تثير عبارة "الكهنوت الإسلامي" حفيظة أحبابنا من الإسلاميين، وليس كل المسلمين بالطبع، وتدفعهم للرد بلهجة واثقة جازمة قاطعة بأنه "لا كهنوت في الإسلام". ولا أخفي عليكم فإني ألتمس لهم بعض العذر في ردهم هذا... !. فرجل الدين في الإسلام لا يملك الحق في غفران خطايا الإنسان. وهو الحق الذي يتمتع به رجل الدين في المسيحية، الأرثوذكسية والكاثولكية، إنطلاقا من تفسيرهم لآية إنجيل متي "الحق أقول لكم كل ما تربطونه علي الأرض يكون مربوطا في السماء وكل ما تحلونه علي الأرض يكون محلولا في السماء" (متي 18: 18). ومن عجائب الأمور أن تساير الغالبية العظمي من مثقفي التجديد الإسلاميين في رأيهم هذا! إلا أن أحبابنا من الإسلاميين، وغيرهم ممن يوافقهم في الرأي، قد غاب عنهم أمران. الأمر الأول هو ما تخبرنا به دراسة تاريخ الأديان، بكل أشكالها، من أنه "لا دين بدون كهنوت". أو بعبارة أخري لايستغني أي دين عن وجود طائفة من المؤمنين به تقوم علي رعايته والحفاظ علي بقائه حيا في نفوس أتباعه، وتعمل علي نشره بين غير المؤمنين به. وفي البداية تتكون هذه الطائفة من مجموعة صغيرة العدد من المقربين من صاحب الدعوة عقب وفاته مباشرة، وهم الذين يعرفون بالصحابة أو الحواريين. إلا أنه مع مرور الزمن يزداد عدد أفراد هذه الطائفة لتضم أناسا لم يشهدوا ميلاد الرسالة ويرافقوا صاحبها. وتتعدد مسميات هذه الطائفة من دين لآخر فهي في المسيحية "الإكليروس"، وهي في الإسلام قد تكون "الفقهاء" أو "علماء الدين" أو "أهل العلم"، أو ما يمكن أن نطلق عليهم، علي وجه العموم، اسم "الكهنوت". وبمرور الزمن وتزايد المساحة التي ينتشر فيها الدين الجديد وتزايد أعداد المنتمين لطائفة الكهنوت هذه تبرز الحاجة ل "أشكال تنظيمية" تنتظم في إطار أنشطتهم. وتتعدد هذه الأشكال تعددا شديدا ما بين "منظمات رسمية" Formal Organizations، من ناحية، و"منظمات غير رسمية"Informal Organization، من ناحية أخري، وما بينهما من "منظمات شبه رسمية"Semi-Formal Organization. وتتميز "المنظمات الرسمية" التي ينتظم فيها أفراد الكهنوت، التي من أبرز أمثلتها الكنائس المسيحية الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، بعدة خصائص من أهمها "الاستقرار"، "التنظيم الهرمي" Hierarchy، و"وجود قواعد وقوانين مدونة تحكم عملها". وأولي هذه الخصائص، "الاستقرار"، تعني حفاظ هذه المنظمات علي هيئتها وبنيتها عبر الشروط الصارمة لقبول أعضاء جدد بها، هذا بالإضافة إلي تمسكها المستميت بالتقليد والتقاليد. أما "التنظيم الهرمي" فهو التنظيم الذي يأخذ شكلا هرميا تتركز أغلب السلطات في أيدي من يشغل قمته بينما تقل السلطات تدريجيا في أيدي التابعين ممن يشغلون الطبقات الأدني من طبقات الهرم. ومن أمثلة هذا التنظيم تنظيم الكنيسة الأرثوذكسية الذي يتبدي في رتب رجال الدين المسيحي (لإكليروس) الثلاث: "رتبة الشمامسة" (بدرجاتها الخمس: المرتل، القارئ، مساعد الشماس، الشماس الكامل، ورئيس الشمامسة)، و"رتبة القسيسية" (بدرجاتها الثلاث: القس، القمص، والخوري إبسكوبس)، و"رتبة الأسقفية" (بدرجاتها الثلاث: الأسقف، المطران، والبطريرك). وأخيرا