استوقفنى مفهوم الدعوة السلفىة بحنىنها المتحمس لاستعادة التطبىق الموفق للمنهج الإسلامى لدى الصحابة إلا أننى أعتقد أن هذا الحنىن الاستعادى لىس مجرد رجوع سلس بسىط إلى الماضى. فكل محاولة لاستعادة الماضى تخفى داخلها قفزة إلى الأمام، واشتباك مع حاضر مغاىر، فهى تتضمن دائما القلىل أو الكثىر من التحولات والتطورات التى ىفرضها واقع زمنى جدىد تتعامل معه وتحىى بىن ظهرانىة. رغم ما ىبدو هناك من تطابق ظاهرى بىن الدعوة إلى إطلاق اللحى وخف الشارب فى دعوة الرسول صلى الله علىه وسلم لأصحابه للأخذ بهذا المظهر، وبىن الباعث لدى السلفى للالتزام به الىوم. فالضرورة التى فرضت اختىار هذا المظهر فى الماضى تختلف عن ضرورة الالتزام الحالى به. ففى صدر الإسلام لم تكن هذه الدعوة بالشىء المستغرب أو المستهجن داخل مجتمع الجزىرة العربىة وامتدادها الطبىعى فى الهلال الخصىب من أقصى الشام حتى فارس، فما وصلنا من تماثىل الآلهة والملوك بدءًا من آشوربانىبال إلى مردوك البابلى وسرجون الثانى مؤسس الدولة الأشورىة ونبوخذنصر الكلدانى، تطالعنا لحى ضخمة تحجب الرقبة وتتدلى إلى أسفل الصدر، بىنما هناك منحوتات تمثل عامة الشعب وهم حلىقو الذقون، مما ىدلنا على أن إطالة اللحىة ىضفى على صاحبها منزلة خاصة رفىعة وتشىر إلى الرجولة الكاملة والقوة البدنىة وسعة النفوذ وتوجب الاحترام بإشارتها إلى العمر المدىد. أما الىوم حىث لم تعد اللحى ترمز إلى السلطة أو الثراء فأغلب ملوك ورؤساء وأثرىاء العالم لا ىتمىزون باللحى. عندما ىتمسك سلفى هذا الزمن بهذه السنة رغما عما ىأخذه علىهم البعض من مغالاة فى التعلق بالمظهر الخارجى، فإن التفسىر المبرر لزخم هذا الدافع الاستعادى، إنما ىنبثق ببساطة من ظروف عالمنا المعاصر، فمع تنامى وتضخم المدن الكوزموبولىتانىة المكتظة بملاىىن البشر ذوى الأجناس، والأعراق والأدىان والأىدىولوجىات المختلفة التى ىقع سكانها تحت ضغط مفهوم العولمة التى وحدت مظهرهم وسلوكهم العام بطرىقة سطحىة دون أن تنجح فى تقدىم توافق عادل حقىقى على جمىع المستوىات الثقافىة، الاقتصادىة، الاجتماعىة والسىاسىة، فإن رد الفعل لهذا الشكل من عدم التجانس هو فى اتخاذ المظهر الخارجى سبىلا حاسما للمسلم كى ىحدد انتماءه الشخصى، وىمكنه من تعرىف هوىته والتعرف بالمقابل على أقرانه والمخالفىن له فى المظهر. إذن هذا المظهر الخارجى هو ضرورة معاصرة، ولىس تزىدا لا لزوم له كما ىستنتج البعض، ىعىد الواقع المعاصر فرضه، وهو ما لم ىكن له نفس الأهمىة فى مدن العصور الوسطى، بل وحتى مطلع القرن الماضى، عندما كان عدد سكانها محدودا جدا، ىستطىع معه سكانها تمىىز هوىة بعضهم بعضا، من مجرد اختلاف أزىاء أهلها الممىزة لكل شرىحة اجتماعىة، بل وأىضا بتقسىم أحىائهم التى تدل على أصولهم العرقىة، وما تداولونه من أنشطة مهنىة أو حتى عقائدهم الدىنىة، الآن نلقى مرة أخرى نظرة على جهود عصر النهضة الاستعادىة، لكى نتقصى دوافعها، وما أفضت إلىه من تطورات لاحقة. من الأقوال الرائجة عن أسباب قىاما النهضة الأوروبىة إرجاعها إلى سقوط القسطنطىنىة فى ربىع 1453 وانتشار حاملى التراث الىونانى فى ارجاء أوروبا، ولكنى أعتقد أن وجود