حزب مصر أكتوبر: الانتخابات البرلمانية المقبلة مفصلية ومصر تستحق الأفضل    الحرس الثورى الإيرانى: موجة جديدة من العمليات المرکبة ردا على عدوان إسرائيل    القناة 14 الإسرائيلية: مقتل 3 وإصابة 14 آخرين في حيفا إثر القصف الصاروخي الإيراني    توافد جماهير الأهلي على ملعب هارد روك استعدادا لمباراة الأحمر أمام إنتر ميامي (صور)    مراجعة خطة اللعب ورسالة ريبييرو.. محاضرة فنية للاعبي الأهلي قبل مواجهة إنتر ميامي    إصابة 10 أشخاص في تصادم سيارتين قبل حضورهم حفل زفاف بدمنهور (صور)    الإسعاف الإسرائيلي: 5 إصابات نتيجة سقوط صواريخ إيرانية على حيفا    صبري عبد المنعم يغادر المستشفى إلى منزله بعد استقرار حالته الصحية    إصابة 10 أشخاص إثر حادث تصادم 3 سيارات في دمنهور (صور)    وزيرة التخطيط تلتقي بمجموعة من طلاب كبرى الجامعات بالمملكة المتحدة    محافظ الدقهلية يتابع خطة ترشيد استهلاك الكهرباء وتخفيض إنارة الشوارع 60%    جامعة بدر تفتح باب التقديم المبكر بكافة الكليات لطلاب الثانوية العامة والأزهري والشهادات المعادلة    «السما بتنور كل شوية ليه؟».. عمرو أديب يطالب الجهات المعنية ببيان رسمي    أنباء عن اغتيال رئيس أركان الحوثي في غارة إسرائيلية على صنعاء    إذاعة جيش الاحتلال عن مصادر: رصدنا استعدادات إيرانية لإطلاق موجة من الصواريخ    أوقعت ب100 رجل ووصلت ل«مراكز حساسة».. قصة «جاسوسة إسرائيلية اخترقت إيران»    مسيرات إيرانية متجهة إلى إسرائيل مرت في سماء القنيطرة جنوبي سوريا    إعلام عبري: إيران هزمت بالفعل بفضل خطوة إسرائيلية لم تترك لطهران أي فرصة    أبرزها مصر وسوريا.. "واشنطن بوست": إدارة ترامب تعتزم إضافة 34 دولة للقائمة السوداء التي تحظر دخول رعاياها إلى أمريكا    أسعار الفاكهة اليوم الاحد 15-6-2025 في قنا    عيار 21 الآن يواصل الارتفاع.. سعر الذهب اليوم الأحد 15 يونيو محليًا وعالميًا (تفاصيل)    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    مجدي عبدالغني: الأهلي قادر على الفوز أمام إنتر ميامي.. وأتمنى تعادل بورتو وبالميراس    بث مباشر مباراة الأهلي ضد إنتر ميامي اليوم (0-0) في كأس العالم للأندية    هشام حنفي: بالميراس أقوى فريق في مجموعة الأهلي.. ومواجهة إنتر ميامي ليست سهلة    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    اجتماع هام في الزمالك اليوم السبت.. خالد الغندور يكشف التفاصيل    أسعار السجائر اليوم الأحد في الأسواق والمحال التجارية    كهرباء قنا تفتتح مركزًا جديدًا لخدمة العملاء وشحن العدادات بمنطقة الثانوية بنات    وكيل الأزهر يشكِّل لجنة عاجلة لفحص شكاوى طلاب العلمي من امتحان الفيزياء    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة الغربية 2025 الترم الثاني    إحالة «جزار الوراق» للجنايات بعد واقعة صادمة داخل مدرسة حكومية (تفاصيل)    سقوط 4 عناصر