حالة من الجدل الساخن أثارها الملتقي المسرحي الأول مصر العراق الذي شهدته القاهرة مؤخرا حيث جاءت فعالياته كاشتباك ثائر مع السياسة والفكر والثقافة، وتحول إلي مفارقة مثيرة تؤكد أن الفن يمتلك قوة سحرية غامضة تتجاوز الحدود والقيود، لتعانق وهج الأحلام وبريق الثورة وروح الإنسان. كان الملتقي ثريا أنيقا ومشعا، جاء كنتاج للتعاون بين الجمعية المصرية لهواة المسرح مع قطاع العلاقات الثقافية الخارجية والسفارة العراقية بالقاهرة واتخذت الفعاليات مسارها علي مسرح الجمهورية لنصبح أمام مواجهة إنسانية وإبداعية مدهشة التقي فيها النيل بالفرات واشتبكت الرؤي والطموحات عبر الندوات والحوارات والعروض المسرحية التي فتحت المسار أمام قراءات صاخبة في وقائع القهر والاستبداد، ومؤشرات السقوط والغياب ودوامات الردة والزيف والاستلاب. وفي هذا الإطار يتضح أن رئيس الملتقي د. عمرو دوارة قد استلهم بالفعل روح الثورة، وآمن أن الأحلام لا حدود لها، واستطاع أن يضع المسرح في قلب المشهد السياسي المسكون بالقلق والتوترات، لتمتد موجات الفن والثقافة، وتبعث جدلا مصريا عربيا يؤسس لتيارات الوعي الإنساني الرحب. شهدت الندوة الرئيسية مواجهات مصرية عراقية شديدة الثراء بين النقاد والمسرحيين وظلت السياسة حاضرة بقوة حول المائدة المستديرة، حيث كان المحور الأول يناقش «مسرح الثورة.. وثورة المسرح» بينما اتجه المحور الثاني إلي «المونودراما في العصر الحديث». ويذكر أن مصر قد شاركت بأربعة عروض هي: «أجنحة الأقوال» إعداد وإخراج د. عمرو دوارة، «حال الدنيا» للمخرج مصطفي خاطر، «انفلات أمني» للمخرج سامح بسيوني، و«1980 وانت طالع» للمخرج محمد جبر، أما العروض العراقية فهي: «كيس نايلون أسود» للمخرجة نجلاء بدر، «حكاية رجل اسمه ضحي» للمخرج مهند العميدي و«مانيكان» للمخرج خالد سلطان. حضور جماهيري في هذا السياق شهدت ليالي الملتقي الثلاث حضورا جماهيريا لافتا غير عادي، بعث به الشباب والكبار حالة استثناية نادرة جاءت كاحتفال بالحياة والثورة، وبالمسرح الذي لن يتخلي عن البوح والكشف والحرية. وعبر موجات الحب والوعي بعث وجود نجوم مصر والعراق حالة من الوهج والتواصل، وشهدت الليالي المتوالية تكريم فناني مصر الكبار محمود ياسين وجلال الشرقاوي، ونورالشريف، ومن العراق فخري العقيدي، فتحي زين العابدين، وبهجت الجبوري، وهكذا جاء الملتقي مشرفا ومضيئًا، وكانت فلسفة الاحتفال هي وثيقة تعاون عربي نحتاجها بقوة لمواجهة تناقضات واقعنا الشرس، وعلي مستوي آخر يتضح أن الجمعية المصرية لهواة المسرح هي كيان ثقافي مسرحي مستقل يثير الجدل والتساؤلات ويمتلك مقدرة التأثير والتفاعل والتواصل علي المستوي المصري والعربي. صلاح عبدالصبور في افتتاح الملتقي جاء عرض الافتتاح المصري بعنوان أجنحة الأقوال، قدمته فرقة فرسان المسرح للمخرج المتميز د. عمرو دوارة الذي كتب رؤية درامية بالغة التكثيف والدلالة المسرحية «ليلي والمجنون» لمؤلفها الكبير صلاح عبدالصبور، وفي هذا الإطار حلقت بنا أجنحة الأقوال إلي آفاق الثورة والوعي واندفاعات الفن والجمال، ودفعتنا شاعرية الوهج إلي تجاوز مأساة