عبر عملية التحول الثوري التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية 1989 وانهارت معها نظمها الحاكمة، وأحزابها وشخصياتها، برزت شخصيات جديدة تقود وتوجه هذه العملية، كان فاتسلاف هافيل بتاريخه الدرامي أكثرها تميزا. وقد وجد نفسه، وهو الشخص الخجول المتأمل، وعلي عكس إرادته، في قلب الأحداث، وهو الذي كان وقبل أن يصبح رئيسا لبلاده بأقل من عام في السجن بعد اعتقاله والحكم عليه وهو يضع باقة من الورد علي قبر طالب الفلسفة الذي أحرق نفسه احتجاجا علي الغزو السوفييتي لبلاده عام 1968، ومن الميدان نفسه الذي شهد هذه الواقعة وجد هافيل نفسه يقود ما سيعرف في تاريخ بلاده ومنطقته «بالثورة المخملية» كناية علي سلميتها وعدم عنفها والتهامها لأبنائها، كما حدث في بلدان مجاورة، وهو ما كان أساسا بسبب قيادته للتحول في بلاده، ونفوره من الانتقام وتغليبه الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية. نقطة انطلاق حدد هافيل منطلقاته الفكرية ككاتب بقوله «في كل كتاباتي نقطة انطلاقي دائما هي ما أعرفه من خلال تجربتي الخاصة في هذا العالم الذي أعيش فيه، وتجربتي وخبرتي الذاتية عن نفسي، وباختصار فقد كتبت دائما عما يعنيني وأهتم به في هذه الحياة، وما أراه، ما الذي يهمني ويثير اهتمامي وقلقي، وقد كان أملي دائما أن أستطيع من خلال كتاباتي وبما شهدت عليه من خبرات محددة في العالم وفي وطني أن أكشف ما هو عالمي في إنسانيته، وأن استخدم خبرتي المحددة لكي أقول شيئا عن الوجود بوجه عام عن الناس في عالم اليوم وعن أزمة الإنسان المعاصر، وبعبارة أخري عن هذه الأمور والقضايا التي تهمنا جميعا». وقد عالج هافيل بشكل مفصل في مقاله المهمة «قوة الضعفاء» The POWer of powerless عام 1978، وكانت القضية الرئيسية في هذا المقال هي قضية العيش في الحقيقة والمسئولية العليا للأفراد اينما كانوا، وبشكل خاص في تلك المناطق من العالم التي تتعرض فيها الشخصية الإنسانية للخطر، ليس فقط من جانب السلطة، وإنا أيضا من جانب زملائهم في الإنسانية، ولم يكن هذا المقال شيئا مجردا أو عملا تأمليا، إنما كان شهادة علي خبرة حية كان يعيشها كل فرد في المجتمع التشيكي. كما أن هذه الخبرة هي التي أكدت أن نقطة البداية والهدف من كل كتاباته وخاصة في المقالات، لم تكن عملا تأمليا أو نظريا ولهذا كان يقول «إذا ما نظر إلي مسرحياتي علي أنها فقط وصف لنظام سياسي أو اجتماعي معين، فسوف أشعر أني فشلت ككاتب». ما الذي اقحمني؟ بعد ستة شهور علي توليه الرئاسة في بلاده قال هافيل «إني دائما أسأل نفسي ما الذي اقحمني في هذا الدور، وأبدو لنفسي وكأني مدع في هذه الوظيفة، إنني أشعر أن شخصا ما سوف يهبط في لحظة ويجردني من السلطة ويزج بي ثانية في السجن «غير أن ما كان يختلف عن هذا الشعور هو اقتناعه، «أن ثمة أفرادًا موهوبين يمتلكون الكثير من الحكمة والجاذبية لكي يديروا بشكل عظيم تشيكوسلوفاكيا في المستقبل». وتعكس هذه العبارات شعور هافيل بالغربة عن