إجرامية بحوزتهم أسلحة وكمية متنوعة من المخدرات بأسوان    أسرار صراع المحتوى «العربي - العبري» في الفضاء الاصطناعي    النيابة تدشن المرحلة الأولى من منصتها الإلكترونية "نبت" للتوعية الرقمية    هناك من يحاول جر شكلك.. توقعات برج الحمل اليوم 15 يونيو    صعوبات غير متوقعة.. حظ برج الجدي اليوم 15 يونيو    العناد قد يتسبب لك في المشاكل.. حظ برج القوس اليوم 15 يونيو    رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية السابق: لا تأثيرات لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية على مصر    هانى عادل لبرنامج من إمبارح للنهاردة: أول جيتار جابتهولى أمى ودماغى بتغلى أفكار    سر دموع عبد الفتاح الجرينى على الهواء فى "صندوق الذكريات" ب"آخر الأسبوع"    بدأت في القاهرة عام 2020| «سيرة» وانكتبت.. عن شوارع مدن مصر القديمة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    وزير الصحة: "حياة كريمة" أعظم مشروع فى تاريخ مصر ويمس جميع المواطنين    أدعية مستجابة في شهر ذي الحجة    "التعليم" تكشف تفاصيل الاستعدادات ل امتحانات الثانوية العامة غدًا    الهلال الأحمر المصرى: تنظيم حملات توعوية لحث المواطنين على التبرع بالدم    تعليمات لرؤساء لجان امتحانات الثانوية العامة بالفيوم    "الإصلاح المؤسسي وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية".. جلسة تثقيفية بجامعة أسيوط    الأكاديمية العسكرية تحتفل بتخرج الدورة التدريبية الرابعة لأعضاء هيئة الرقابة الإدارية    امتحانات الثانوية العامة.. الصحة تعتمد خطة تأمين أكثر من 800 ألف طالب    محافظ كفر الشيخ يُدشن حملة «من بدري أمان» للكشف المبكر عن الأورام    لطلاب الثانوية العامة.. نصائح لتعزيز القدرة على المذاكرة دون إرهاق    غدا.. بدء التقديم "لمسابقة الأزهر للسنة النبوية"    خاص.. شرط أساسي لقبول طلاب الثانوية بتنسيق البرامج الخاصة ب"عين شمس"    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيزيس وعشتروت.. لقاء النيل والفرات
نشر في القاهرة يوم 07 - 02 - 2012

حالة من الجدل الساخن أثارها الملتقي المسرحي الأول مصر العراق الذي شهدته القاهرة مؤخرا حيث جاءت فعالياته كاشتباك ثائر مع السياسة والفكر والثقافة، وتحول إلي مفارقة مثيرة تؤكد أن الفن يمتلك قوة سحرية غامضة تتجاوز الحدود والقيود، لتعانق وهج الأحلام وبريق الثورة وروح الإنسان. كان الملتقي ثريا أنيقا ومشعا، جاء كنتاج للتعاون بين الجمعية المصرية لهواة المسرح مع قطاع العلاقات الثقافية الخارجية والسفارة العراقية بالقاهرة واتخذت الفعاليات مسارها علي مسرح الجمهورية لنصبح أمام مواجهة إنسانية وإبداعية مدهشة التقي فيها النيل بالفرات واشتبكت الرؤي والطموحات عبر الندوات والحوارات والعروض المسرحية التي فتحت المسار أمام قراءات صاخبة في وقائع القهر والاستبداد، ومؤشرات السقوط والغياب ودوامات