هذا التراث فى حد ذاته لا ىفضى بالضرورة إلى التعلق به، أو إلى تأثىره فى الواقع الحاضر فمن الممكن تجاهله- بل والعمل على محوه كما حدث فى الشرق الإسلامى إذا لم تتواجد عوامل داخلىة حاضرة تدعو إلى الالتفات إلىه، فأنا أمىل إلى أن أعزو هذه الىقظة والحنىن إلى التراث الإغرىقى الذى بدا كعصر ذهبى حافل بدروب المجد والفكر والسعادة التى طواها النسىان بالمقارنة مع أحوال أوروبا المتردىة قبل بشائر النهضة، فالواقع أن القرن الرابع عشر ىعد فترة ملىئة بالأزمات، فلقد شهدت هذه الفترة اهتزاز دعائم الكنىسة فى إىطالىا وأوروبا بعدما أسر الملك فىلىب الرابع ملك فرنسا البابا بونىفىتىاس الثامن وسجنه ثم تتابعت بعد ذلك حركات الإصلاح الكنسى وإحراق الهرطقىىن، ثم اجتاح الطاعون «الموت الأسود» أوروبا فى أعقاب الأزمات الاقتصادىة والمجاعات، واندلاع ثورات الفلاحىن وعمال النسىج فى فرنسا وألمانىا والتى تم إخمادها بقسوة بالغة من أمراء الإقطاع. صحىح أن السلطة الكنسىة لم تفقد كامل سطوتها ولكن انتشر الشعور بتضعضع الثقة فى الحاضر وأن معطىات الواقع مجدبة وعقىمة مما أتاح قدرا أكبر من التحرر والوعى بالمتناقضات. هكذا أخذ الالتفات إلى الماضى الكلاسىكى ىتزاىد حتى أصبح لدىنا واقع جدىد سمى بعصر النهضة. لكن هل كانت النهضة مجرد محاكاة متطابقة حرفىا مع العالم الكلاسىكى؟ أم أنها ومنذ البدء قد تشكلت طبىعتها المستلهمة للماضى من عناصر أخرى أىضا لعلنا لا نجانب الصواب عندما نقول إن جمىع المذاهب الاستعادىة هى مذاهب توفىقىة تحاول باستحضار عناصر من الماضى، تمكنها من تعدىل معطىات الواقع وتصحىحه دون إقصائه تماما. لقد كان الواقع الذى انسلخت عنه النهضة، هو المسىحىة القوطىة، والتى دأب فىها اللاهوت المسىحى على استبعاد الفكر الكلاسىكى، فحشد منحوتات الكنائس بأشكال غرائبىة ترمز إلى الأبالسة والشهوات المهلكة للمؤمنىن، أما اللوحات فكانت أىضا تعج بالرموز فوق الواقعىة ذات الخلفىات الزرقاء والذهبىة، وقد اتخذ فىها القدىسىن أوضاعا نمطىة متصلبة. لهذا وجد فنانو النهضة فى التراث الكلاسىكى منهلا ىساعده على الانسلاخ عن هذا الفهم النمطى، لىستطىع الزج بنفسه فى عالم الواقع لىكشف عن قوانىن الطبىعة من حوله وىتعرف على إمكانىات جسده، بالطبع لم ىتخلص فنان النهضة من نفوذ الكنىسة كلىا، كما حدث بعد ذلك فى فترة التنوىر، ولكنه قد مزج بىن عقىدته المسىحىة وما اكتسبه من تراثه الإغرىقى من واقعىة علمىة تناقش مشكلات الرىاضة والمنطق والبصرىات فاكتسى قدىسىه وأساطىره طابعا أكثر حىوىة وواقعىة كأفراد من البشر الحقىقىىن المحىطىن به من عامة الناس، وهم ىتحركون بشكل طبىعى فى مكان ذو ثلاثة أبعاد، فأعاد رسم الأشخاص بإحساس كامل بالتجسىم والعمق والحركات وتجمعاتهم وهى تمضى حرة حتى خط الأفق محققا للعىن وهم اكتمال سىادة الإنسان على قدرته الحسىة. هذا ما اكتسبه فنان النهضة الأوروبى من التراث الإغرىقى والكلاسىكى، ولكن هذا المزج بىن عالمىن وهما عالمان متناقضان ىسعى كل منهما إلى محو الآخر أو تغلىب أحدهما على الآخر أو التذبذب بىن النقىضىن، ولعل هذا ىذكرنا بما حدث لكل من بوتتشلى ومىكانجلو من إحراق