اليوم.. مجلس الشيوخ يستأنف عقد جلسته العامة    تراجع جديد في بورصة الذهب| إنفوجراف    استقرار أسعار الفاكهة بسوق العبور اليوم 29 أبريل 2024    رسميًا.. تراجع سعر الدولار الأمريكي في بداية تعاملات اليوم 29 أبريل 2024    خبير تكنولوجيا: مصر تمتلك بنية معلوماتية عملاقة بافتتاحها مركز الحوسبة السحابية    أموك: 1.3 مليار جنيه صافي الربح خلال 9 أشهر    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    اليوم.. قطع مياة الشرب عن مدينة القناطر الخيرية لمدة 6 ساعات    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الإثنين    استشهاد 19 فلسطينيا جراء قصف الاحتلال لمنازل في رفح    "لوفيجارو": نتنياهو يخشى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه    مصرع خمسة أشخاص جراء أعاصير ضربت وسط الولايات المتحدة    صبحي ينهئ الزمالك بالوصول لنهائي الكونفدرالية    الشناوي ينتظم في مران الأهلي الجماعية استعداداً للإسماعيلى    مواعيد مباريات اليوم الإثنين 29- 4 -2024 والقنوات الناقلة لها    سيد معوض عن احتفالات «شلبي وعبد المنعم»: وصلنا لمرحلة أخلاقية صعبة    الأرصاد: استقرار الأحوال الجوية.. والعظمى على القاهرة الكبرى 30 درجة    مصادرة 2 طن أعلاف مجهولة المصدر ودقيق فاخر بمخبز سياحي فى حملات تموينية بالإسكندرية (صور)    ظهر اليوم.. تشييع جثمان المخرج والمؤلف عصام الشماع من مسجد السيدة نفيسة    نيفين الكيلاني تصل الجناح المصري بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    بفرمان من الخطيب.. كواليس توقيع عقوبة قاسية على السولية والشحات.. فيديو    السعودية تصدر بيانًا بشأن حادث مطار الملك خالد الدولي    قطر توضح حقيقة دعمها للمظاهرات المناهضة لإسرائيل ماليا    إصابة 4 أبناء عمومة بينهم سيدتان في مشاجرة بسوهاج    رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    طائرات جيش الاحتلال تهاجم مباني تابعة لحزب الله في جنوب لبنان    أحمد المرسي بعد فوز باسم خندقجى بجائزة البوكر: فوز مستحق لرواية رائعة    لأول مرة تتحدث عن طلاقها.. طرح البرومو الرسمي لحلقة ياسمين عبدالعزيز في برنامج صاحبة السعادة    مباريات اليوم.. مواجهة في الدوري المصري.. وبرشلونة يلتقي مع فالنسيا    اليوم.. اجتماع «عربي – أمريكي» لبحث وقف الحرب في غزة    صحة قنا: خروج 9 مصابين بعد تلقيهم العلاج في واقعة تسرب غاز الكلور    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    عمر عبد الحليم ل«بين السطور»: فيلم «السرب» أثر في وجداني ولن أنساه طيلة حياتي    أخبار مصر: حواس يكشف ألاعيب إسرائيل لسرقة تاريخ الحضارة، وفد حماس في القاهرة لحسم الهدنة، حقيقة رفض شيكابالا لعب مباراة دريمز، السديس يطلب وجبة إندومي    أدعية للحفظ من الحسد وفك الكرب والهم.. رددها لتحصين نفسك    أسماء.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدًا الجمعة المقبل    ما المحظورات التي وضعتها "التعليم" لطلاب الثانوية خلال الامتحانات؟    «ايه تاريخك مع الزمالك».. ميدو يهاجم مصطفى شلبي    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف شاهين: عملت طويلا سمكري سينما فصنعت أفلاما كابوسية