الردة والزيف والاستلاب. وفي هذا الإطار يتضح أن رئيس الملتقي د. عمرو دوارة قد استلهم بالفعل روح الثورة، وآمن أن الأحلام لا حدود لها، واستطاع أن يضع المسرح في قلب المشهد السياسي المسكون بالقلق والتوترات، لتمتد موجات الفن والثقافة، وتبعث جدلا مصريا عربيا يؤسس لتيارات الوعي الإنساني الرحب. شهدت الندوة الرئيسية مواجهات مصرية عراقية شديدة الثراء بين النقاد والمسرحيين وظلت السياسة حاضرة بقوة حول المائدة المستديرة، حيث كان المحور الأول يناقش «مسرح الثورة.. وثورة المسرح» بينما اتجه المحور الثاني إلي «المونودراما في العصر الحديث». ويذكر أن مصر قد شاركت بأربعة عروض هي: «أجنحة الأقوال» إعداد وإخراج د. عمرو دوارة، «حال الدنيا» للمخرج مصطفي خاطر، «انفلات أمني» للمخرج سامح بسيوني، و«1980 وانت طالع» للمخرج محمد جبر، أما العروض العراقية فهي: «كيس نايلون أسود» للمخرجة نجلاء بدر، «حكاية رجل اسمه ضحي» للمخرج مهند العميدي و«مانيكان» للمخرج خالد سلطان. حضور جماهيري في هذا السياق شهدت ليالي الملتقي الثلاث حضورا جماهيريا لافتا غير عادي، بعث به الشباب والكبار حالة استثناية نادرة جاءت كاحتفال بالحياة والثورة، وبالمسرح الذي لن يتخلي عن البوح والكشف والحرية. وعبر موجات الحب والوعي بعث وجود نجوم مصر والعراق حالة من الوهج والتواصل، وشهدت الليالي المتوالية تكريم فناني مصر الكبار محمود ياسين وجلال الشرقاوي، ونورالشريف، ومن العراق فخري العقيدي، فتحي زين العابدين، وبهجت الجبوري، وهكذا جاء الملتقي مشرفا ومضيئًا، وكانت فلسفة الاحتفال هي وثيقة تعاون عربي نحتاجها بقوة لمواجهة تناقضات واقعنا الشرس، وعلي مستوي آخر يتضح أن الجمعية المصرية لهواة المسرح هي كيان ثقافي مسرحي مستقل يثير الجدل والتساؤلات ويمتلك مقدرة التأثير والتفاعل والتواصل علي المستوي المصري والعربي. صلاح عبدالصبور في افتتاح الملتقي جاء عرض الافتتاح المصري بعنوان أجنحة الأقوال، قدمته فرقة فرسان المسرح للمخرج المتميز د. عمرو دوارة الذي كتب رؤية درامية بالغة التكثيف والدلالة المسرحية «ليلي والمجنون» لمؤلفها الكبير صلاح عبدالصبور، وفي هذا الإطار حلقت بنا أجنحة الأقوال إلي آفاق الثورة والوعي واندفاعات الفن والجمال، ودفعتنا شاعرية الوهج إلي تجاوز مأساة العجز والغياب والانتظار تلك الحالة التي بعثها حضور عبدالصبور في قلب المشهد السياسي عبر صياغاته الصادمة ورؤاه الكاشفة، وارتكزت عليها الرؤية الدرامية التي وظفها د. عمرو دوارة بحرفية متميزة اتخذت مسارها إلي بناء فني جديد لنصبح أمام مونودراما أخاذة.. متماسكة ومتصاعدة. تدور حول شخصية مغايرة تنتمي إلي قلب واقعنا المتوتر وتموج بعذابات القهر والتسلط والاستبداد، وفي هذا السياق تناولت الرؤية الفنية ردود فعل شخصية سعيد في مسرحية «ليلي والمجنون» علي تفاصيل وجودة واهتراءات حياته وتناقضات واقعه، وعلي رؤي أستاذه وتجمعت الخيوط