطنية    محمد عبد العزيز: صناع البهجة يُكرَّمون ثم تُتجاهل أفلامهم    بعد الأزمة الصحية لمحمد صبحي.. شقيقه: وزير الصحة تواصل مع أبنائه لمتابعة حالته (خاص)    بعد قليل.. مؤتمر صحفى لرئيس الوزراء بمقر الحكومة فى العاصمة الإدارية    دار الافتاء توضح كيفية حساب الزكاة على المال المستثمر في الأسهم في البورصة    التجاري الدولي ومؤسسة إبراهيم بدران يحتفلان بافتتاح عيادة الأسنان المتنقلة ضمن مشروع "أطفالنا مستقبلنا"    الرئيس السيسي يوجه بمتابعة الحالة الصحية للفنان محمد صبحي    تحرير 110 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات في مواعيدها    رئيس مياه القناة يتابع سير العمل بمحطات وشبكات صرف الأمطار    الجيش السودانى يتقدم نحو دارفور والدعم السريع يحشد للهجوم على بابنوسة    إحباط من المقربين.. حظ برج الدلو غدًا 12 نوفمبر    إقبال كثيف على جميع لجان الاقتراع فى انتخابات النواب بالإسكندرية.. فيديو    «سنة و50 يومًا» يحتاجها زائر المتحف المصري الكبير لمشاهدة كل القطع الأثرية المعروضة (تحليل بيانات)    اجتماع تنسيقي بين الأهلي وسموحة لترتيبات سوبر اليد    أوباميكانو: هذا الثلاثي أسهم في نجاحي    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    إدارة التعليم بمكة المكرمة تطلق مسابقة القرآن الكريم لعام 1447ه    تاريخا جديدا بهتاف تحيا مصر فى أول مشاركة برلمانية بأكتوبر.. فيديو وصور    برشلونة يرد على اتهامات الاتحاد الإسبانى بشأن أزمة لامين يامال    البورصة المصرية تخسر 2.8 مليار جنيه بختام تعاملات الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    وفد من جامعة الدول العربية يتفقد لجان انتخابات مجلس النواب بالإسكندرية    رحلات تعليمية وسياحية لطلاب المدارس بالشرقية    «العمل» تستجيب لاستغاثة فتاة من ذوي همم وتوفر لها وظيفة    «أنا مش العقلية دي».. ياسر إبراهيم يرفض الاعتراض على قرار حسام حسن    «رحل الجسد وبقي الأثر».. 21 عامًا على رحيل ياسر عرفات (بروفايل)    غزة على رأس طاولة قمة الاتحاد الأوروبى وسيلاك.. دعوات لسلام شامل فى القطاع وتأكيد ضرورة تسهيل المساعدات الإنسانية.. إدانة جماعية للتصعيد العسكرى الإسرائيلى فى الضفة الغربية.. والأرجنتين تثير الانقسام    طن عز الآن.. سعر الحديد اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 أرض المصنع والسوق    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    تأكيد مقتل 18 شخصا في الفلبين جراء الإعصار فونج - وونج    تحديد ملعب مباراة الجيش الملكي والأهلي في دوري أبطال أفريقيا    حسام البدري يفوز بجائزة افضل مدرب في ليبيا بعد نجاحاته الكبيرة مع أهلي طرابلس    معلومات الوزراء: تحقيق هدف صافى الانبعاثات الصفرية يتطلب استثمارًا سنويًا 3.5 تريليون دولار    بسبب أحد المرشحين.. إيقاف لجنة فرعية في أبو النمرس لدقائق لتنظيم الناخبين    بينهم أجانب.. مصرع وإصابة 38 شخصا في حادث تصادم بطريق رأس غارب    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزمن يتحرك ويتداخل ويرتد في ترينحه «محمد قطب» الابداعية
