هذا هو السؤال الذي طرحته علينا المخرجة اللبنانية "نادين لبكي" في عنوان فيلمها الأخير "هلأ لوين؟". طرحته فيما يتعلق بظاهرة خطيرة أصبحت تُهدد حاضر ومستقبل الشعوب العربية، وتُثير قلقاً واسعاً يثقل عقول وقلوب الملايين من الرجال والنساء في بلادنا. هذه الظاهرة هي تفاقم التعصب الديني، والصراع الطائفي الذي ينذر بأوخم العواقب. سؤال طرحته في المشهد الأخير من فيلمها دون أن تُجيب عنه، فكم من المعضلات الخطيرة تُواجهنا في هذا العصر المضطرب نسعي وسط نيرانها إلي الاهتداء لإجابة عليها. ذلك أن الشعوب وحدها هي التي ىُمكن في يوم من الأيام أن يصل إدراكها ونضالها إلي حلول للمشاكل التي تنهش في لحمنا وفي حياتنا. اختارت "نادين لبكي" بفضل بصيرتها كفنانة موقعاً مدفوناً في محيط طبيعي قاس. قرية بلا اسم، معزولة، ومدفونة وسط جبال صخرية عارية، وقاسية ترتفع في السماء تقول لنا "انظروا كيف أن حياة السكان التي ستشاهدونها منحوتة في محيط جارح لا يوحي بالأمان، بحنان الأشجار والزهور والأرض الخصبة الولادة. قرية الوصول إليها يتطلب اجتياز منحدر وحيد، ضيق وعميق وخطر يشق طريقه بصعوبة وسط الجبال فأتاحت لنا المخرجة منذ البداية أن نحس بقسوة الحياة التي يعيشها سكانها. فيلم افتتحته برقصة جنائزية مسرحية تُوحي بالأحزان المتراكمة في صدور نسائها، وبأحزان قادمة، كما أتاح لنا تصوير الجبال أن نشاهد منظراً نادراً لا يغيب عن البال. إنها قرية نائية مسالمة يحيا فيها رجال ونساء بسطاء في حالة من الوئام. رجال ونساء فيهم ذكاء الفطرة، والقدرة علي الضحك والسخرية التي تُولدها حياة ليست مفروشة بالمال والورد ذكاء وقدرة علي السخرية تجلتا علي الأخص بين النساء. إنها حالة من الوئام، لكنها كما سنكتشف لا تنفي وجود الضغائن، وتيارات العداء الكامنة تحت السطح كما هو الحال دائماً مع البشر لأنهم حتي الآن لا يولدون، ولا يحيون في مجتمعات تسود فيها الحرية الحقيقية، والعدالة، وعدم التفرقة، والسلام. لذلك تتفجر الصراعات عند حدوث الأزمات أو وقوع أسباب تُؤدي إلي سوء تفاهم، أو صراع في المصالح. نظرة المخرجة هذه الحالة من الوئام في القرية تظل قائمة إلي أن يتمكن اثنان من الشباب أن يأتيا بجهاز تليفزيون وملحقاته، وأن يضعاه في منزل "مختار" أي عمدة القرية المسيحي بمساعدة زوجته "إيفون". فمنذ تلك اللحظة تبدأ المشاحنات بين الرجال، ذلك أن التليفزيون صار ينقل إليهم أخبار الحرب الأهلية الدامية التي جرت بين المسلمين والمسيحين في لبنان خلال سنة 1975 . هذه المشاحنات تقع لأسباب تافهة بل مضحكة، ولهذا السبب فإن إيعازها إلي عوامل خارجة عن نطاق حياة القرية نفسها كان فيه قدر من التبسيط المُخل فهي لم تتفجر إلا علي أرضية من الخلافات والضغائن الاجتماعية والدينية تكونت خلال تطور تاريخي طويل في المجتمع. هذا رغم تفاهة أسبابها الظاهرة. اقترن هذا التبسيط للمشكلة بعنصر آخر هو تحيز الفيلم إلي جانب النساء علي نحو فيه تطرف. فلا شك أن البناء الذكوري للمجتمع يؤثر علي طبائع الرجال والنساء، لكن الفيلم انساق في تحيزه للمرأة علي نحو فيه الكثير من المبالغة. فعند "نادين لبكي" الرجال هم الأشرار، والعنيفون، المستعدون للعراك لأتفه الأسباب. وهم الذين يتركز جوهر اهتماماتهم علي مسائل شكلية تتعلق بوضعهم الخاص، ويسيطر علي حياتهم الاهتمام بالجنس، وتعاطي المخدرات. إنهم لا عمل لهم في القرية إلا فيما ندر، هذا بينما النساء هن الخير، والعواطف، والحب، والتعقل، والميل إلي السلام، ومع التسليم بأن هناك فروقا مهمة بين طبيعة الرجل والمرأة بحكم وضع كل منهما في المجتمع، فإن هذا التمييز القاطع بين طبائع الجنسين مبالغ فيه يعكس رد فعل أنثوي متطرف ضد الذكورة السائدة في المجتمع. مشهد خطير في الفيلم تطورات ومشاهد مأساوية، مؤثرة للغاية عُولجت بفنية عالية. الشابان اللذان أحضرا التليفزيون إلي القرية كانا يتوليان نقل منتجاتها واحتياجاتها بواسطة دراجة نارية مزودة بصندوق يجتازان بها الدرب الضيق الذي يصل بين القرية