الذهبية لتصنع نسيجا صارخ الجمال يمتلك مقدرة التفاعل مع الروح والجسد وسقوط الإنسان ويظل ابنا شرعيا لتلك اللحظات الفاصلة التي تشهد ميلادا جديدا للوعي والتاريخ والحرية في الوطن العربي. أجنحة الأقوال ويذكر أن مونودراما «أجنحة الأقوال» قد مثلت مصر دوليا في مهرجان مسرح الأمازيري بالمغرب، ومهرجان عشيات طقوس بالأردن، وقد أثارت ردود فعل عالية، ولفتت أنظار كبار النقاد والفنانين العرب. يأخذنا التشكيل السينوغرافي الناعم إلي عالم مسكون بهمس العذاب ووحشية السكون، الضوء الوردي يعانق الستائر البيضاء، والحجرة البسيطة تشاغب سعيد وتثير أشواقه ورغبات الحنين حيث المكتب والكرسي، القلم والأوراق والشيزلونج وليلة شتاء حزين شهدت خروجه من المعتقل الذي غاب خلف أسواره شهرين بتهمة ملفقة هي النظر إلي المستقبل. يتضافر الضوء والموسيقي مع توترات الحركة، الخطوط القصيرة تلتقي بالأقواس الصاخبة، وصراع الأعماق يفتح المسارات أمام تيارات الوعي.. لترقص أشباح الماضي مع شياطين الحاضر، ويندفع الشاب إلي هذيان محموم.. فالليلة كانت خمرا، والغد وهما وسرابا وأكاذيب، والقلب المثقل بالأحزان يحاول أن يفتح غرفة تذكاراته السوداء، ليتأمل تفاصيل العمر ومشاهد السنوات، لكن الفتي لا يعرف كيف يحُلق فوق المأساة، فهي وشم علي روحه وقيد في يديه وقدميه، ظلت التساؤلات الوجودية تشاغب سعيد، وتدفعه إلي الرفض والعصيان، تيار مشاعره يفجر فيض العذابات التي تمتد من الخاص إلي العام لتبعث مفارقات الوعي وانتفاضات الأعماق. سأل نفسه لماذا نصرخ وندخن ونئن ونتعذب؟ ما دمنا نغفو ونصحو لنري الأحلام قد انتهكت ونامت مستسلمة في فرشتها الخضراء.. وعبر جماليات شعر صلاح عبدالصبور يأخذنا الفتي إلي قسوة السجن ووحشية الاعتقال ومشاعر المعذبين حيث الشوق إلي نور الشارع والمارة والسيارات وماء النيل الكلمات تندفع بقوة إلي قلب الحاضر لتواجهنا بشباب 25 يناير، بضرورة الثورة وبسنوات طويلة من الامتداد العبثي لسلطة الفساد والاستبداد، وهكذا تمتد التقاطعات الساخنة ويكشف الضوء والموسيقي عن معني الأيام التي تفتقد الروح والنبض عن الألوان الباهتة لليوم الواحد، والأبد الممتد، وعن الاستهانة بحق الإنسان ونعلم أن الشاب قد ظل حبيسا لمدة شهرين، وحين وجدوا أن الثورة تشتعل بدونه، طردوه من السجن واعتذروا عن غفلتهم. تصاعد رؤي تمتد اللحظات وتتصاعد الرؤي لنلمس بوضوح جماليات بناء مونودراما أجنحة الأقوال، من حيث التماسك والتدفق وحرارة الصراع والبوح الكاشف عن وجهات النظر الثائرة، ويؤكد الفتي أن مستقبل هذا البلد لن يصنعه الحب المتأوه بل يصنعه العنف الملتهب، فأشعار بزنحت ورفاقه لم تمنع شرذمة النازية من أن تتربع فوق كراسي السلطة، تلك الحالة التي يدين بها سعيد نفسه ومبادئه ومرجعيات أستاذه صاحب الكلمات العذبة، التي تقودنا علي المستوي الدرامي إلي لحظة تنوير كاشفة تبعثها أصداء الأستاذ حين يقول: «الآن سنودع قتلانا، ثم