نشر في القاهرة يوم 14 - 02 - 2012

في البداية هناك ملمح شكلي لا يصح إغفاله في المجموعة القصصية ذات الشعر المنسدل» للكاتب محمد قطب، والصادرة عن هيئة الكتاب.. الملمح الشكلي هو غلاف الكتاب، حيث الرسم الرومانسي الذي يضم مجموعة الأعمال الإبداعية، ويتناسب إلي حد كبير مع جوها، من حيث طبيعة الفتاة «الموديل» وإيحاءات ملابسها، وهدوء الألوان وتناسقها، كما أن اختلاف أسلوب الخطوط وألوانها زاد الغلاف حيوية وجمالاً. من الملاحظ أن غالبية أعمال المجموعة تدخل في نطاق الأعمال المرهقة للقارئ.. ومرجع ذلك ولع الكاتب بطقوس الغموض الفني والتأويل الرمزي.. من خلال حركة الأزمنة وتداخلها وارتدادها.. ومن حيث تداخل الضمائر.. وأيضاً من حيث اعتماده في المنظومة الإبداعية علي استنطاق المشاعر الداخلية، ولغة الإيحاء والإشارة للحواس والأطراف والعيون.. وأخيراً من حيث ومضات اللغة المكثفة ذات الحوار الخاطف. الراوي إن الكاتب المتمرس محمد قطب في مجموعة «ذات الشعر المنسدل» قد اختار دور الراوي صاحب العلم والهيمنة علي جوانب وتكوينات جوه الإبداعي، بما في ذلك أدق أسرار الشخوص وهواجسهم وطموحاتهم ومآسيهم.. رافضاً بذلك الاكتفاء بالحركة الخارجية للفعل، وبتيار حديث النفسي «المنولوج الداخلي» في تكوين هذا الجو المضبب المتشابك..! إننا نستشعر متعة الكاتب الذاتية وهو يشاغب ذكاء القارئ متسرباً به، وفي غفلة منه، إلي شطحة ارتداد «فلاش باك» مربكة فكرياً في بعض الأحيان، وممتعة فنيا في أغلب الأحيان. ان الاستشهاد التطبيقي علي معطيات الجو الإبداعي عند محمد قطب، وفي هذه المجموعة القصصية بصفة خاصة يمكن ان تتبلور في الأمثلة الآتية: ذات الشعر المنسدل يبدأ الراوي بضمير المتكلم وبالفعل المضارع «أُمسك».. ثم بعد سطر واحد يستمر مع ضمير المتكلم ويتحول للفعل الماضي «حدقت» وذلك ما أشرنا إليه بتداخل أزمنة القص.. ثم يبدأ البطل الراوي رحلته «الواقعية» بجو الفصل الدراسي، حيث يعمل مدرساً بمدرسة للبنات.. ثم يتوه بنا الراوي فجأة، وعلي طريقة القطع في السيناريو، في رحلة ارتداد زمني، حيث كان تلميذاً يستمع إلي أستاذه، وهو يتكلم عن عرابي وحركته الوطنية، وتستمر رحلة تداعي الأفكار متخذة روافد متعددة، حيث يلوح للقارئ بعلاقته بذات الشعر المنسدل، فتاة القرية التي عاش فيها.. ثم علاقته بناظرة المدرسة، مغذياً هذا الرافد بكشف عن أهم مبادئ الراوي البطل الأخلاقية، ووجهة نظره في متعاطي الدروس الخصوصية من الزملاء المدرسين. «أخرج قلم الرصاص وأخط رسماً لها، المنديل الذي يلم شعرها المنسدل والوجه الطازج كرغيف ساخن والجيد المنحوت