العجز والغياب والانتظار تلك الحالة التي بعثها حضور عبدالصبور في قلب المشهد السياسي عبر صياغاته الصادمة ورؤاه الكاشفة، وارتكزت عليها الرؤية الدرامية التي وظفها د. عمرو دوارة بحرفية متميزة اتخذت مسارها إلي بناء فني جديد لنصبح أمام مونودراما أخاذة.. متماسكة ومتصاعدة. تدور حول شخصية مغايرة تنتمي إلي قلب واقعنا المتوتر وتموج بعذابات القهر والتسلط والاستبداد، وفي هذا السياق تناولت الرؤية الفنية ردود فعل شخصية سعيد في مسرحية «ليلي والمجنون» علي تفاصيل وجودة واهتراءات حياته وتناقضات واقعه، وعلي رؤي أستاذه وتجمعت الخيوط الذهبية لتصنع نسيجا صارخ الجمال يمتلك مقدرة التفاعل مع الروح والجسد وسقوط الإنسان ويظل ابنا شرعيا لتلك اللحظات الفاصلة التي تشهد ميلادا جديدا للوعي والتاريخ والحرية في الوطن العربي. أجنحة الأقوال ويذكر أن مونودراما «أجنحة الأقوال» قد مثلت مصر دوليا في مهرجان مسرح الأمازيري بالمغرب، ومهرجان عشيات طقوس بالأردن، وقد أثارت ردود فعل عالية، ولفتت أنظار كبار النقاد والفنانين العرب. يأخذنا التشكيل السينوغرافي الناعم إلي عالم مسكون بهمس العذاب ووحشية السكون، الضوء الوردي يعانق الستائر البيضاء، والحجرة البسيطة تشاغب سعيد وتثير أشواقه ورغبات الحنين حيث المكتب والكرسي، القلم والأوراق والشيزلونج وليلة شتاء حزين شهدت خروجه من المعتقل الذي غاب خلف أسواره شهرين بتهمة ملفقة هي النظر إلي المستقبل. يتضافر الضوء والموسيقي مع توترات الحركة، الخطوط القصيرة تلتقي بالأقواس الصاخبة، وصراع الأعماق يفتح المسارات أمام تيارات الوعي.. لترقص أشباح الماضي مع شياطين الحاضر، ويندفع الشاب إلي هذيان محموم.. فالليلة كانت خمرا، والغد وهما وسرابا وأكاذيب، والقلب المثقل بالأحزان يحاول أن يفتح غرفة تذكاراته السوداء، ليتأمل تفاصيل العمر ومشاهد السنوات، لكن الفتي لا يعرف كيف يحُلق فوق المأساة، فهي وشم علي روحه وقيد في يديه وقدميه، ظلت التساؤلات الوجودية تشاغب سعيد، وتدفعه إلي الرفض والعصيان، تيار مشاعره يفجر فيض العذابات التي تمتد من الخاص إلي العام لتبعث مفارقات الوعي وانتفاضات الأعماق. سأل نفسه لماذا نصرخ وندخن ونئن ونتعذب؟ ما دمنا نغفو ونصحو لنري الأحلام قد انتهكت ونامت مستسلمة في فرشتها الخضراء.. وعبر جماليات شعر صلاح عبدالصبور يأخذنا الفتي إلي قسوة السجن ووحشية الاعتقال ومشاعر المعذبين حيث الشوق إلي نور الشارع والمارة والسيارات وماء النيل الكلمات تندفع بقوة إلي قلب الحاضر لتواجهنا بشباب 25 يناير، بضرورة الثورة وبسنوات طويلة من الامتداد العبثي لسلطة الفساد والاستبداد، وهكذا تمتد التقاطعات الساخنة ويكشف الضوء والموسيقي عن معني الأيام التي تفتقد الروح والنبض عن الألوان الباهتة لليوم الواحد، والأبد الممتد، وعن الاستهانة بحق الإنسان ونعلم أن الشاب قد ظل حبيسا لمدة شهرين، وحين وجدوا أن الثورة تشتعل بدونه، طردوه من السجن واعتذروا عن غفلتهم. تصاعد رؤي تمتد اللحظات وتتصاعد الرؤي لنلمس بوضوح جماليات بناء مونودراما أجنحة الأقوال، من حيث التماسك والتدفق وحرارة الصراع والبوح