نلملم ما ذاب حنينا من أنفسنا.. ونغني، ونرحل لنودع من ضاعوا منا في طرقات الوحشة، ولنتذكر أنا قدمناهم قربانا للريح كي يجتاز بنا البحر إلي مدن المستقبل وعبر إيقاعات الجدل المتوهج يؤكد الشاب الذي لا يملك إلا الكلمات، يؤكد أن القصر مازال هو القصر، والاستعمار هو الاستعمار، والأيام تمر ولا ندري كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد. تأخذنا موجات الضوء الأحمر إلي مقدمة المسرح ليواجه الشاب جمهوره العريض بتناقضات وجوده المسكونة بصوت الأستاذ وهو ينعي جيله الآسن، جيل لم يصنع إلا أن ينتظر القادم، جيل مملوء بالمهزومين الموتي قبل الموت، وفي هذا السياق تأخذنا رشاقة المونولوج وإيقاعاته الداخلية المتوترة إلي وجهة النظر النقيضة حيث يؤكد سعيد أنه لابد من الطلقة.. والطعنة والتفجير. كانت خشبة المسرح تموج بالحرارة والجدل حيث التقاطعات الحادة بين الماضي والحاضر، الواقع والخيال، وموجات الشعور وتيار الوعي.. الهزائم تأخذ الفتي إلي ذكريات حب مضي، يتبلور جماليا عبر الموسيقي والضوء والستائر الحريرية، الخطوات المرهقة تعلن العصيان علي الصمت والهمس الصاخب يستعيد حرارة القلب.. فقد أخبرته أنه الحب وأنها ترسم صورته بأنفاسها، تتخيل الجبهة والعينين والخدين، الشارب المهمل والكفين، المشية المرهقة والخطوات الواثقة، والرجل الذي أرادته لتتكئ علي جذعه، لكنه لم يكن أدرك ذلك جيدا، وأخبرته المرآة أيضا، فالقهر قد امتد ليستلب وهج الروح ويصبح عاجزا عن الحب. ينسحب الضوء الوردي وتأخذنا خطوط الحركة الواهنة إلي المكتب، حيث الكتب والمقالات والأقلام والورق.. العذابات تعود بالشاب إلي بضعة أشهر مضت، عندما كانت كتاباته تتألق كالوشم الناري علي ساعد هذا البلد، فالحلم الذهبي كان مشدودًا إلي نجمين مضيئين.. هما الحرية والعدل والأشواق إليهما تثير جنونا كجنون العشاق والأستاذ يؤكد أن المستقبل آت بالنجمين الوضاءين، لكن كوابيس الوهم شوهت الحلم ولم يعد يكتب إلا كلمات كإشارات البرق.. ثم ينظر في عيون الزملاء ويقطب وجهه ويدير المقعد لينكفئ علي ذاته. يندفع الفتي إلي كئوسه ليشرب، يحاصره الغثيان والعبث، يبحث عن سيجارة، موجات الدخان تأخذه إلي طفولته عندما كان يدخن خلسة.. ويطير مع الدخان، اندفاعات مشاعره تأخذه إلي لحظة موت أبيه، الذي مات مطحون الصدر من الإعياء.. كان ابن سنين عشرة، لكن الأيام لم ترحم براءته، عرف الجوع والفقر، وتمزق حين أخبرته أمه أنه لم يتبق لهما مما يعرض في السوق إلا هو في سوق الخدامين، وهي في سوق الحب. اشتباكات العقود وعبر اشتباكات الضوء والموسيقي وخطوط الحركة تندفع موجات الوعي، ونعايش جماليات الشعر والنقد والسياسة حين يؤكد سعيد أنه في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي الناس إلي السجن بمحض الصدفة لا يوجد مستقبل.. في بلد تتعري فيه المرأة كي تأكل لا يوجد مستقبل تمتد موجات الاشتباك والتوازي والتقاطع وتنطلق