والمدينة. في إحدي الليالي كانت تدور معركة مسلحة في الجبال بين مسلمين وأقباط فقُتل أحد الشابين برصاصة طائشة وهما عائدان من المدينة. هناك شاب وسيم ورقيق اسمه "نسيم". عندما تُفاجأ الأم بما حدث تُلقي بنفسها علي جثة ابنها صارخة "رد علىَّ يا "نسيم".. رد علىَّ" لكنه لا ىُجيب فتعدو عبر مسالك القرية وتندفع داخل الكنيسة. هناك تقف أمام تمثال العذراء "مريم" وتُعبر صارخة، باكية عن تساؤلاتها، عن شكوكها، عن غضبها، وعن تمردها في مشهد مؤثر للغاية بعد ذلك خشية حدوث مجزرة في القرية بين المسيحيين والمسلمين تدفن جثة ابنها سراً في الليل مع عدد من النساء اللائي تُوثقن الجثة بحبال ثم تُسقطنها في بئر عميقة. تُخفي الأم ما حدث لابنها وتُغلق غرفته مُدعية أنه مريض، لكن ابنها الكبير يكتشف حيلتها، فيدور كالمجنون في الدار باحثاً عن سلاحه حتي ينتقم ضد المسلمين في القرية. في مواجهة خطر المجزرة القادمة تُخرج هذه المرأة الأم الشائبة الشعر المعذبة الملامح البندقية من مكمنها وتُطلق رصاصة إلي إحدي ساقي ابنها لتمنعه من الحركة. اعتمد الفيلم إلي حد بعيد علي الكوميديا الساخرة التي تجلت في الحوارات والمواقف التي اتخذتها النساء. الجزء الكوميدي البارز يدور حول الاجتماع الذي عقدته النساء بعد وفاة الشاب اتفقن فيه علي صُنع فطائر محشوة بالحشيش، والأقراص المخدرة ثم قمن بتنظيم حفل ترقص فيه مجموعة من الراقصات الأوكرانيات اللائي اضطررن للبقاء في القرية عدداً من الأيام نتيجة عُطل أصاب الأتوبيس الذي كان ينقلهن إلي المدينة. في جو من الرقص، والمرح، والموسيقي قامت النساء بتوزيع الفطائر حتي يخلد الرجال إلي نوم عميق وطويل، فتهدأ النفوس. ثم أثناء نوم الرجال اتفقن فيما بينهن علي أن تتدعي المسيحيات تحولهن إلي الإسلام وتدعي المسلمات تحولهن إلي المسيحية، مما قاد إلي مواقف كوميدية ساخرة، ومضحكة كانت في الوقت نفسه تعبيراً عن أن الإنسان إنسان، سواء أكان مسيحياً أم مسلماً، وأنه يجب ألا تكون هناك تفرقة دينية بين الناس. توليفة خصبة فنياً تصدت "نادين لبكي" بجرأة في هذا الفيلم لمشكلة خطيرة، مُحاطة بكثير من العوامل الاجتماعية، والفكرية، والخلقية المعقدة والحساسة وهي تستحق التقدير علي ذلك. لجأت في إخراجه إلي توليفة غنية، وتركيبة فنية متعددة الجوانب، إلي الجمع بين الكوميديا الساخرة، والدراما المؤلمة بين الواقع كما تصورته هي والفانتازيا، بين أسلوب سينمائي ومسرحي أحياناً في بعض المشاهد، ثم ضفرت فيه الرقص والأغاني والموسيقي التي أكدت وعمقت المواقف والمشاعر في الفيلم. مع ذلك كان هناك عيب أساسي فيه ينبغي تسجيله، فلاشك أن الفن بطبيعته يميل إلي المبالغة، إلي التطرف خصوصاً عندما يبني علي قدر كبير من الكوميديا الساخرة، لكن جرعة المواقف والأحاديث والتطورات الفكاهية سيطرت علي جزء كبير من فيلم "هلأ لوين؟" مما أفقده التوازن وهذا في عمل موضوعه جد خطير مما جعله يفقد جزءاً كبيراً من مصداقيته، ومن قدرته علي الإقناع خصوصاً أن المشاهد عندما يدخل إلي فيلم يتناول موضوعاً مثل الصراع الديني والطائفي لن يكتفي بالتسلية فقط، وإنما سيبحث عن جوانب أخري أهم. كذلك فإن التمييز المبالغ فيه بين طبيعة المرأة، وطبيعة الرجل ساهم هو أيضاً في إضعاف المصداقية. نجح هذا الفيلم في عدد من البلدان العربية، بينما الجماهير في مصر لم تُقبل عليه. وقد أوعز بعض النقاد هذه الظاهرة إلي صعوبة تتبع المشاهد المصري فيلما استخدمت فيه اللكنة اللبنانية لكني أعتقد أن السبب الرئيسي في انصراف جمهورنا عنه هو انتشار التعصب الديني الإسلامي والمسيحي بين قطاعات كبيرة ومهمة من المجتمع. كذلك السخرية المبالغ فيها الموجهة ضد الرجال، والميل إلي تصويرهم كائنات تافهة ربما أثار حفيظة الآباء والأزواج وشباب الأسر والنساء المتأثرات بهم، فالنظرة الذكورية تدعمت في المجتمع رغم كل الكلام عن الحداثة ماعدا في قطاعات محدودة من الشباب المثقف. كما أن الديانات دون استثناء تُؤكد سيادة وهيمنة الرجل علي المرأة.