الكاشف عن وجهات النظر الثائرة، ويؤكد الفتي أن مستقبل هذا البلد لن يصنعه الحب المتأوه بل يصنعه العنف الملتهب، فأشعار بزنحت ورفاقه لم تمنع شرذمة النازية من أن تتربع فوق كراسي السلطة، تلك الحالة التي يدين بها سعيد نفسه ومبادئه ومرجعيات أستاذه صاحب الكلمات العذبة، التي تقودنا علي المستوي الدرامي إلي لحظة تنوير كاشفة تبعثها أصداء الأستاذ حين يقول: «الآن سنودع قتلانا، ثم نلملم ما ذاب حنينا من أنفسنا.. ونغني، ونرحل لنودع من ضاعوا منا في طرقات الوحشة، ولنتذكر أنا قدمناهم قربانا للريح كي يجتاز بنا البحر إلي مدن المستقبل وعبر إيقاعات الجدل المتوهج يؤكد الشاب الذي لا يملك إلا الكلمات، يؤكد أن القصر مازال هو القصر، والاستعمار هو الاستعمار، والأيام تمر ولا ندري كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد. تأخذنا موجات الضوء الأحمر إلي مقدمة المسرح ليواجه الشاب جمهوره العريض بتناقضات وجوده المسكونة بصوت الأستاذ وهو ينعي جيله الآسن، جيل لم يصنع إلا أن ينتظر القادم، جيل مملوء بالمهزومين الموتي قبل الموت، وفي هذا السياق تأخذنا رشاقة المونولوج وإيقاعاته الداخلية المتوترة إلي وجهة النظر النقيضة حيث يؤكد سعيد أنه لابد من الطلقة.. والطعنة والتفجير. كانت خشبة المسرح تموج بالحرارة والجدل حيث التقاطعات الحادة بين الماضي والحاضر، الواقع والخيال، وموجات الشعور وتيار الوعي.. الهزائم تأخذ الفتي إلي ذكريات حب مضي، يتبلور جماليا عبر الموسيقي والضوء والستائر الحريرية، الخطوات المرهقة تعلن العصيان علي الصمت والهمس الصاخب يستعيد حرارة القلب.. فقد أخبرته أنه الحب وأنها ترسم صورته بأنفاسها، تتخيل الجبهة والعينين والخدين، الشارب المهمل والكفين، المشية المرهقة والخطوات الواثقة، والرجل الذي أرادته لتتكئ علي جذعه، لكنه لم يكن أدرك ذلك جيدا، وأخبرته المرآة أيضا، فالقهر قد امتد ليستلب وهج الروح ويصبح عاجزا عن الحب. ينسحب الضوء الوردي وتأخذنا خطوط الحركة الواهنة إلي المكتب، حيث الكتب والمقالات والأقلام والورق.. العذابات تعود بالشاب إلي بضعة أشهر مضت، عندما كانت كتاباته تتألق كالوشم الناري علي ساعد هذا البلد، فالحلم الذهبي كان مشدودًا إلي نجمين مضيئين.. هما الحرية والعدل والأشواق إليهما تثير جنونا كجنون العشاق والأستاذ يؤكد أن المستقبل آت بالنجمين الوضاءين، لكن كوابيس الوهم شوهت الحلم ولم يعد يكتب إلا كلمات كإشارات البرق.. ثم ينظر في عيون الزملاء ويقطب وجهه ويدير المقعد لينكفئ علي ذاته. يندفع الفتي إلي كئوسه ليشرب، يحاصره الغثيان والعبث، يبحث عن سيجارة، موجات الدخان تأخذه إلي طفولته عندما كان يدخن خلسة.. ويطير مع الدخان، اندفاعات مشاعره تأخذه إلي لحظة موت أبيه، الذي مات مطحون الصدر من الإعياء.. كان ابن سنين عشرة، لكن الأيام لم ترحم براءته، عرف الجوع والفقر، وتمزق حين أخبرته أمه أنه لم يتبق لهما مما يعرض في السوق إلا هو في سوق الخدامين، وهي في سوق الحب. اشتباكات العقود وعبر اشتباكات الضوء والموسيقي وخطوط الحركة تندفع موجات الوعي، ونعايش جماليات الشعر والنقد والسياسة حين