منصبه وعدم الألفة معه، الأمر الذي ظل يلازمه بدرجة ما، كما تعكس ما وصفه هو «بافتقاره الفطري إلي الثقة بالنفس وشعوري المستمر بعدم التأكد واليقين حول ما إذا كنت مقبولا من حولي يضاعف من هذا افتقاري للبراعة وتأدبي ومجاملتي للناس وقلقي الزائد». وقد دفعت هذه الصفات حتي المقربين منه وأصدقائه إلي اتهامه بالبراءة، وهي بمعايير السياسة والحكم يمكن أن تكون تهمة، ولعل ما يستدلون علي هذه البراءة هو زيارته لواشنطن زيارة رسمية عرض عليه المسئولون الرسميون الأمريكيون مساعدته في تسهيل عملية الانتقال الصعبة في بلاده، فأجاب «إننا نعرف ما يجب علينا عمله وكل ما نطلبه منكم هو تأييدكم المعنوي»، وحين توجه إلي لندن سئل عما سيناقشه مع رئيسة الوزراء ورجال المال والصناعة فقال «إني سوف أوضح أننا لا نحتاج للمال، إننا نريد النصيحة ونريد أفكارا ونريد أن نتعلم كيف نعمل بشكل شاق، وبشكل رومانسي، تحدث أمام الكونجرس الأمريكي عن «أسرة الإنسان» وهو المثل الذي يشعر أن العالم يبتعد عنه أكثر مما يقترب منه. وقد بدت حيرة الرئيس في تقييمه لحصاد عام من الثورة ومن توليه الرئاسة، فقد سجل بالطبع الجانب المضيء الذي بدا بانسحاب الوحدات الأخيرة من القوات السوفييتية التي غزت البلاد منذ 22 عاما وإجراء أول انتخابات حرة علي كل المستويات وحرية التعبير والصحافة وأدوات الإعلام وحقوق التنقل والسفر، ووضع برامج الإصلاح الاقتصادي وبدء معالجة العلاقة بالإقليمين التشيكي والسلوفاكي بشكل واقعي، أما الجانب السلبي فقد بدا له فيما بدا يتكشف عن مدي تعقد ميراث الماضي، فكل يوم راح يأتي بمشكلة جديدة تتداخل مع غيرها من المشاكل، ويظهر مناخ من عدم الصبر والقلق وخيبة الأمل والشك والحقد وتبادل الاتهامات، «وللغرابة فإن الحرية فتحت الطريق للعديد من الصفات السلبية، وكشفت عن عمق التدهور الأخلاقي لأرواحنا، لقد هزمنا بشكل واضح العدو المحدد المرئي، ولكن الأمر في اندفاعنا بغضبنا وحاجتنا لأن نجد مذنبا حيا، جعلنا نبحث عن العدو في كلامنا، بحيث أصبح كل فرد فينا يشعر أن الآخر قد تخلي عنه وخدعه»، ويسجل هافيل حالة عدم التأكد وعدم اليقين التي تسود طبيعة النظام الجديد وكيفية بنائه، ف«مجتمعنا مازال في حالة صدمة، وهو وضع كان يمكن تصوره ولكن أحدا لم يتوقع أن تكون الصدمة بهذا العمق، ويواصل هافيل تسجيله للمأزق بين النظام القديم والجديد». «إن النظام القديم انهار ولكن النظام الجديد لم يبن بعد، وتتصف حياتنا بشكل عام بعدم التأكد الكامن في اللاوعي حول أي نوع من النظام نريده وكيف نبنيه، وعما إذا كنا في المقام الأول نمتلك وسائل وأدوات بنائه، والمسافة التي تبعدنا عن النظام الجديد وغموضه وعدم التأكد منه، تؤدي بالكثيرين منا لأن ينشدوا بديلا له في الحلول الجزئية، وأن ينسوا أن نجاحنا كأفراد، أو جماعات أمر ممكن فقط بالنجاح العام لنا كمجتمع». كان موضع عزاء هافيل خلال تلك المرحلة القلقة من التجربة شعوره «أن الشعب في نهاية الأمر يتمسك به، لا لأنه