يبقي المسرح حقيقة تداعب كل مبدع، إن كان شاعرا أو قاصا أو روائيا. رغم أن الفارس الحكاء الراحل خيري شلبي كان روائيا كبيرا ومبدعا انحاز للمهمشين في جنبات الوطن، بل فرد جناحيه يضلل علي جميع البسطاء ويحتضنهم تحت عباءته التي اتسعت لكل هؤلاء، حينما أضاف الكثير للمكتبة العربية من حكاياته الجميلة المحملة بعذابات الآخرين، فكان يعشق الحكي أكثر من أي شيء آخر، فقدم «نعناع الجناين الشطار الأوباش فرعان من الصبار الوتد السنيورة وكالة عطية صهاريج اللؤلؤ المنحني الخطر العراوي لحس العتب صحبة العشاق رواد الكلمة والنغم» فكان وجها آخر سجل من خلاله عشقه لهؤلاء الكتّاب والشعراء والفنانين وكيف تأثر بهم في حياته الأدبية والإبداعية أيضا. فالوجه المتلألئ دائما الواضح وضوح النهار للقارئ العربي كان الوجه الروائي والذي غزي به قلوب القراء والمشاهدين من خلال المسلسلات التي قدمت علي شاشة التلفاز، ولا ينسي المتلقي مسلسل «الوتد» ومردوده الفني علي المشاهدين الذين تابعوا أحداثه بشغف وإبداعاته الكثيرة التي روت عطش القلوب الظمأة دائما للحنان والعطف، فكان الساحر الذي خلب قلوب الشعب المصري وهام بهم في دروب الوطن وحواريه ومقابره وأزقته ونجوعه وقراه ومدنه وشوارعه وأسطحه الفقيرة. فكان خيري شلبي لوحة فنية أبدعتها يده التي تذودان باللؤلؤ والحرير التي كثيرا ما جعلتنا نفرح ونمرح ونبكي ونتآسي. هنا من خلال هذه الاطلالة نحاول أن نلقي الضوء علي جانب آخر مهم وإن كان يمثل جزءا صغيرا علي خريطته الإبداعية إلا أنه مهم جدا وهو المسرح، فكانت مسرحيته «المخربشين» التي أصدرتها الهيئة العامة للكتاب من خلال سلسلة المسرح العربي مارس 1996، وللأسف افتقدنا هذه السلسلة المهمة جدا من زمن بعيد، بعد أن أثرت الحركة المسرحية بعناوين كثيرة، من أهم المحطات التي يجب أن نتوقف أمامها ونتأمل رؤيته السياسية البسيطة ومعالجته الدرامية لقضية كثيرا ما تقع فيها الشعوب، عندما تحاول أن تصنع طاغيا أيا كان موقعه، فهو يدين هذا الشكل الاجتماعي ويرفض أن نرتدي هذه العباءة الفضفاضة، كما فعلت «كريمة» بطلة المسرحية، عندما رفضت «باهر» التلميذ الفاشل ضعيف الشخصية التي صنعها بعض الأفراد العاملين بالسرقة وقطع الطرق. بعد أن قتل المجرم رئيس العصابة «القرن» بالصدفة، كما نفعل الآن مع حكامنا العرب، ونحن نراهم يسقطون في بئر السلطة الغاشمة التي لفظتهم الفرد تلو الآخر، فكانت نظرته واعية ومدركة للواقع العربي بشكل جديد وفلسفي تتواري خلفه رؤية كاتب تتغلغل بداخله حكمة الفارس الذي يقرأ ما بين السطور «الممحي» يرسل رسائله عبر هذه المسرحية ليدرك القارئ أن عمنا خيري شلبي حاول أن يطرح هذه القضية الشائكة التي تنمو وتترعرع داخل الدول الفقيرة الجاهلة عندما يستشري الظلم بين الناس وتطغي القوة المالكة للسلطة علي الضعفاء الذين يرتضون بقسوة الواقع ويستسلمون له دون مقاومة وجهاد، فعندما تريد الشعوب التخلص من الظلم تتشابك الأيادي وتقف بكل قوتها لتهدم جدار الوهم الذي ينمو بداخلهم كل يوم حتي يصيروا ضعفاء يلفهم الوهن ليصبحوا أقوياء بتضامنهم ووحدتهم ليستردوا حقهم وحريتهم التي سلبت منهم عنوة. تدور أحداث المسرحية داخل