والصدر البازغ» في العبارة تظهر أهم معطيات الجو الإبداعي عند محمد قطب، من تداخل الأفعال «أُخرج.. ومشي» إلي توظيف لغة الإيحاء والإشارة للحواس والأطراف والعيون «شعرها المنسدل.. الوجه الطازج.. الوجه المنحوت.. الصدر البازغ».. كما تظهر في العبارة اللاحقة مدي قدرة الكاتب علي استنطاق المشاعر الداخلية ولغة الإيحاءات ذات الومضات الخاطفة. «أحسست بالعرق ينبت في الوجه، ويتكور فوق الجلد واليد، ثم يسيل يرعش العصب، ويجب القلق». الطرف الآخر من البيت استخدم الكاتب ضمير المتكلم بصيغة الغائب.. كما تداخلت أزمنة الأفعال وهو يقطع بنا رحلة البطل المدرس «أيضاً» وهو يقع في أحبال الأنثي «التلميذة».. لتكون صفقة الزواج هي نهاية التردد والدوران حول رائحة الطعم، وبداية الوقوع في الشرك المنصوب في خبث تلقائي ومشروع..! فنلاحظ حركة الفعل «المضارع» وهي تقوم بكل العمل في تكوين الجو القصصي من شخوص وأماكن وردود أفعال بداية من أول كلمة في القصة «يواجهك» وحتي منتصف صفحة «19» حيث يبدأ الفعل الماضي «ارتدت» في المزاحمة ليجد له فاعلية في جو القص، ولينطلق مشاركاً في العملية الإبداعية..! نلاحظ أيضاً عملية القطع والارتداد الزمني قبل نهاية القصة بصفحة واحدة.. فنكتشف المأساة «الآتية» التي يعيشها البطل الحالم.. وبعد أن قطع رحلة التشوق في مشوار الزواج «المنصرم». «وها أنت رازح تحت وطأة الصمت حتي غلبك فغبت عن خمائل الجسد». كما نلاحظ ضعف البطل وقلة خبرته في مواجهة العلاقات الاجتماعية الماكرة، ثم اكتشاف المتأخر لوعورة المأزق الذي تهاون في تقديره وحسم موقفه منه.. ومنذ البداية..! «أغراك السكون وغيمة الشعر المنسدل وطيبة الرجل ووحدتك القاسية فأعلنت رغبتك. كادت تنهض لتحتويك لولا نظرة الأب وضحكة الأم الزاعقة». الوجه الساكن في غيمته نفس أسلوب تداخل الأفعال.. تبدأ رحلة قيادة القص بتولي الفعل «المضارع» دفة الطريق.. إلي حيث مفترق التحول فيتسلم الفعل الماضي «لم ينجح» قيادة الدفة لمواصلة الرحلة. عملية الارتداد في هذه القصة جاءت مضفرة باللحظة الآنية بمستوي عال من الفنية.. فالبطل «المدرس» يبدأ رحلة الغربة والإحساس بالتوحد باستعراض تضاريس المكان، ثم تفاعله التلقائي مع هذه التضاريس. «استقبله فضاء رحب، وصحراء مصفرة وترابية، وهواء لزج مشبع ببخار البحر، يحمل بين ذراته سخونة شعر بها وهي تلج إلي مسامه وتلوي صدره.. احتار أين يذهب..؟». ثم يأتي حديث النفس ليكشف الأبعاد الداخلية، وما يستعر فيها من توجس وانقباض للقلب..! «الآن تشعر أن عمرك ينقضي في مقايضة محزنة، وأن أيام شبابك تكاد تبيعها في مقابل حفنة من المال تساعدك علي الزواج، تلهث كالمذعور وقلبك علي حافة عينيك، ويحتويك الوهن ويكوي القلق جسدك وتكاد تحس بمفرداته تفلت منك». فالهدف الأوحد لرحلة الغربة يبدو واضحاً من البداية.. ثم يبدأ البطل المغلوب علي أمره في الانزلاق في سرداب الزمن إلي الخلف..