رجل سياسي يوفر له السلع في الأسواق، وإنما لأنه يمثل قضية لم يتخل عنها في السنوات الصعبة، كذلك كان هافيل يستمد الثقة من مكانته في الخارج والنظر إليه كفيلسوف أخلاقي ذي ثقل حقيقي، غير أن هذا كله لا يخفي حقيقة أنه ليس رجلا سياسيا، وكان يقاوم ما يطالبه به البعض من أن يكون حاكما قويا «ربما كنت أكثر حزما في مصالح الوطن وبدافع من المسئولية، ولكن إلي حد ما فقط، ولن أصبح أبدا بونبارتيا»، وفي مرحلة لاحقة قال إنه لا يعتقد أنه الشخص الذي يقع ضحية عبادة الشخصية، بل ذهب إلي القول إنه إذا كانت تشيكوسلوفاكيا تصبح حقا دولة ديمقراطية فإن عليها أن تعتمد علي أكثر من شخص. وحين سئل عما إذا كان يستمتع بمنصب الرئيس أجاب «في الوقت الراهن هذه هي أفضل طريقة أخدم بها بلادي ولكن أعتقد أن الوقت سيحل حين استطيع أن أخدمها بطريقة تفرض علي كمطلب أقل» وكان يقول «إن يوما واحدا في المنصب هو أسوأ من مائة يوم في السجن». هافيل الكاتب ولكن وسط شئون الحكم وهمومه أين اهتمامات هافيل ككاتب؟ يبدو أنه إلي جانب خطبه وبياناته التي يكتب معظمها بنفسه، لم يتوقف عن الكتابة «فإلهام الكتابة لم يذهب، ولكنه يكتب مثلما كان يفعل وهو في المعارضة «لدرج مكتبه» كما يحاول أن يقرن هذا بمقابلاته مع عدد من الكتّاب والمفكرين، فلأن لديه عنصرا شرقيا في تفكيره، حرص علي لقاء استضافة الدالاي لاما الزعيم الروحي للتبت حين زار براغ 1990 وأجري معه مشاورات روحية كما التقي الكاتب جورج كونراد، وحين كان يعد لزيارة مصر أبدي رغبته في الالتقاء بكاتبها نجيب محفوظ ومن الكتّاب الذين قابلهم الكاتب السويسري دورينمات الذي كتب له رسالة بعد ذلك يقول فيها «إن مهمتك كرئيس لها نفس مهمة ورسالة هافيل كمنشق» وربما كانت هذه هي آخر رسائل دورينمات قبل وفاته. ومع تقدم خبرته في الحكم، ازداد ادراك هافيل لمأزقه حيث يقارن نفسه «بالناقد الأجنبي المعروف بأحكامه التي لا ترحم ونظرته الفاحصة والقدرة علي اكتشاف أي نغمة زائفة في رواية أو قصة فجأة يطلب منه أن يكتب رواية ويترقب الجميع بفضول بل ويقدر من الفرح الخبيث لكي يروا كيف سينجح في تحقيق المعايير العالية التي وضعها هو بنفسه من قبل دون أن يعرف أنه في يوم ما سيكون عليه العمل في تحقيق وارضاء هذه المعايير». ويستذكر هافيل نقده في الماضي للسياسات العملية وأساليبها «كأداة للتنافس علي السلطة لا تهدف إلي خدمة منزهة للمواطنين وفقا لما يمليه ضمير الإنسان، وإنما فقط لكسب رضاهم، والبقاء في الحكم أو الحصول علي مزيد منه وكمثقف مستقل فقد كنت أطور باستمرار مفاهيمه عن السياسة كخدمة منزهة لرفاق من البشر وكتطبيق وممارسة عملية للأخلاق، وكسياسة تعتمد علي المبادئ العالية التي أسميتها «السياسة غير السياسة». وهكذا يتصور هافيل «أن القدر قد ضحك علي وكأنه يقول لي إنه بعد أن كنت علي هذا القدر من الذكاء علي الآن أن أبين لمن كنت انتقدهم الطريق الصحيح وليس غريبا إذن ألا أحسد علي وضعي الحالي، فكل نشاطي السياسي وربما كل