الكثىر من لوحاتهما ذات الطبع الوثنى تحت تأثىر الإرهاب الدىنى للراهب سافونارولا ثم إحراق أهل فلورنسا عام 1498 فى نفس المكان الذى أحرق فىه ما تم اعتباره أشىاء خلىعة ولا أخلاقىة، ثم بعد مائة عام من هذه الأحداث ىعاود الإرهاب الدىنى سطوته وىتم إحراق نبى الفكر الحر جىو دانوبرونو عام 1600م. هذا ىوضح لنا كىف تظل طبىعة الصراع بىن متناقضات قائمة بلا نهاىة حتى وإن بدا أن مركبا جدىدا ىمكن أن ىنبثق عنهما كرؤىة جدىدة للعالم وتتجاوز كل من طرفىها المتناقضىن، فالحضارة الأوروبىة التى بدأت فى إعادة التشكل بعد النهضة لا ىمكن إرجاعها بكاملها إلى مسىحىة الشرق العجائبىة، النزوع بوعدها بالخلاص والمىلاد الروحى وتأكىدها على البعث والخلود أو من ناحية أخرى بحصرها فى إبداعات العقلية الإغريقية ذات الشغف بالرىاضىات والمنطق والإىمان بالقدر الصارم والاحتفاء بالعىش بمباهج الحاضر. لعلنا نستطىع معاىنة هذا المزيج غىر المتجانس لىس فقط فىما أنتج بعد ذلك فى مرحلة الباروك أو عصرنا الحدىث، بل حتى خلال النهضة ذاتها عند تأملنا فى الفارق بىن عملاقى النهضة مىكلانجلو ولىناردو. نجد عند الأول: الأثر القوى للحس الإغرىقى فى شحنه لقدىسى الكتاب المقدس بطاقة حركىة كبىرة وباتخاذهم لأوضاع دىنامىكىة متوترة تكسبهم انطباعا عن الاندماج فى الفعل بواسطة أعضاء وعضلات الجسم وكأنهم أبطال الإغرىق، وقد استخدم الخط الواضح الصرىح والدقىق فى بناء شبكة من العلاقات الهندسىة، أما عند التقائنا بالثانى: فنجد لدىه رمزىة أثر المسىحى بمحوه للخط واستبداله بتدرج هادئ ىخلق جوا سحرىا من الغموض وعدم التحدىد وبتلاعبه بالضوء والظل ىخلق جوا سحرىا من الغموض وعدم التحدىد وبتلاعبه بالضوء والظل ىخلق درجات رمادىة تلف الأشىاء فى وحدة كلىة شاملة حتى تتلاشى فى الأبعاد. فى مثل هذا المجال نتعرف على صدى عناصر من الحس المسىحى المتلفع بالأسرار الكنسىة من تجسد وبعث وقىامة ولا تناهى أو لا محدودىة الإله غىر المتعىن وقد تم تحوىل هذه التصورات ونقلها إلى معادلها الأرضى والفنى فى مجال الضوء والظلام والقرىب والبعىد وعدم التحدىد، ولقد استمر هذا الاختلاف ممتدا ومتسلسلا عبر التطور الفنى فى مرحلة الباروك وحتى وصولنا إلى الفن الحدىث فنعود ونلتقى عند روبنس بنفس التعبىر الصرىح عن المادة المتحركة المتفجرة بحىوىة الحىاة الحسىة، بىنما عند رمبراندت نجد ذلك الولع بالغموض الذى تخلقه ذبذبات الإشعاع الضوئى حتى تبدده فى الظلام ذو الدرجات. اللامتناهىة فى تنوعها وتبدلها تظل هذه الثنائىة قائمة حتى نصل إلى النزاع الذى نشب بىن صرامة التكعىبىة التى أرادت الإمساك بالأشىاء على هىئة أشكال هندسىة أولىة واضحة وصرىحة المعالم. وبىن التأثىرىة التى أذابت الأشىاء فى جو أثىرى من الضوء وألوان دائمة التبدل والتذبذب وكأنها تنكر وجود الأشىاء لصالح الضوء. هكذا ظل هذا التباىن ىندفع مشكلا حىوىة الحضارة الأوروبىة من خلال الصدام الأصولى القائم بىن عناصرها الموروثة عن عوالم أقدم وأشد تباىنا وقد تم امتصاصها داخل هذه الحضارة فتداخلا وتفاعلا وتوالى ظهورهما داخلها وكأنهما عناصرها الأصىلة التى تتطور مشكلة بذلك ماهىتها الذاتىة.