«الفلاش باك» حيث يجتر مواقف معينة من مشوار الماضي، هي في الواقع كل حياته.. هي إطار علاقاته بالبشر وبالمكان.. حيث تطفو مشاعر الأبوة النقية الجياشة إلي سطح الاختبار وهي مكبلة بقيود قلة الحيلة وقلت ذات اليد..! وحيث زوجة الأب علي اختلاف صورتها التقليدية.. فهي هناك رمز الحنان المتدفق، والأمومة الدافئة، والرعاية المتفانية. - أنت ابني يعلم الله. - لم أعرف لي أما سواك. - لا تنس أبوك مريض وأخوك يتعلم وأنت تفهم. نلاحظ هنا تدفق لغة الحوار بشكل خاطف ومؤثر. ويستحضر البطل الخطيبة المعارضة لرحلة السفر في البداية، وهي المتوهمة بالاكتفاء بجرعة الحنان من حبيبها لإقامة عش الزوجية السعيد، ثم وهي المشجعة علي الرحلة استجابة لضغوط أمها، التي تفكر بطريقة عملية فتقتنع بأن رحلة العمل هذه هي الطريق الأوحد لمعالجة الأزمة المادية ولإتمام صفقة زواج ابنتها بالشكل المرضي. وهكذا راح الكاتب يحرك بطله في طريق العالم الجديد، العالم الجاف، بعد أن علق بأكتافه قيوداً تشد إلي الخلف، إلي هناك، حيث طراوة عالمه الحقيقي. من النماذج المساعدة التي زرعها الكاتب بحرفية بالغة لإثراء شخصية البطل، ولكشف أبعاد تكوينها «الغفل» نفسياً واجتماعياً من شوائب المدينة الحديثة.. هي نموذج الصديق الفلسطيني القائم بدور الدعامة الملائمة لرخاوة البطل في بعض المواقف..! قصة «الوجه الساكن في غيمته».. من أقوي قصص المجموعة، وهي تصلح لأن تكون بناءً روائياً جيداً، فهي تحمل من مقومات العمل الروائي ما يعطيها الفرصة الأوفر لتحقيق هذا الشكل من الإبداع الفني. لحن القول امتدادا لرحلة الفرار من سجن التوحد، وسعياً لانتزاع شرنقة الانفرادية عن الذات المقهورة، ظل البطل في تشوقه للأرض البراح والحرية يتزايد ويتسع، شاهراً قرني استشعار لهما القدرة الفائقة علي الاستطلاع والمناوشة. ومن البداية فالبطل يكشف صراحة عن طبيعته الفضولية. «أدركت من انحناءة رأسه أنه فضولي». كما يكشف عن طبيعته الهروبية، المتوجسة من حدة الواقع الضاغط..! ويكشف أيضاً عن سلبيته وخنوعه لسيطرة الآخرين..! «لا يتخلي عن مساره اليومي المعتاد، منذ أن يعود إلي بيته وإلي أن تمتد يد زوجته تسحب فوقه الغطاء». وهكذا تبدو طبيعة البطل المستسلمة، المتنافرة مع ردود الأفعال السلوكية بشكلها الإباحي.. تبدو مندفعة في حرص متردد وأمل هزيل لأن تجد شيئاً عند هذه المرأة، تلك التي اصطادتها عينا البطل في البنك، فأدهشته ثراؤها وجرأتها، ورغبتها في أن تناوش إغراء الطعم المناور لها. «به رغبة مسيطرة أن يتعرف عليها، فقد يأخذه الحديث إلي شواطئ فسيحة ومياه تصطفق». ويستجيب البطل.. فيترك العنان لنفسه الطيعة لتدخل به جوف الأحلام الوردية، والإشباع الوهمي، والطموحات المخدرة.. فيتلكأ في تراخ علي تضاريس جسدها «امرأة البنك» وحركات أطرافها وإيحاءات عينيها.. لعله يشبع فضوله الضاغط..! «لم تفته ذمة العين، وعبسة تشد الجبهة، لاحظ من حركة الصدر أن نفساً عميقاً يتسلل إلي الداخل ويخرج ببطء». ويلتقط البطل من إسقاطات الحديث فقط ما تستهويه منه، مايخدر مشاعره، وما يرطب جفاف الحرمان بداخله..! فهي وحيدة بين الأهل والأحباء، كما هو وحيد في بؤرة أسرته. «هل تعرف الوحدة مثله..؟ أكل من يحيا بمفرده يصبح وحيداً.. أتدرك قسوة أن يكون الإنسان وحيداً وسط أهل وأسرة..!». وتتأتي الصور المتلاحقة للماضي بحبه المفقود، ومشاعره النابضة خلال مقاطع الارتداد «الفلاش باك».. المنشطة لحاسة الاستقبال عند القارئ، والمكثفة لجو الحدث، فتتدرج بهما تيارات العاطفة، وتزداد سخونتها، متشبعة بطقس الجو الرومانسي.. الشاطئ والسماء وأجنحة الملائكة، والحدائق.. و.. «وكانت قد قبضت علي بهجة الحياة وهي تجالسه». ولكنه فوجئ وهو يسعي في طريق الدخول إليها، فوجئ بالنبتة الخضراء وهي تقاوم تراكم الصخور، هناك في الصدر.. لتطل برأسها، معلنة الرفض التام. «لا أحب أن أسيء إلي أحد..!» وسلمت عليه ومضت.. رافضة تماماً أن تسيء للزوجة الغائبة. عنوان القصة جاء موفقاً بدرجة ملحوظة، فما لحن القول إلا هذا النوع المناور من الكلام، المستطلع لردود الأفعال، والمحتويها في غير مباشرة أو استخفاف..! المرأة البيضاء يكشف البطل الراوي في هذه القصة، ومن البداية عن رغبة الفضول المسيطرة علي سلوكياته.. فبينما هو مشغول بالجو خارج الأوتوبيس، إذ بعينه تلتقط المرأة البيضاء ذات الحجاب الأبيض الفضفاض، الجلسة بجوار الرجل.. فيروح البطل يراقب ويتمعن ويؤول، الهمسات والصمت، حركات الملامح والأطراف، إيحاءات العيون واللمسات تلك الدائرة بينهما.. مدفوعاً بذلك لإرضاء فضول مستعر، لا يكاد يهمد أو يتراخي. «ألح علىّ شعور يباغتني كثيراً أن أدقق في أصابعها، تعودت في مثل هذه المواقف أن أبحث عنه في إصبع اليد». ثم تتزايد وطأة الفضول علي الذات المستسلمة فلا تملك إلا ترديد الاعتراف بالعجز، أمام سطوة الحواس المشاغبة، وهي تنتقي من ردود الأفعال ما يريح النفس ويطيب الخاطر..! «خضت الحديث وراحت أذني تستل الصوت وتصنع القول». أيضاً لا يتوقف الفضول عند هذا الحد من امتلاك زمام الموقف.. بل يظل ضاغطاً لدرجة الوصول بالذات إلي حالة الحرج الموصول..! «سبب لي البحث عن وهج العين والخاتم وفراشة الخد حرجا موصولا». وتبدو عقدة البطل من الزواج غير مبررة علي البعد الواقعي أو النفسي..! «يعضني قلبي حين يتبدي خاتم الزواج». وتبدو أيضا رغبة الهروب من الواقع وهي لابدة خلف النظارة السوداء، تلك التي يعشقها البطل، ويروح يسرق بها أسرار الآخرين في توجس وإصرار.. «اضطررت لابتياع نظارة سوداء ألبسها حين يشتبك الموقف ويؤذن بفعل ما». المقابلة الإيحائية التي أقامها الكاتب بين المرأة البيضاء ورفيقها الشاب من جهة، والعجوز التي تبدو ملتاثة من جهة أخري، جاءت هذه المقابلة علي درجة فنية عالية، حيث بدت المرأة