السياسات التي تتبعها تشيكوسلوفاكيا تقع تحت فحص الميكروسكوب الذي بنيته بنفسي». ورغم كل هذه الحيرة وهذا المأزق الذي وجد هافيل نفسه فيه بين تاريخه وتكوينه ككاتب وبين ظروف الحكم وواقعه، فهل جعلته هذه الخبرة يندم أو يتراجع عن المواقف التي تبناها والمفاهيم التي صاغها يوما ما عن السياسة وممارستها ومبادئها يقول هافيل «إن العكس هو الصحيح فبعد أعوام من الرئاسة في بلد تحيط به المشاكل، فإني لم أجد حاجة إلي تغيير وجهة نظري، بل إنها تأكدت لدي فرغم كل التعاسة السياسية التي أواجهها كل يوم مازالت عقيدتي العميقة أن جوهر السياسة ليس قذرا، فالقذارة إنما يأتي بها فقط الرجال الأشرار، وأعترف أن السياسة هي مجال للنشاط البشري يقوي فيه الإغراء للتقدم من خلال تصرفات غير عادلة وتفرض مطالب ثقيلة علي الإنسان أن يتحملها إذا أراد أن يحتفظ بالمرة أن السياسي لا يستطيع أن يعمل دون أن يكذب أو يخادع فهذا الكلام يروج له هؤلاء الذين يريدون أن يبعدوا الناس عن الاهتمام بالقضايا العامة». فإذا كان الأمر كذلك فما هي متطلبات ومكونات السياسي في نظر هافيل لكي يعيش ويمارس نشاطه دون أن يضطر إلي الكذب والخداع؟ إنه يدرك أنه في السياسة شأن كل مجالات الحياة قد يكون مستحيلا أن يقول الإنسان في كل وقت كل شيء بشكل مباشر، ولكن هذا لا يعني أن علي المرء أن يكذب فما هو مطلوب هنا هو اللباقة، والإحساس الغريزي والذوق السليم، وفي الوقت الذي يعتبر فيه العلوم السياسية والتاريخ والثقافة أمورا ذات أهمية بالنسبة للسياسي إلا أنها ليست كل شيء وما هو أهم أن يقيم الصلة وأن يحتفظ بحس يقيس به الأمور وبالقدرة علي تصور نفسه في وضع الآخرين ومخاطبتهم والقدرة علي التصور والتقييم السريع للمشكلات وظروف الأرواح الإنسانية. خبرتان وهكذا فإن خبرة هافيل الكاتب أكدتها خبرته كرئيس ف«ليس صحيحا أن الناس ذوي المبادئ الرفيعة لا يصلحون للسياسة، إن المبادئ الرفيعة عليها فقط أن تستعين بالصبر والمراعاة والتقدير والصحيح للأمور، وفهم الآخرين، وليس صحيحا أن الشخص المتغطرس والمتكبر والذي يجيد الصياح هو الذي يمكنه أن ينجح في السياسة، مثل هؤلاء، من الطبيعي أن تجتذبهم السياسة ولكن في نهاية الأمر، فإن الأدب والخلق الرفيع لهما الغلبة». عندما فكرفاتسلاف هافيل أن يستقيل من منصبه في يوليو 1992 عقب تصويت برلمان سلوفاكيا لصالح الحكم المستقل للإقليم، ساد شعور بالأسف العام والإحساس بأن الساحة الدولية سوف تفتقد رجلا قد لاينسب له أنه كان رجل دولة استثائيا، ولكنه مارس الحكم والسياسة بمستوي جديد من التجرد والتأمل نادرا ما حدث وهو اليوم أندر حدوثا. وكما يقول زملاؤه فإن هافيل لم يكن قط سياسيا فقد عبر مباشرة من كونه منشقا إلي الرئاسة متخطيا مرحلة السياسة الحزبية التي يمر بها معظم الساسة وبهذا الشكل فقد تصرف منذ البداية كرجل دولة وهوما أعطاه ميزة كبيرة وهو لم يكن يعرف ماذا تعني الأحزاب السياسية ولم يختبر الصراعات الحزبية الداخلية ولم يدرك كم هو صعب أن