نشر في القاهرة يوم 14 - 02 - 2012

عبر الإطلال الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي «الأرض» وعلي ازدواجية المثقف العربي وانفصامه «الاختيار» وعلي الفساد كواحد من مسببات الهزيمة «العصفور» مع الاشارة إلي الصراط المتأرجح بين الانهيار والأمل في مستقبل جديد «عودة الابن الضال»، مع ذلك كله يبدو أن شاهين أحس بأن الأمر بات في حاجة بالتوازي مع مساءلة التاريخ وتوجيه أصابع الانتقاد والاتهام إلي الآخرين إلي ما هو أقسي وأشد جرأة وهو محاسبة الذات: «ألست أنت جزءاً من اللعبة؟ جزءاً من التاريخ؟ وبالتالي جزءاً من الواقع والهزيمة؟» حين أنهي يوسف شاهين دراسته الثانوية في "كلية فكتوريا"، حشدت أسرته المتطلعة إلي الارتقاء الاجتماعي كل طاقاتها المالية «باعوا البيانو وقطعاً من الأثاث و...» لكي يتمكن الشاب الطموح من السفر إلي العالم الجديد. وهكذا وجد يوسف نفسه يدرس فنون المسرح والسينما في معهد "باسادينا بلايهاوس" بأمريكا لمدة عامين. هناك اكتشف عدم صلاحيته للتمثيل الذي عشقه وجاء من أجل دراسته وممارسته، حيث إن ملامحه «أنفه وأذنيه وتكوينه الجسماني و...» لاتؤهله للنجومية! فقرر الالتفات إلي الإخراج، رغم أنه ظل يعشق التمثيل كثيراً. وحين عاد إلي مصر «عام 1949» جدّ في البحث عن فرصة، لأن أحوال أسرته المالية تدهورت بشكل كبير بعد موت أبيه. لكنه لم يجد منتجاً يقتنع به وبسيناريو "ابن النيل" الذي أراد البدء به، المنقول عن الفيلم الأمريكي "ابن النهر River boy"، فاضطر إلي العمل كمساعد مع المخرج فرنيتشو في فيلم "امرأة من نار"، حتي رشحه المصور الإيطالي الفيزي أورفانيللي لإحدي شركات الإنتاج، بعد اعتذار أحد كبار المخرجين، فوافقت وقتها لا لشيء إلا لضآلة أجره، وقدم "بابا أمين"، الذي حلّق فيه مع فاتن حمامة وحسين رياض، وقدموا أمثولة أخلاقية في قالب كوميدي راق اعتمد علي المواقف والمفارقات، وكان يوسف ساعتها أصغر مخرج في مصر، فلم يكن عمره قد تجاوز 23 عاما. كانت السينما المصرية تمر بمرحلة ازدهار كاذبة بعد الحرب العالمية، وكان "بابا أمين" فيلما اجتماعياً بعيدا عن أي مغزي أو إسقاط سياسي، فقد عاد يوسف علي غير دراية بالواقع السياسي «وظل- باعترافه الشخصي- بدون وعي سياسي حتي أخرج رائعته "الأرض" عام 1970». لكن شاهين، قدم مع ذلك فيلماً يختلف شكلا وموضوعا عما هو شائع، لينال جواز مرور كمخرج بارز القدرات، ومن هنا بدأ مشواره المتفرد، رغم أن صدمة الأسلوب الجديد أبعدت الجمهور عن فيلمه. ولم يكن هناك من حل للاستمرار، إلا أن يجاري الواقع السينمائي بقسماته التجارية، حتي استطاع، وليس بدون معاناة، تأكيد طزاجة قدراته ولغته السينمائية. ثورة يوليو ومع طلوع ثورة يوليو راح وعيها يتجلي لما في أفلامه، كما حدث في "صراع في الوادي" «1954» الذي يصور العلاقة بين الإقطاع والفلاحين في صعيد مصر، والمعروف أن "القضاء علي الاقطاع" كان من أهم مبادئ الثورة. وصنع شاهين فيلما مختلفا، لا من حيث تعبيره الصوري ولغته السينمائية فقط، بل من حيث مضمونه اليوليوي، ونهايته الغريبة، التي لم تلتزم ما جرت عليه السينما من انتصار