يؤكد سعيد أنه في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي الناس إلي السجن بمحض الصدفة لا يوجد مستقبل.. في بلد تتعري فيه المرأة كي تأكل لا يوجد مستقبل تمتد موجات الاشتباك والتوازي والتقاطع وتنطلق إيقاعات العزف علي قلب الحاضر لتكشف لغة الإخراج عن بساطتها المدهشة التي بعثت تيارا من الهارمونية والاتساق بين جموح الصياغات الثائرة، وعبث المشاعر الصاخبة، وموضوعية الرسائل الدالة المتجهة إلي عقل وأعماق الجمهور. وفي هذا السياق يندفع سعيد إلي تجربته مع التعذيب والسجن واغتيالات الروح، ويذكرنا بالضباط والسلطة والتكنيك الوعد السافل، لنصبح أمام مفارقة متوترة تؤكد حجم مأساة مصر مع سنوات طويلة من القهر، فقد فيها الزمن ملامحه ومعناه، وظلت التشوهات ساكنة في قلب اللحظات والناس أسري غيبوبة الانتظار والوعد وعبر تناقضات الفن ومقدرته الساحرة علي استدعاء الماضي إلي قلب الحاضر، نعايش حالة من الجمال الأخاذ، يبعثها التوظيف المتميز للشموع والضوء، حيث يتجه سعيد إلي منتصف خشبة المسرح ليضيء الكون ويعيش نبوءته بثورة 25 يناير، وبميدان التحرير الذي شهد ميلاد الوعي وتحقيق الحلم. هكذا كان صلاح عبدالصبور يري أن الحرية برق قد لا تبصره عيناه، وعينا جيله المتعب، لكنه ظل ينتزع الأشواك من الورد حتي لا يصبح عمراً مفقودا بين الماضي والمستقبل. وتتعانق الكلمات مع الضوء والموسيقي والحركة، وتمتد تقاطعات الأزمنة، ونعايش عذابات سعيد وهو يبعث برسالة للقادم من بعده.. كتبها كيوميات بني مهزوم يحمل قلماً.. ينتظر نبياً يحمل سيفاً، فقد يأتي من بعده من يعطي الألفاظ معانيها، من لا يتحدث بالأمثال، إذ تتأبي أجنحة الأقوال أن تسكن في تابوت الرمز الميت.. قد يأتي من يبدي فاصلة الجملة، من يغمس مدات الأحرف في النار.. من يتمنطق بالكملة.. و يغني بالسيف. لم تكن الستائر الحريرية البيضاء هي مجرد استكمال لمنظومة الضوء والجمال والألوان، حيث اتجهت رؤية الإخراج إلي توظيفها بأسلوب مغاير يرتبط بمفاهيم التواصل وكسر الإيهام وتحديد اتجاه الرسائل والخطابات وفي هذا السياق تأخذنا النهاية إلي اشتباك متوهج بين الضوء الأحمر وستارة العمق التي تنسد برشاقة لتتوازي مع حرارة خطوط حركة سعيد وهو يتجه بخطابه إلي الجمهور قائلاً.. انفجروا.. أو موتوا. رعب أكبر من هذا سوف يجيء. ياسيدنا القادم من بعدي.. أنا أصغر من ينتظروك في شوق محموم.. باسم الفلاحين والملاحين.. باسم الحدادين والحلاقين.. باسم الشعراء والخفراء.. الأهرام وباب النصر وكتاب الموتي ونشيد بلادي.. نرجو أن تأتي وبأقصي سرعة فإما أن تدركنا قبل الرعب القادم.. أو لن تدركنا بعد. ولا تنسي.. لا تنسي أن تحمل سيفك. هكذا تنتهي التجربة الثائرة الجميلة، التي تزامنت مع احتفالات مصر بمرور عام علي ثورة 25 يناير.. التي لاتزال تبحث عن الحرية والعدل والحب. وقد شارك في المسرحية فريق عمل متميز وكان بطلها هو الفنان الشاب الواعد أحمد حمدي الذي عاش تحدياً فنياً كبيراً كشف عن امتلاكه للموهبة الخصبة، أما السينوغرافيا فقد كانت للفنان محمد هاشم والموسيقي لتامر سنجر وكانت الإضاءة لشريف البرعي.