يساير الفن التشكيلي التوسع الديمقراطي بل لعله قد سبقه بخطوات، فمنذ انتزاع هالة القدسية الكلاسيكية التي اقتصر فيها الفن علي تلبية احتياجات الدين، ثم الصفوة من النبلاء وانحصار ممارسته علي اشخاص مبدعين وسموا بالعبقرية كي يصبح الآن من حق الجميع ممارسة التعبير الفني دون تقيد بالمهارات الأكاديمية أو مراعاة التقاليد الموروثة. هكذا يبدو أن مصير الفن التشكيلي قد تقرر، بارتباطه بتحولات الواقع المعاصر شئنا أو أبينا. لذا توجب علينا التعمق في قراءة الواقع الحضاري أثناء إقدامنا علي بناء تصوراتنا عن الإمكانيات المستقبلية للفن المعاصر وإرهاصا بما يمكن أن يؤول إليه مستقبلا. تلك هي الحرية التي اكتسبها الفنان أو حتي فرضت عليه بحكم التحولات التاريخية ، فعندما كان الفن دينيا كان الرسام متواصلا في عمله مع البيئة الاجتماعية بأسرها، ثم صار يعمل من أجل الصفوة الاجتماعية الارستقراطية، أما اليوم فإن جمهوره انقسم إلي العديد من الجماعات الفرعية المختلفة الأذواق والنوازع. هكذا اختفي مع التنوع الديمقراطي الجمهور الموحد ولم يعد الفنان يقدم عمله إلي جمهور محدد المعالم معروف مسبقا، فانطوي علي نفسه أولا فيما عرف بالتجريد ثم اختفي أيضا أي أسلوب أو نسق قد يسعي الفنان إلي إنضاجه بالمداومة علي تجويده وتطويره عبر زمن طويل، بل أصبح أسيرا لدوعي الطرافة والتجديد وصدمة الاندهاش لغير المتوقع، وهو مبتغي الفنان الذي اكتسبه متأثرا بالتطور المبهر لتكنولوجيا هذا العصر المتسارع. كذلك يحتوي مفهوم التجديد في ما بعد الحداثة علي استعادة مجمل مكتسبات التراث البشري وإعادة صياغتها مجددا من وجهة نظر معاصرة دون الالتزام بأسلوب محدد إلا ما تمليه تلقائية الحساسية المباشرة ، وقد أفضت هذه المبالغة في التفرد إلي حالة من التشرذم والنزوات الآنية المبعثرة، حتي ما عاد المتخصص بقادر علي متابعة توالد وتشعب هذه التحولات ولا أقول المذاهب. هذا التفكك لم يصب عالم التشكيليين فقط، بل هي سمة تميز العلوم الإنسانية المعاصرة أيضا علي عكس العلوم الطبيعية، ففي الفلسفة مثلا لم نعد نلتقي إلا بشذرات ومقتطفات تأملية مبتسرة من بعد انتهاء المذاهب الموسوعية الكبري لدينا تأملات «هيدجر» و «كارل يسبرز» وفنمونولوجيا «هوسرل» ووضعية «فتجنشتين» المنطقية ثم بنيوية «ليفي شتراوس» التي انبثقت عنها التفكيكية فيما بعد، ونشاهد الأمر نفسه في مجال علم النفس، فعقب نشر مكتشفات «فرويد» في التحليل النفسي انشق عنه كل من «أدلر» و«يونج» إلي جوار تأسيس علم النفس السلوكي والوجودي والماركسي والفنمونولوجي وحتي ما اعتبر يوما أفيونا للشعوب يطرح الآن كوسيلة لعلاج الإدمان، إلي استعادة أساليب الشعوذة أو تبسيط الأمور بالاكتفاء بالسيروتونين. كل هذا التنوع الذي يصل إلي حد الصدام يطرح إلي جوار بعضه بعضا في الفن كما في هذه المعارف الإنسانية وجميع أنماط التقاليد المحلية التي تستعيد سطوتها، وعلي اعتبارات القيمة تتوزع في مساواة أفقية ديمقراطية، ما تنفك تتزايد دون مفاضلة تصاعدية بين بعضها. كان هذا أحد جانبي الصورة، أما نقيضها المعاكس، فإنه الجانب المقابل من انجازات هذا العصر وهو الإنجاز التكنولوجي ربيب العلوم الطبيعية أي ما يعتبر العولمة الحقيقية باعتبار العولمة عملية انتشار منتظم علي المستوي الكوني في جميع أرجاء المسكونة يتم خلالها توحيد جميع أنماط القياس والأداء والقولبة عبر البنية التحتية للتكنولوجيا، فمنذ انبعاث الثورة الصناعية الأولي، وحتي الثورة المعلوماتية والعالم يتجه بثبات متدرج إلي تنميط متطابق لنفس الأجهزة والأدوات ومعه تتوحد أيضا الرموز والمصطلحات والمفاهيم وهي ماضية معا في اتجاه واحد من التقدم التراكمي الرأسي المتصاعد علي وتيرة واحدة بينما يتم كل عدة سنوات تحديث شامل للمصنوعات التي تنتشر متناثرة عبر ارجاء المعمورة بينما يتم تجميع ما هو قديم منها لإعادة تدويره. هكذا يتجلي أمامنا واقعنا الثنائي التوجه، بين تشظيه وتفككه الوجداني وميله المتزايد إلي النكوص نحو الماضي، واستعادة نوازعه البدائية كي يعوض بها نضوب وخواء مشاعر الحاضر الإبداعية، وبين ما يقوم به الجانب العلمي العولمي التوجه بإذكاء جذوة الفروق والاختلافات بما له من إمكانيات استحضار النقائض من جميع الأزمنة والحضارات وبثها معا علي صعيد واحد، فكيف يمكن تقييم وضع الفن في زخم هذا الاضطراب الحضاري؟ من الواضح أنه من غير المستطاع أداء أي شيء في أي وقت، لهذا يجب أن نعاين النظريات التي تناولت كل مراحل واشكال التطور الحضاري وطبيعة تحولاتها لاستشراف وضعنا الحالي وما يمكن أن يؤول إليه شكل الفن في المستقبل القريب.