للمظلوم، في توخ للعدالة "الشاعرية" بدلا من تحقيقها في الواقع، وجري إعدام الشخصية المظلومة لأول مرة في الأفلام المصرية. لكن شاهين ظل، في مجمل أعماله، بعيدا عن الوعي بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها المجتمع المصري، حتي ان تأميم ناصر المدوي لقناة السويس، وفشل العدوان الثلاثي، ثم أجواء الوحدة مع سوريا، فاجأت شاهين وهو في عالم آخر، مشغول بتنفيذ سيناريو أبو السعود الإبياري "أنت حبيبي" «1957» الذي يحاول رأب الصدع في العلاقة بين فريد الأطرش وشادية، ليجمع بينهما الحب، بعد أن فرقهما الزواج! كان شاهين يعشق التمثيل رغم ابتعاده عنه، وقد كرر في حواراته: صرت أبحث عن أشخاص أمثل من خلالهم، ويا ويل الممثل الذي لا يكون أنا. ولذلك دائما ما كان يحدث تناقض وصدام وانفجار. ووصلت إلي نقطة شعرت فيها أنني في مأزق كبير، مادمت لا أجد الممثل الذي يمكن أن يكون أنا. فقيل لي: "لا بأس من أن تمثل ما دمت ترغب في التمثيل". قرر شاهين مع النصيحة أن يلعب دور قناوي بائع الصحف الأعرج المتيم بحب هنومة بائعة المياه الغازية في فيلم "باب الحديد" «1958». كان انحياز ثورة يوليو للفقراء يتأكد كل يوم، وكانت قضية الحقوق الاجتماعية للطبقات الفقيرة، قد بدأت تجد تعبيرا عنها ليس فقط في الصحافة والأدب والوسائط الفنية المختلفة، بل وراحت تصنع أمجادا لسينمائيين مثل صلاح أبوسيف وتوفيق صالح. وهكذا جاء "باب الحديد" ليعبر عن اقتحام جريء لعالم الضائعين إنسانيا واقتصاديا وجنسيا ونفسيا، في سيناريو يميزه الصدق والبناء الدرامي المحكم، الأمر الذي أكسبه شاهين بلاغة فنية وصورية مذهلة، لم يستوعبها جمهور السينما في حينه، فكان فشلا ذريعا وصدمة مدوية. وعاني شاهين صدمة مختلفة مع عمله التالي "جميلة" «1958». جاء الفيلم تعبيرا عن الشعور القومي الجارف، والتضامن مع الجزائر في حربها التحررية، ونجح الفيلم رغم أنه كان يقدم صورة غير معتادة للمرأة العربية. كان الفيلم فورة حماسية صادقة، لم تتضمن أي تحليل سياسي لقضية الشعب الجزائري، وبالرغم من ذلك شكل نقطة تحول. يقول يوسف: "إن الوعي الاجتماعي قد دخل أفلامي بعد جميلة. فيه كنت وطنياً بالفطرة، وكانت الأمور بالنسبة إلىّ أشبه بلعبة العسكر والحرامية، والناس في الفيلم كانوا إما جيدين أو سيئين. وعندما أحرق الجمهور الغاضب السفارة الفرنسية في القاهرة، أدركت أنني تناولت شيئاً لا أعرفه، وأن هناك في الصراع ما هو أبعد من قصة العسكر والحرامية. ورحت أقرأ عن المذاهب الفلسفية والاجتماعية، وتعرفت علي عدد من السياسيين، وبدأت أكتشف تدريجياً بعض قوانين الصراع ولغته، فأخذت تتكون عندي عموميات فكر سياسي". ومع الدعم الذي قدمته السلطة جسّد "الناصر صلاح الدين" نزعة شاهين الوحدوية، وإعجابه بالدور القومي لعبدالناصر. كما أكد قدراته السينمائية والتقنية، بتقديم ملحمة علي طريقة أفلام هوليوود الضخمة، عن الحروب التي قادها صلاح الدين ضد أوروبا، مومئا- بشكل واضح- إلي الناصر عبدالناصر، الذي حارب أوروبا إبان العدوان الثلاثي، فجاء الفيلم تجسيدا للصراع بين الشرق والغرب، بين حركة التحرر العربية والغزوالاستعماري. وإضافة إلي تقديم شاهين الوجه الإنساني