البيضاء وهي تناور، وتدير دفة متاعها الأنثوي، بدت في موقف العشيقة وهي تخون زوجها الغائب مع رفيقها الشاب وبدت العجوز في موقف الأم الواقعة تحت وطأة النبذ والحرمان من بر الابن الخانع لامتهان زوجته لرجولته. «دارت علي حل شعرها قلت للنتن خد بالك منها، خدها معاك». لغة الحوار الخاطفة الذكية نجحت في توصيل الإيحاءات المتلاحقة وكشف الزوايا المضببة مستهدفة الرؤية لأعلي درجة. ترميم القلب برغم الحذر والانتباه وبرغم حساسية الأزمة إلا أن ما دون السطح كان يمور بالغليان! بدأ اللقاء بسيطا ظاهريا بين المرأة صاحبة القلب الآيل للسقوط والطبيب صاحب التخصص في ترميم القلوب. وقد نجح الكاتب من البداية في زرع بذور الشك في طبيعة شخصية المرأة، فهل هي شخصية متوازنة العاطفة والأخلاقيات جاءت للطبيب مستهدفة بالفعل علاجا لمرض
عضوي أو نفسي طارئ أم أنها جاءت لخوض تجربة مشكوك في براءتها ومشروعية مقصدها.. ويبدأ الكاتب في زرع بذور الشك حين يبادر بتعرفنا بالمرأة. «هبت من جسدها رائحة ميزتها الأنوف المدربة». فما هي هذه الرائحة التي تميزها الأنوف المدربة؟ وبماذا يوحي للقارئ هذا المشهد الحسي حين تتكفل الرائحة المميزة جذب العيون والغرائز؟ عادة ما تقوم الرائحة المرسلة من الحيوان بدور شفرة التعارف والتمهيد للقاء الجنسي بين الذكر والأنثي. ثم هناك ومضة خاطفة لا أعتقد أنها جاءت عفوية في تصرفات المرأة، بل قصدها الكاتب ليؤكد بعدا سلوكيا رأي ضرورة التركيز عليه. «قدم لها بطاقة التعريف.. مسحتها بعين مدربة ودستها في صدرها». فكيف تكون العين مدربة؟.. وعلي أي سلوك كان هذا التدريب؟.. الملاحظتان السابقتان تدينان المرأة بدرجة ما في نقاء مقصدها وبراءة رغبتها! مع هذا المشوار الجريء! فهل أوصلها الحرمان الجنسي بالفعل لدرجة صخب القلب وللمعاناة الحقيقية من ضغط الأزمة.. فاضطرت لأن تتحرك وتقامر أم أن التشوق لتجربة البلسم، المختص به هذا الطبيب بالذات هو الدافع الحقيقي وراء كل ذلك؟ خاصة بعد أن أغرتها الصديقة الخبيرة وأوعزت لها بثراء التجربة ومشروعيتها! أيضا فتصرفات الطبيب مع صاحبة القلب المحروم، وفي حجرة الكشف وبعد أن أصبحت مباحة بشكل ما وهي ممددة علي سرير الكشف.. لم تتعد سلوكياته حدود المهنة ولم تكشف عن انحراف أخلاقي أو غريزي! ولكنه وهو يعطيها بطاقة التعارف، ثم وهو يحدد لها موعد تواجده بالمنزل كان لابد أن يعني ذلك أحد أمرين. إما أنه يقوم بترميم القلوب بمعرفته شخصياً ولحسابه الخاص، وإما أنه مجرد وسيط بين المرمم الحقيقي، صاحب المقدرة والكفاءة، وبين القلب المتعطش لمتعة الترميم. وبشكل عام فقد تميزت هذه القصة بلغة حوار ذكية ونشطة لأبعد الحدود، وهي ترسم الشخصيات في دقة وبساطة متناهية. ثم جاءت النهاية غير المستقرة لتتلاءم بشكل رائع مع طبيعة الأزمة وامتدادها وهلامية أطرافها..!

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.