تكون زعيم حزب، وكنتيجة لذلك، وكرئيس لم يكن فعالا كما يجب أن يكون في علاقاته واتصالاته مع الأحزاب البرلمانية. وقد كانت أكثر اسهامات هافيل أهمية، هو أنه لم يتخل عن إصراره علي البعد الأخلاقي في السياسة، وهو مفهوم يعتبر عتيقا اليوم ويرفضه معظم الساسة التشيك أو في أفضل الأحوال يدعون أن الأخلاق والسياسة شيئان مختلفان ولا يجب أن يمتزجا بل إنهم ينكرون وجود الأخلاق في حد ذاتها. ويعتبر هافيل أنه يمتلك خاصية لا تجعله يخضع لجاذبية السلطة والحكم ف«إنني أتمتع بميزة كبيرة، فمن صفاتي «الرديئة» صفة أفتقدها لحسن الحظ هي التطلع أو حب السلطة أو التقيد بها، وعلي هذا، فأنا أكثر تحررا من هؤلاء الذين، وبعد أن يقال كل شيء ويفعل كل شيء يظلون متعلقين بالسلطة وبموقفهم بشكل أكثر وافتقادي هذه الصفة يسمح لي برفاهية أن أتصرف وأسلك بشكل غير «تكتيكي». وكما عبر John Keane آخر من أرخوا لحياة هافيل، أن من يقرأوا هذه الحياة سوف يتذوقون لحظات الفرح والسخرية بل والمهزلة وسوء الحظ التي عاشها هافيل، وسوف يرون أن حياته قد أظهرت شجاعته في وجه البؤس والهزيمة، وسوف يفهمون لماذا هو رئيس ما بعد الحداثة، له معجبون في أركان الدنيا الأربعة، وفوق كل شيء سوف يكتشفون شيئا يجب علي كل معجبيه ونقاده ألا ينسوه. والواقع وكما سبق الإشارة أن حياة هافيل تقدم مادة غنية حقا للنظر من جديد في موضوع السلطة، وقد كتب هافيل العديد من المقالات والمسرحيات حول هذه القضية، وكانت خطبه كرئيس حافلة بالإشارات والتعليقات عن هذه القضية التي كانت لازمة له، بل إن وضعه كرئيس قد غذاها وأصبح أكثر إحساسا بها بعد أن عاش تقريبا كل التغيرات الكبري للسلطة في القرن العشرين، فخمسة أسداس حياة هافيل قد عاشها في ظل نظم معادية للديمقراطية بشكل أو بآخر، كل هذا جعل حياة هافيل وأزمته تقدم دليلا للديمقراطيين، فهو ينطلق من اعتبار أن الشهوة للسلطة هي انحراف متعدد الأشكال، وأن السلطة أينما مورست هي في حاجة إلي إشراف ورقابة، وأن هذه الرقابة يمكن أن تحدث بشكل أفضل من خلال نظام ديمقراطي يتميز بعدم العنف والمشاركة في السلطة وترتيباتها ووضع الحدود علي نطاق وامكانية غطرسة المؤسسة الحكومية، فالديمقراطية عنده في صورتها المثالية هي نظام من الرقابة الذاتية وتذكير يومي للحكام والمحكومين علي السواء وهؤلاء الذين يمارسون السلطة علي الآخرين إنهم لا يملكون أن يفعلوا أي شيء يريدونه. لقاء أخير قبل تركه للسلطة بعدة شهور في أكتوبر 2002 تحدث فاسلاف هافيل أمام تجمع ثقافي في نيويورك متأملا في تجربته في الحكم والسياسة، وقد بدأه باستذكار لقاء سابق مع نفس التجمع حيث تولي السلطة عام 1990 وكرئيس منتخب لتشيكوسلوفاكيا، واعتبر أن هذا اللقاء الأخير يقوده بشكل طبيعي إلي التساؤل عما إذا كان قد تغير خلال السنوات الثلاث عشرة التي قضاها في السلطة وما صنعته به «تلك المرحلة الغامضة» وعن طبيعة التحولات التي أحدثتها فيه هذه المرحلة الغامضة، وقد أجاب هافيل عن هذا التساؤل