المشرق للقائد العربي عكس الفيلم، من خلال السيناريو الذي كتبه عبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ، رؤية ناضجة للغاية للصراع مع الغرب، بالتركيز علي البعد الحقيقي المتمثل في الاستعمار والهيمنة، وإبعاد فكرة المواجهة الدينية «الصليبية». وقد شغف شاهين- مع ما مثله الفيلم من علامات تفوق وقبول- بعالمه وأحس أنه اخترق من خلاله عدد من الموضوعات الأثيرة، التي ستبقي تشغله طويلا مثل: كيف نقرأ التاريخ ونتعامل معه من منظور فني، وكيف نتعامل مع الآخر ونواجه الهيمنة الأجنبية... وهي الموضوعات التي ستبرز معالجات متنوعة لها في عدد من أفلامه التالية، بينها "الوداع يا بونابرت، المصير، الآخر. وحاول شاهين في فيلم "فجر يوم جديد" «1964» تصوير واقع مصر الجديدة، التي كانت تحلم بالتنمية وتغيير المجتمع ودفعه باتجاه التصنيع وتكافؤ الفرص وإعطاء الحق للجميع في التعلم والمشاركة في بناء الوطن. حاول التعبير عن ملامح التغير الذي استهدفته القوانين الاشتراكية، لكن اللعثمة الشاهينية غلبته، فلاقي الفيلم فشلا مدويا علي المستويين الجماهيري والنقدي. وقد علق شاهين علي هذا الفيلم فيما بعد: "كنت مثالياً، فتصورت إن الأمل يأتي من داخل البورجوازية ذاتها، وربما يعود هذا التصور إلي طبيعة انتمائي الطبقي". الأرض وما كاد شاهين يستقر في القاهرة، بعد عودته من هجرة غير ناجحة إلي بيروت، حتي زلزلته صدمة هزيمة 1967، التي ولدت مرحلة جديدة في سينماه تجلت في أربعة أفلام أساسية، إذ فتحت الهزيمة الباب لإعادة قراءة الواقع، بما جلبته من وعي سياسي. ولعودة الاحتلال إلي أرض مصر، بات التمسك بالأرض وتحريرها عنوان المرحلة. هنا قدم شاهين رائعة عبدالرحمن الشرقاوي "الأرض"، عن سيناريو رصين كتبه حسن فؤاد، الذي شارك في التجسيد البصري للرواية من خلال رسوم تعبيرية واكبت نشرها منجمة. الرواية كانت في الأساس صرخة معبرة عن كفاح الفلاحين في ثلاثينات القرن العشرين، وتمسكهم بأرضهم ودفاعهم عنها، في مواجهة الظالم، حتي النفس الأخير. لكن العودة إلي الرواية، بعد هزيمة 1967 وعودة الاحتلال، كانت تعني التأكيد علي مقاومة الشعب المصري وعدم قبوله الهزيمة. وصوّر الفيلم شخصية "محمد أبو سويلم" نموذج الفلاح المصري بطيبته وأصالته وشعوره الوطني المفعم بالكبرياء والكرامة، وهو يدافع عن أرضه ويتمسك بها ببطولة ملفتة، وجاء المشهد الأخير وهو مجرور بخيول السلطة ويده متشبثة بالأرض تنزف دما، رمزا مروعا للتمسك بالأرض ورفض الهزيمة. كانت نهاية جديدة تماماً علي السينما المصرية، الطين يختلط بالدماء في صورة فريدة شدت الانتباه إلي المغزي العام للوطن والمقاومة والشرف والتمسك بقيم الحياة والدفاع عنها. بعد الهزيمة المفجعة جاء تأثير الفيلم الذي يدعو في وضوح إلي التمسك بالأرض مهولا، وهكذا رسخ يوسف شاهين اسمه في لائحة شرف السينما المصرية بعلامة ثالثة من علاماتها الكلاسيكية: «الأرض» 1970، «بعد باب الحديد» 1958، «الناصر صلاح الدين» 1963، مما جعله واحدا من رموز الواقعية المصرية، التي بدأت مع "العزيمة" لكمال سليم و"السوق السوداء" لكامل التلمساني في ثلاثينات القرن العشرين، قبل أن تترسخ جذورها في الخمسينات