إذا أردنا أن نستزيد من إلمامنا بطبيعة الوضع الحضاري الآني فينبغي لنا الرجوع إلي الخلف قليلا، إلي القرن التاسع عشر، فمع بداية هذا القرن بدا واضحا مدي تنامي واتساع المدن الأوروبية في أعقاب الثورة الصناعية وتزايد الميكنة والتجديد التكنولوجي المتسارع، وإحلال لسلع جديدة باستمرار، وقد أفضي كل هذا إلي الاستهانة بفكرة الدوام للممتلكات المادية، واستبدال الرغبة في الاستمرار بالانطباعات السريعة الزوال ، والإقبال علي عيش اللحظة بديلا عن الدوام والاتصال ومع استسلام الأفراد لهذا الواقع المثير الدائم التغيير، وغلبة الانطباع العارض، لأصبحت الذات نفسها ودوامها كوحدة حية موضع شك، خصوصا مع تضخم وسيادة مؤسسات الدولة، وقيام القوي الصناعية والعسكرية بمحق حرية الفرد وسحق روحه، ومن ثم أصبح مصطلح الاغتراب الذي اطلقه هيجل علي حال الفرد حيال عالمه والذي ألح من بعده ماركس علي ارجاعه إلي الوضع الاقتصادي صار هذا المصطلح سائدا بين جماهير المدن الصناعية الحديثة، وأخذ تفاؤل عصر التنوير يتلاشي لكي تحل محله مخاوف انسحاق الفرد البسيط أمام القوي التي من صنع يديه، ولعل خير تعبير عن هذه المخاوف نجده عند كل من تشارلي شابلن في فيلمه «العصور الحديثة» وأيضا في روايتي فرانتس كافكا «القضية والمحاكمة». أدي تفاقم هذه الأوضاع إلي نشأة الأيديولوجيات الاشتراكية والفوضوية والعدمية والشيوعية التي أخذت في مناهضة قوي السلطة الرجعية متمثلة في الامبراطور نابليون الثالث والقيصر فيليهم الثاني. مع انتصاف القرن التاسع وحتي منتصف القرن التالي تتابعت اشكال الفن المناوئة لتفاؤل عقلانية عصر التنوير وما عاد الفنانين يصغون إلي مؤسس فن النيوكلاسيك «جاك لويس دافيد» الذي طالب بألا يكون الفن مجرد مسلاه لا جدوي منها ومداعبة للاعصاب أو امتياز للأثرياء بل أن يصلح الأوضاع ويحفز علي العمل وأن يكون نقيا صادقا ملتزما، فمع انتصاف القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1865 تعرض ادوارد مانيه ولوحته أولمبيا لموجة عارمة من السخط والسخرية من الطبقة الارستقراطية ذات الرؤية المحافظة في ذوقها التقليدي، ومع حلول عام 1888 قدم جوجان منهجه التأليفي بينما حاول سيزان بناء لغة التصوير من جديد وتتابعت عروض التأثيريين الجدد والرمزية ثم السريالية، وبعد الحرب الثانية يفاجئنا فرانسيس بيكون بالوجوه ذات الأفواه الصارخة ثم البوب آرت الأمريكي المنشأ. هكذا تلاحقت مذاهب الفن الحديث لما يقرب من مائة عام، ثم تلاها ما نعرفه بما بعد الحداثة، خلال تلك الأعوام المائة، عبرت الحضارة الأوروبية من مرحلة الربيع الحضاري الخصبة الخيال إلي مرحلة المدنية المطبوعة بالعلم الوضعي التجريبي والفهم التحليلي المجرد. بإمكاننا رؤية انعكاس طبيعة هذا الوضع بكل وضوح منذ نشأة المذهب التأثيري بكل ما حاط به ودعمه من أبحاث ونظريات علمية عن تحليل الضوء والتكامل اللوني ثم امتداد نفس هذا الطابع العلمي في صياغة النظريات التجريدية، وحتي مرجعية السريالية في الأبحاث الفرويدية. بل ينبغي أن نفهم مجمل معطيات الفن الحديث بكل ما يحمل في جعبته من مذاهب باعتبارها محصلة لجهود تحليلية تغذت علي كل ما سبق وانتجته الحضارة الأوروبية من تصوير في المراحل الأبكر فحقيقة أمر هذه المذاهب الحديثة تتضح بكل جلاء عندما نراها في ضوء علاقاتها بالتراث الذي تدعي تجاوزه، فإذا أمعنا التأمل في كل مذهب من هذه المذاهب علي حدة، لوجدنا كل منها عبارة عن اختيار منحاز بقوة لعنصر من عناصر الأعمال الفنية للتراث الفني، واقتطاعه ثم التركيز عليه منفردا والمبالغة في معالجته باعتباره الغاية النهائية للفن فالتأثيرية علي سبيل المثال تنحو