يتميز هذا النوع من التنظميات بوجود ما يعرف ب "القوانين الكنسية" التي تعتبر تطبيقا للإيمان المسيحي وتشكل الأساس للسلوك المسيحي علي مستوي الفرد والكنيسة ككل. وعلي طرف النقيض من "المنظمات الرسمية" نجد "المنظمات غير الرسمية" للكهنوت، التي أبرز خصائصها "السيولة"، "التنظيم الشبكي" Network Structure، و"غيبة قواعد صريحة تحكم عملها". وأولي هذه الخصائص، "السيولة"، التي تعني السهولة النسبية لإنضمام أفراد جدد للمنظمة غير الرسمية، هذا بالإضافة إلي التنوع الشديد في أشكالها. أما خاصية "التنظيم الشبكي" فيعني توزيع "شبه متساوي" للسلطات بين الأفراد المنتمين للمنظمة حتي وإن تقدم بعضهم لمكان الصدارة. وأخيرا تتميز المنظمات غير الرسمية بعدم وجود قواعد صارمة تحكم أنشطة المنتمين إليها. أما الأمر الثاني فهو مايخبرنا به علم مقارنة الأديان عن الوظائف الأساسية التي يقوم بها المنتمون لطائفة الكهنوت أيا كانت الهيئة التي ينتظمون عليها، رسمية أو غير رسمية أو شبه رسمية، وأيا كان الدين الذي ينتمون إليه، سماويا كان أو وضعيا. وأولي هذه الوظائف هي إقامة الطقوس والشعائر التي علي المؤمنين أدائها. أما ثاني هذه الوظائف فهي تفسير النصوص المقدسة طبقا لفهمهم لها وبيان معانيها للعوام من المؤمنين. وأخيرا تأتي ثالث وظائفهم وهي مراقبة السلوكيات اليومية لجمهور المؤمنين وتوجيههم لما ينبغي عمله ولما يجب عليهم تجنبه. الإسلام وكهنوته لهذا كله يمكننا القول إن للإسلام له كهنوته، مثله في ذلك مثل أي دين، حتي وإن كانت له خصائصه التي تميزه عن الآخرين. ولعل أبرز هذه الخصائص هي طبيعة المنظمات التي تنتظم فيها أنشطة أفراد الكهنوت الإسلامي أيا كانت مسمياتهم "فقهاء" أو "علماء الدين" أو "أهل العلم". فأغلب هذه المنظمات هي "منظمات غير رسمية" تتعدد أشكالها ما بين اتحادات أو روابط أو جمعيات أهلية أو مجمعات فقهية. ولعل "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، الذي تأسس عام 2004 تحت رئاسة الشيخ يوسف القرضاوي، هو أحد أبرز أمثلة هذه المنظمات. ويعمل أفراد الكهنوت الإسلامي علي تعزيز وتضخيم الدور الذي يلعبونه في المجتمع، هم ومنظماتهم غير الرسمية، عبر آليتين. الآلية الأولي هي الإعلاء المبالغ فيه من شأن أنفسهم بوصفهم "أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدي والضلال"، وبدورهم خماسي الأبعاد: بيانُ الحقِّ، وتبليغهُ للنَّاس؛ تعليمُ النَّاس ما يحتاجونَ إليه من علومِ الكتابِ والسُّنةِ، وتزكيتهم وفق هذا العلمِ الصحيحِ، الدَّعوةُ إلي اللهِ، وإحياءُ شعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر؛ إفتاءُ النَّاسِ، وبيانُ أحكامِ الشَّريعةِ لهم مِمَّا يشكلُ عليهم منْ مسائلَ في حياتهم، التصَدِّي للتياراتِ الجارفةِ بالأمةِ منْ أهلِ البدعِ والضلالِ. أما الآلية الثانية فهي تهميش العلوم الوضعية (غير الشرعية) والتحقير من شأنها ف "ليس كل علم يسمي علما فإنما العلم علم الديانة، وعلم الشريعة، والعلم الذي علمه ربنا سبحانه لأنبيائه، وبلَّغه أنبياء الله تعالي إلي أممهم، فهذا هو الذي يحصل به الشرف".