علي يد صلاح أبوسيف وتوفيق صالح. وأتاح ذلك ليوسف أن يقول: "في فترة من حياتي عملت سمكري سينما وركبت الموجة السائدة. ركبت حواديت ودلقت كراكيب علي شيء اسمه فن سينمائي فكانت النتيجة ظهور أفلامي المعنونة حب للأبد ورجل في حياتي و... وأنا لا أتذكرها إلا في الكوابيس أوالأحلام المزعجة". وهنا باتت مراوحات شاهين السابقة بين الفني والتجاري مستحيلة، بالذات وقد وضع يديه علي عامل من عوامل التفوق، يتمثل في الاستعانة بعقول حقيقية، تدرك أبعاد العوالم التي تتحدث عنها الأعمال السينمائية. وبالتعاون مع مثل هذه العقول تطرق في مجموعة من الأفلام إلي معالجة موضوع الساعة: الأسباب الداخلية العامة للهزيمة. الهزيمة والسياسة عبر إطلاله الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي في "الأرض" كشف شاهين علي نحو عابر عن سلبية المثقف المصري في مواجهة الأزمات، وتراجعه في الأوقات العصيبة التي تتطلب أن يكون قدوة تحث الآخرين علي النضال. فقد صوّر، في مقابل أهل المقاومة والصمود، من فروا أمام المحنة التي مرت بها القرية، عندما حاول الاقطاعي الكبير انتزاع الأرض من ملكية الفلاحين البسطاء، وذلك عبر مهادنة وتراجعات الشيخ حسونة وغيره من أبطال ثورة 1919، ومن هنا نبعت الفكرة المحورية لفيلم شاهين التالي "الاختيار"، الذي كتب قصته نجيب محفوظ، وركز علي مشكلة ازدواجية المثقف العربي وانفصامه، ودوره في التفاعل مع قضايا الجماهير، كما حلل بجرأة الواقع السلبي للمثقفين العرب، محملا إياهم مسئولية الهزيمة من خلال استمرارية العجز والانهزامية والسلبية والانتظارية ناهيك عن الانتهازية والوصولية والتبعية للسلطة القائمة والخوف منها. وعن هذا الفيلم قال «شاهين»: "إنه المواجهة المباشرة مع الهزيمة، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة، ومسئولية المجتمع ككل". جرت المعالجة في "الأرض" بعيدا عن الشعارات والإطارات الزاعقة. احتفت بصراع الفلاحين ضد الإقطاع في مصر، وفق تقنية سينمائية راقية وشديدة الوضوح تتمتع ببلاغة بصرية عززتها رصانة معمار الفيلم الكلاسيكي وقوته الفكرية وصفاء رؤيته. ووصل إبداع شاهين في التعبير السينمائي إلي ذروته في تقديم ملحمة بصرية كلاسيكية مبهرة. ولكن ذلك لا ينفي أن نمطية السرد بلغت ذروتها أيضا في الفيلم. كان الأرض تقليديا من وجهة النظر السينمائية، وهذا ما دفع شاهين إلي التفكير في الثورة علي فنياته التقليدية. ويمكن أن يكشف لنا ما كان يدور في خلد شاهين ما قاله، في حينه، عن فيلم آخر هو "الناصر صلاح الدين" الذي أحيط بالانبهار علي مر السنين، ورأي- شاهين- أنه لا يستحق الضجة التي أثارها "فهو في النهاية فيلم رسالته مكشوفة"، وحينما سُئل عن
سر نجاحه قال: "عادي. الناس شايفة حمير وجمال بتجري، وناس بتجعر وسيوف وما شابه. الناس بتحب كده". وقد عزز ما كان شاهين يفكر فيه اكتشافه أن الدنيا أكثر تعقيدا من أن تكون مفهومة إلي هذا الحد، وهذا ما شجعه علي بدء مغامراته الجمالية متنوعة الآفاق. في "الاختيار" تصاعد كثيرا اهتمام يوسف شاهين بالشكل الفني. ووجد الفرصة متاحة لخلق بناء فيلمي يتوازي مع البناء الفكري المطروح، فانتهج طريقة سرد تقوم علي الشذرات