إلي التركيز علي عنصر الضوء الخالص بفرده، بما يشكله من تنوع لوني غني مع تجاهل شديد لجماليات التحديد الخطي ومثاليات المحتوي الكلاسيكي، بينما اتجهت التعبيرية إلي القيم الوجدانية الإنفعالي للألوان بينما ركزت التكعيبية علي الكتلة والفراغ والبناء الخطي، والذي اكتفي به التجريد، بينما تسلل المضمون الديني القديم إلي المذهب الميتافيزيقي ويذكرنا الفن الفطري بفلاحي بيتر بروجل وأعادت السريالية إحياء أعمال بوش، بل حتي تدمير الفن بدا وكأنه صدي لدعوة سفونا رولا والإصلاح البروتستنتي لاحراق اللوحات، أما الإمعان في إظهار العذاب والتشويه لدي بيكون فنجده في لوحة الصلب لجرينفالد. الفن الحديث في مجمله يمكن تأويله علي اعتبار أنه عملية تفكيك وتحليل لما كان مضمرا ومدمجا فيما سبق وفض لما كان مطويا، وإظهار لما كان مستورا داخل وحدة كلية، أكثر شمولا فالفن الحديث هو تشريح لما هو مركب وتكبير ميكروسكوبي لما كان متواريا. هذا التناول التفاعلي مع الماضي وإعادة الحوار مع التراث هو شيء مختلف تماما عما اختص به عصر النهضة من وضع استعادي، فالنهضة كانت عملية إعادة اكتشاف وتنقيب عن أصول الحضارة الجركورومانية التي طمسها الفكر المسيحي الآتي من الشرق وإعادة للتعرف علي النفس المغتربة عن جذور حضارتها الحقة، أما وقائع الفن الحديث فإنها لا تزيد عن كونها مجرد إعادة قراءة متأنية وتوسعية، وإعادة شرح مطول لما تم إنجازه من قبل بإيجاز واستقراء تحليلي لمحتوي قائم بالفعل بين يدي الفنان الحديث، كميراث يعمل علي إعادة إظهار بعض مفرداته وتضخيمها وإعادة صياغتها ثم طرحها باعتبارها الرؤية الأجدر بالاهتمام والتقدير. كان هذا السبب وراء تعدد المذاهب المتلاحقة تبعا لتنافس الفنانين علي الساحة الفنية القابلة تبعا لهذا المفهوم إلي التفتت إلي مفردات عناصرها الأولية، كما تتفتت الخلية الحية في المختبر إلي مجموعة هائلة من العناصر الكيميائية البسيطة. إذا كان الفن الحديث لا يزيد كثيرا عن مجرد إعادة هضم مكثفة واستهلاك تفصيلي دقيق لما تمت حيازته بالفعل مسبقا، فهو إذن فن سيكشف عن بداية تيبس حضاري صارت خطواته إلي الأمام، هي مجرد تدقيق واجتزاء لفن الماضي ثم تضخيمها منفردة. بالطبع يفضي هذا المنهج التحليلي القائم علي آليات التحطيم والهدم، وتجاوز الحدود وتفكيك القيود بالتبعية تكون فكرة الحرية والتحرر من كل قيد، هي فكرته الرئيسية ومحور نشاطه ومعها تنبعث الرغبة في السخرية العابثة من ميراث لم تعد مضامينه الكلية تلقي نفس تقديرها السابق. إذن تسيد الفكاهة وروح السخرية المتهكمة هي علامة مؤكدة وفارقة علي انهيار جدية الإيمان العميق بمضامين المادة المتناولة. من هنا تمكن السلوك الساخر من قبول إضافة شارب إلي وجه الموناليزا واختراع عالم كامل من الكائنات المرحة المشاغبة علي يد والت ديزني بينما تولي أمر الكوميديا السوداء ذات الشخوص المتألمة الممزقة الوجوه والأجساد كل من بيكاسو وجيمس أنسور وفرانسيس بيكون بلوحتهم ذات الأفواه الصارخة والأجساد الملتوية المشوهة. تلك الحالة من الإصرار علي استدعاء المضي والعبث به كما في استعادة بيكاسو للوحة فلاسكيز وفرانسيس بيكون في لوحة البابا، وغيرها بصورة ساخرة هازئة، هو اشتباك مؤلم للحظة تاريخية من الرغبة في التجاوز والإنجاز المبدع الذي لا توفيه طاقة العصر الوجدانية أو حتي المشتتة علي تحقيقه فبرغم تعدد وتكاثر الأساليب والمناهج المتعددة بتعدد وتكاثر الفنانين أنفسهم، فإن هذه الكثرة لم تكن تمضي نحو تنامي عضوي مترابط يؤدي إلي تصور محدد لهذه المرحلة التاريخية، وهذا منطقي بالطبع لأنه كان جهدا تفتيتيا للمحتوي الوجداني والتقني للتراث الأوروبي السابق.