بأنه قد اكتشف شيئا مذهلا، فبينما كان من المفترض أن توفر له هذه التجربة قدرا أكبر من الثقة بالذات والطمأنينة والصقل، فإن ما حدث كان العكس تماما، حيث أصبح من خلال هذه الفترة أقل ثقة وأكثر تواضعا، وطلب من مستمعيه أن يصدقوه أنه كان يعاني كل يوم قدرا أكبر من رهبة الوقوف علي خشبة ذلك المسرح، والمزيد من الخوف من أنه غير مؤهل لعمله وأنه سيؤديه بشكل سيئ والصعوبة المتزايدة التي يجدها في تحرير خطبه والقلق من أنه ربما يكرر الكلام نفسه مرة بعد الأخري، وخشيته من أنه دون ما يتوقع منه وأكثر افتقارا لمؤهلات المنصب وأنه رغم حسن نواياه فسوف يرتكب اخطاء أكبر فأكبر ومن ثم فإنه ليس له الحق في تولي منصبه، وقد انسحب هذا الشعور علي لقاءاته مع الشخصيات المهمة أو الظهور علي التليفزيون وجعله هذا يتحاشي ما قد يعتبره الآخرون فرصة ثمينة وباختصار، بدأ يشعر، في منظار نفسه، أنه «مشبوه» وكلما تكاثر أعداؤه وجد نفسه يتفق معهم في سره وهكذا أصبح عدوا لذاته. ويتساءل هافيل عن تفسير هذا التحول الأبعد الذي حدث في شخصيته، ويجيب، علي الأقل في الوقت الراهن، أن أحد التفسيرات لذلك أنه مع تقدمه في السن ونضجه واكتساب الزيد من الخبرة والتعقل تأهل بالتدريج إلي إدراك كامل لمدي المسئوليات العجيبة التنوع التي يتحملها نتيجة لمنصبه كرئيس، يضاف إلي ذلك اقتراب الوقت الذي سوف يطرحه الآخرون ويطرحه هو علي نفسه عن مثله وأهدافه وما الذي يريد تحقيقه وكيف يريد للعالم أن يتغير، بل ما الذي حققه بالفعل، وماالذي يريد أن يذكر به وما الذي يريده للعالم الذي سيتركه وراءه، ويقول هافيل إنه في مواجهة هذه التساؤلات يشعر بالقلق الروحي والفكري نفسه الذي دفعه في الماضي إلي الوقوف في وجه النظام الشمولي وإلي دخول السجن، وهو ما يقوده إلي الشك العميق في قيمة عمله أو عمل من وقف إلي جانبهم أوالذين مكنهم من أن يكونوا مؤثرين. غير أن هافيل قد نبه مستمعيه ألا يستخلصوا من هذا أنه خسر معركته وأن كل ما جري كان عبثا، علي العكس «فإن عالمنا وإنسانيتنا وحضارتنا ربما تكون الآن علي أهم مفترق للطريق في التاريخ ولديها فرصة لم تتوفر لمثيلاتها في الماضي لكي تتخذ خيار العقل والسلام والعدالة، وليس الطريق المؤدي إلي الدمار، غير أن اختيار هذا الطريق يتطلب الكثير من الجهد وانكار الذات والصبر والمعرفة والنظرة الشمولية الهادئة والاستماع بعناية إلي تحذيرات الشعراء وأخذها ببالغ الجد وبأكثر مما تأخذ أصوات أصحاب البنوك والمضاريين بالأسهم غير أننا في نفس الوقت لا يجب أن نتوقع أن العالم حين يديره الشعراء سوف يتحول فجأة إلي قصيدة «ويحرص هافيل علي أن يوضح أنه إذا كان قد ارتابته الشكوك حول أدائه لمهام منصبه وتحفظاته علي الدور الذي أعطي له وعما إذاكان قد يستحقه، وبغض النظر عن قلة رضاه عما بذله، مالا أنه يدرك أن توليه منصب الرئاسة كان هبة رائعة من القدر حيث أتاحت له فرصة الاسهام في أحداث تاريخية تهون أمامها كل الفخاخ التي انطوت عليها مثل هذه الفرصة.