الروائية، وجمل الحوار اللاهثة المتقطعة، مع الاستغناء عن الحبكة التقليدية، وإطلاق العنان للتداعيات الحرة التي تشكل في النهاية لوحة متكاملة. وواصل شاهين في "العصفور" «1973» البحث عن أسباب الهزيمة والعوامل التي أدت إليها، وركز علي دور الفساد والبيروقراطية، إلي جوار الدور التغييبي الذي لعبته أجهزة الإعلام إبان الهزيمة، بإخفائها الحقائق عن الشعب. وأنهي الفيلم بخروج الناس للشارع عقب خطاب التنحي، متمسكين بعبدالناصر رافضين الهزيمة حاملين شعارات الصمود والحرب، في تجسيد يمكن أن نعده رجع الصدي لنهاية فيلم "الأرض". ولأن الفيلم كان محملاً بمضامين فكرية تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية الخربة، تم منع عرض الفيلم طويلا- لم يعرض إلا بعد حرب أكتوبر- مما أصاب شاهين بالإحباط، الذي قاده إلي فكرة فيلمه الجديد. جاء "عودة الابن الضال" 1976 مأساة غنائية تدور أحداثها في قرية "ميت شابورة" التي رمزت للمحنة التي تمر بها مصر، وتحكي قصة طلبة الدكتاتور المسيطر علي أقدار القرية، الذي تربطه مصالح مشتركة مع بعض مؤسسات السلطة، وعلي المثقف اليساري الذي تستقطبه السلطة، بعد طول اعتقال، وتورطه وتقتل تطلعاته وتحوله إلي كيان هامشي يائس، بينما يبقي الأمل كامنا في إبراهيم وتفيدة رمز الأجيال الجديدة. ناقش الفيلم الواقع المصري بعد وفاة عبدالناصر 1970 وقبل حرب أكتوبر 1973 من خلال أفراد أسرة كبيرة ينتظرون عودة ابنهم السجين لتحقيق أهدافهم الحيوية في الحياة. لكن البطل المنتظر يعود منهارا محطما، ليكون بمثابة الوعد الضائع بالنسبة للجميع. وقد جاء سيناريو الفيلم الذي شارك الفنان صلاح جاهين في كتابته شديد التماسك والإتقان والجدة، إذ استخدم الرمز في تكثيف دال، وجاءت الأغاني التي كتبها له وثيقة الارتباط بدراما الفيلم، معبرة عن الأمل بعد مفترق الطرق الصعب، اعتمادا علي المعرفة والعلم والوعي. وجسد شاهين ذلك بتقنية سينمائية راقية وشديدة الوضوح، جعلت الفيلم حالة من حالات التجلي التي تجمع بين الإمتاع والإبداع. عبر الإطلال الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي «الأرض» وعلي ازدواجية المثقف العربي وانفصامه «الاختيار» وعلي الفساد كواحد من مسببات الهزيمة «العصفور» مع الاشارة إلي السراط المتأرجح بين الانهيار والأمل في مستقبل جديد «عودة الابن الضال»، مع ذلك كله يبدو أن شاهين أحس بأنه أزاح عبئا ثقيلا عن كاهله، وأن الأمر بات في حاجة، بالتوازي مع مساءلة التاريخ وتوجيه أصابع الانتقاد والاتهام إلي الآخرين، إلي ما هو أقسي وأشد جرأة: محاسبة الذات. في الاختيار «1971» يتأمل شاهين أوضاع المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً ذاتياً، لكن أمر مختلف تماما أن ينظر في المرآة، ويتفرس في ملامحه، يحاسب حاضره وماضيه. ويبدو أنه شاهين آنئذ همس لنفسه: "ألست أنت جزءاً من اللعبة؟ جزءاً من التاريخ؟ وبالتالي جزءاً من الواقع والهزيمة؟". رباعية الإسكندرية لم تكن المرة الأولي التي يتطرق فيها يوسف شاهين إلي شيء ذاتي. كان قد داعب أطرافا من سيرته في أفلامه السابقة. ففي فيلمه الأول "بابا أمين" كان هناك نقد خفيف للأب، وفي الفيلم الثاني "ابن النيل" انتقد أحلامه المنفصلة عن السياق الاجتماعي و.. وفي تلك الأيام حدث ما ألح علي التوجه الذاتي، حيث توجب أن يجري شاهين عملية كبيرة في القلب، وفي هذا الإطار بدأ ما صار رباعية عن سيرته الذاتية وعن الإسكندرية، وهي خطوة فريدة من نوعها في تاريخ السينما العربية، حيث وضع شاهين نفسه تحت المجهر، واخترق الجدران والحواجز والقيود، وغاص في أعماق ذاته بحثا عنها، وكأنه أراد أن يصفي حساباته مع عائلته ونفسه وهواجسه ودوافعه. جسد حلم الخروج من الإسكندرية في "إسكندرية ليه"، الذي انتهي بمشهد اللحاق بالسفينة التي أقلته إلي أمريكا في آخر لحظة. كان موضوع الفيلم الرئيسي نشأة يوسف شاهين، لكن إلي جانب التعليم والبحث عن المستقبل قدم الفيلم الإسكندرية، المدينة العالمية التي يعيش فيها ناس من كل الأجناس والأديان ويتكلمون كل اللغات. من خلال عيون شاهين رأينا إسكندرية الأربعينات خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تأكل الحرب صغار الجنود من مختلف الجنسيات. كما رأينا الحياة الاجتماعية للمدينة التي يتعايش فيها أغنياء الحرب والموالون للسلطة والحالمون بدخول الألمان ليتخلصوا من عبء الاحتلال البريطاني، وذلك إلي جوار التعايش بين المسلم والمسيحي واليهودي، ناهيك عن حياة اليهود المصريون وعلاقتهم بالصهيونية. يومها تصور الجميع وربما تصور شاهين نفسه أنه يقول كلمته الأخيرة، لكنه كان في العمر بقية وبات شاهين يكرر: "لم يعبر "إسكندرية ليه" عن كل الحقيقة. إنه مجرد محاولة لتلمس بداية الطريق للحديث عن الحقيقة. إنه تصفية الحساب مع العائلة، ليبدأ بعد ذلك حساب النفس". وكان ذلك ما أتاح طرح جزء ثان من سيرته الذاتية "حدوته مصرية" صور فيه الأزمة المفترقية التي تعرض لها وهو في الخمسين من عمره، عندما أجريت له جراحة القلب المفتوح، واللحظات الفاصلة بين الحياة والموت التي مر بها. هذه التجربة التي تجعل المرء يتخطي حاجز الخوف ويبدأ في مواجهة الذات بكل تناقضاتها، فنري المخرج "يحيي مراد" بطل الفيلم يواجه المؤسسات القمعية من الأسرة إلي المدرسة إلي الدولة، ويوجه نقده اللاذع لها لأنها تسهم في قهر الإنسان، وتجرده من ذاتيته وتفرده. كما يطرح هاجس العالمية الذي سيطر علي تفكيره لفترة من الزمن، وجعله يحلم حتي بالعمل في هوليوود. ومحاولات الرقابة علي فنه ومصادرة حريته في التعبير، ورفضه الاستسلام لما تحاول المؤسسات فرضه، وتمسكه بحريته واستمراره في مواصلة تحقيق ما يريد، مبينا أن الصراع بين الفنان والطفل ينتهي بالمصالحة بينهما، مما يمنحه أثرا تطهيريا ويعينه علي استكمال مشواره الفني. ولم تنته قصة السيرة الذاتية مع يوسف شاهين عند هذا الحد، إذ ستمتد إلي أن تصبح رباعية، مثل رباعية الإسكندرية، وإن كان في إطارات متباينة. ظروف شاهينية بعد اكتشاف شاهين أن الدنيا أكثر تعقيدا من أن تكون مفهومة علي النحو البسيط الذي تصوره يوما. توالت مجموعة من المتغيرات التي ساهمت في تشكيل عالمه. وزغلل عينيه الكلام الكبير عن سينما المؤلف، وأسفر ذلك مع كثير من الملابسات عن مرحلة ممتدة من اللجلجة الفكرية والفنية، وهذا موضوع آخر.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.