إيقاعات العزف علي قلب الحاضر لتكشف لغة الإخراج عن بساطتها المدهشة التي بعثت تيارا من الهارمونية والاتساق بين جموح الصياغات الثائرة، وعبث المشاعر الصاخبة، وموضوعية الرسائل الدالة المتجهة إلي عقل وأعماق الجمهور. وفي هذا السياق يندفع سعيد إلي تجربته مع التعذيب والسجن واغتيالات الروح، ويذكرنا بالضباط والسلطة والتكنيك الوعد السافل، لنصبح أمام مفارقة متوترة تؤكد حجم مأساة مصر مع سنوات طويلة من القهر، فقد فيها الزمن ملامحه ومعناه، وظلت التشوهات ساكنة في قلب اللحظات والناس أسري غيبوبة الانتظار والوعد وعبر تناقضات الفن ومقدرته الساحرة علي استدعاء الماضي إلي قلب الحاضر، نعايش حالة من الجمال الأخاذ، يبعثها التوظيف المتميز للشموع والضوء، حيث يتجه سعيد إلي منتصف خشبة المسرح ليضيء الكون ويعيش نبوءته بثورة 25 يناير، وبميدان التحرير الذي شهد ميلاد الوعي وتحقيق الحلم. هكذا كان صلاح عبدالصبور يري أن الحرية برق قد لا تبصره عيناه، وعينا جيله المتعب، لكنه ظل ينتزع الأشواك من الورد حتي لا يصبح عمراً مفقودا بين الماضي والمستقبل. وتتعانق الكلمات مع الضوء والموسيقي والحركة، وتمتد تقاطعات الأزمنة، ونعايش عذابات سعيد وهو يبعث برسالة للقادم من بعده.. كتبها كيوميات بني مهزوم يحمل قلماً.. ينتظر نبياً يحمل سيفاً، فقد يأتي من بعده من يعطي الألفاظ معانيها، من لا يتحدث بالأمثال، إذ تتأبي أجنحة الأقوال أن تسكن في تابوت الرمز الميت.. قد يأتي من يبدي فاصلة الجملة، من يغمس مدات الأحرف في النار.. من يتمنطق بالكملة.. و يغني بالسيف. لم تكن الستائر الحريرية البيضاء هي مجرد استكمال لمنظومة الضوء والجمال والألوان، حيث اتجهت رؤية الإخراج إلي توظيفها بأسلوب مغاير يرتبط بمفاهيم التواصل وكسر الإيهام وتحديد اتجاه الرسائل والخطابات وفي هذا السياق تأخذنا النهاية إلي اشتباك متوهج بين الضوء الأحمر وستارة العمق التي تنسد برشاقة لتتوازي مع حرارة خطوط حركة سعيد وهو يتجه بخطابه إلي الجمهور قائلاً.. انفجروا.. أو موتوا. رعب أكبر من هذا سوف يجيء. ياسيدنا القادم من بعدي.. أنا أصغر من ينتظروك في شوق محموم.. باسم الفلاحين والملاحين.. باسم الحدادين والحلاقين.. باسم الشعراء والخفراء.. الأهرام وباب النصر وكتاب الموتي ونشيد بلادي.. نرجو أن تأتي وبأقصي سرعة فإما أن تدركنا قبل الرعب القادم.. أو لن تدركنا بعد. ولا تنسي.. لا تنسي أن تحمل سيفك. هكذا تنتهي التجربة الثائرة الجميلة، التي تزامنت مع
احتفالات مصر بمرور عام علي ثورة 25 يناير.. التي لاتزال تبحث عن الحرية والعدل والحب. وقد شارك في المسرحية فريق عمل متميز وكان بطلها هو الفنان الشاب الواعد أحمد حمدي الذي عاش تحدياً فنياً كبيراً كشف عن امتلاكه للموهبة الخصبة، أما السينوغرافيا فقد كانت للفنان محمد هاشم والموسيقي لتامر سنجر وكانت الإضاءة لشريف البرعي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.