وخارج «مقهي» بلدي صغير يقع علي طريق مصر إسكندرية الزراعي، أمامه عدة أشجار يتم استغلالها لجلوس الزبائن وتقديم المشروبات، فالأحداث تتنامي وتسير في خطوط متوازية بين بعض الشخصيات التي تؤثر في تكوين الحدث المسرحي من خلال ديالوج يتشبع بمفردات الناس البسطاء الذين يترددون علي هذه الأماكن، فنجد شخصية «المنفي» مجرم عتيق، «السنبوللي» علي مشارف الخمسين قوي طيب عبيط لا يعمل العقل أبدًا، «هنداوي» شاب يتطلع لأن يكون شخصية إجرامية ولو بالكذب علي النفس وعلي الآخرين، لكنه يفشل في النهاية، «السخاوي» صاحب المقهي كل همه أن يجمع النقود بأي شكل، «توحيدة» المعلمة زوجة السخاوي، لكنها شخصية قوية تتمتع بجمال مغر ومبهر، «كريمة» ابنة السخاوي وتوحيدة صبية بارعة الجمال ذكية متطلعة، لكن علي أرض طيبة خيرة. «الأسطي فاوي» سواق عربة نقل «أبوشنب»، «سايس الجراج المجاور للمقهي»، «زبيدة»، راقصة من عوالم الأفراح إحدي ضحايا «المنفي» مقهورة مغلوبة علي أمرها، بخلاف بعض الشخصيات الثانوية الأخري. نتأمل هذا المشهد بكل ما يحمل من رمزية في كيف نصنع نحن الضعفاء الطغاة؟ كيف نحولهم من بشر مثلنا وربما أقل في أشياء كثيرة إلي جبابرة؟ كيف نغذي فيهم غريزة التسلط والاستبداد والبطش؟ كيف نحولهم إلي أساطير غامضة ثم نفزع منهم آناء الليل وأطراف النهار؟. كيف بأيدينا نعلف الوحش الضاري ليفترسنا فور أن يشب عن الطوق؟ هذا المشهد يؤكد الصراع بين «باهر» التلميذ الفاشل و«القرن» زعيم العصابة الذي يرتعد منه كل شخص في المكان، وكيف تم تتويج «باهر» هذه الشخصية الضعيفة إلي أن يصبح هو «المعلم باهر» والجميع يتمنون له الرضا ويدينون له بالطاعة والولاء حتي «المنفي» المجرم المحترف. توحيدة: ما ترد ياسي منفي.. شفته وهو بيقتل القرن؟ المنفي: ما هي المصيبة ان أنا شفته.. أيوه شفته بعيني وهو بيقتله.. يا سلام ياد.. اسم حضرتك إيه؟ باهر: خدامك باهر.. المنفي: دانا اللي خدامك يا معلم يا شجاع.. يا أشجع واحد فينا كلنا.. ياللي عملت اللي محدش يقدر يعمله. بعد أن يستقر المعلم «باهر» فوق المكانة الاجتماعية الجديدة التي توج بها نراه يرتدي فاخر ثياب المعلمين وأصابعه مزينة بالخواتم ذات الجواهر الثمينة، ويبدو مجلسه قريب الشبه بمجلس هارون الرشيد في الأساطير الشعبية، هذا الجو يجعله يزداد قوة وغطرسة من خلال اللغة العامية التي أكد عليها الكاتب الكبير خيري شلبي، وجعلها الأكثر جمالا ورونقا وهي تنبعث من أنفاس الشخصيات أثناء الحوار الذي يعبر بصدق عن روح الجو البسيط التي تدور فيه الأحداث. باهر: اقعد يا منفي. المنفي: «ويجلس علي مقربة» تشكر يا معلم. باهر: عملت إيه مع الجدع ده صاحب الفيللا اللي ع السكة الحديد؟ المنفي: معصلج قوي يا معلم.. وباين له قرايب عضمة جامدة. باهر: ليه هو إحنا حنخطفها منه؟ إحنا حنشتريها بيع وشراء بحر مالنا.. صحيح حندبله ربع التمن والباقي علي عشرين سنة زي الأصول اللي ماشية.. لكن اسمنا شاريين. تتصاعد الأحداث التي تخدم الرؤية الدرامية للفكرة الرئيسية من خلال تصاعد هرمي حتي تأتي إلي الذروة، بعد أن تكون هناك مواجهة محتدمة بين «باهر» و«المنفي» كلاهما أصبح الشر يمتلكه بقوة، بل يدفعه إلي إثبات الوجود، فالصراع بينهما أصبح أقوي من الماضي، بعد أن يعود «المنفي» متخفيا في جلباب «القرن» يبث الخوف والرعب داخل قلوب هؤلاء البسطاء السذج، فهو يحاول أن يضعف «باهر» بحيله المتعددة. باهر: «ينتبه، تعتريه حالة استبياع نزقه» كله اللي قلته ده مايهمنيش علي كل حال.. إنشاالله حتي تكون العفريت.. أنت مش حتقدر تفض الفرح ده.. ده فرحي وأنا معلم الحتة وألعب ده كله. المنفي: «يربت علي كتفه» قد القول ياد؟ باهر: «يدفع يده» وكمان مانيش واد.. أنا معلم. المنفي: تعجبني. باهر: عايز تثبت لي أنك قرن صحيح خش لي باط لباط.. من غير سلاح. المنفي: عز الطلب.. يلا وريني شطارتك. بعد أن يشتبكان تدور بينهما معركة شديدة العنف ينتصر فيها «باهر» بعد أن يأخذ من المنفي المطواة ويغرزها في بطنه مباشرة فيقع يلفظ أنفاسه.. يزداد الناس انبهارا به نسمع «توحيدة» وهي تزغرد. المدعوون في الفرح تسلم إيدك يا بطل. لكن «كريمة خطيبته» ترفض هذا العنف وتمقت شخصه مهما كان يمثل لها من مكانة في القلب ، فتذهب الي البوليس تبلغ عنه يأتون معها ليتم القبض عليه .. باهر: «يمسك يدها » يا حبيبتي أنا ... كريمة :«تسحب يدها برفق »متآخذنيش .. إنت مجرم .. والدم محني إيدك . باهر: دأنا بطل يا كريمة.. بطل . كريمة: ده في نظر نفسك بس . باهر: بقي لما تسمعي مجرد سمع إني قتلت المجرم الشهير اللي كان مهددكم ، تحبيني وتعتبريني بطل ،، ولما أقتله قدامك تعتبريني مجرم وتبلغي عني ! من خلال هذا الديالوج تطرح كريمة وجهة نظرها وهي تحلل شخصية باهر الذي أصبح طاغية .. بل مجرم كبير يقتل و يسفك الدماء .. كريمة: الأول كان زي الحلم.. زي الحواديت. القرن كان زيه زي أبو زيد الهلالي، زي الحاجات اللي بترعبنا وما نعرفش نمسكها ولا نعرف هي إيه ..زي الخوف الي من غير سبب وزي الكابوس اللي بيكتم النفس، وكان نفسي أشوف القرن اللي مقطع السمكة وديلها، ولما شفتك كان متهيألي أنك بطل عشان قتلت المجرم الجبار، لكن لما قربت منك يا حلاوة .. لقيتك مش بطل ولا حاجة.. لقيتك وحش من غير مؤاخذة مفيش عندك أسهل من تسييح الدم وقصف العمر ..وكل الناس عندك واحد .. الكويس زي الوحش.. القريب زي الغريب .. مفيش فرق ، والظالم زي المظلوم كله ماشي.. وفهمت يعني ايه معني القرن، وليه يبقي فيه قرن، وفهمت إن القرن مش بقوته ولا بجبروته . إنما بضعف الناس الغلابة اللي بتستحمله، وبخبث الأشرار اللي بيقرننوه.. وتعرف فهمت إيه كمان يا حلاوة ؟فهمت إن اللي يقتل القرن عشان يتقرنن بداله مايبقاش بطل . يتم القبض علي «باهر» الشخصية التي صنعتها الصدفة التلميذ الفاشل الذي قتل القرن صدفة أثناء ما كان يدافع عن نفسه ، فأصبح طاغية وشخصية ظالمة يتغذي علي سفك الدماء وقتل البشر وإزهاق الأرواح . فالضعف هو الآفة الكبري التي تصنع الطغاة . فكان الخطاب المسرحي يحمل دلالة واعية للواقع العربي المأزوم ، وإلي أي مدي كان الجهل والتمزق والضعف يصنع الطغاة والجبارين ، رحم الله الراحل خيري شلبي الذي أضاء لنا الطريق والسراديب المظلمة التي جعلتنا ندرك حقيقة أنفسنا لنرفض ونصرخ وتعلو صرخات الحرية يوما بعد الآخر حتي توجت بثورة 25 يناير التي كانت حصاد رؤية هذا الفارس النبيل.