لم يكن غريبا أن تحصل حركة "النهضة" الإسلامية في تونس علي أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، في أول انتخابات حرة تشهدها الدولة التونسية بعد هروب رئيسها، زين العابدين بن علي في يناير الماضي. زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، صرح في أكثر من مناسبة، أنه وحركته مستمران في الثورة حتي تتحقق أهدافها لبناء تونس "حر، مستقل، متطور"، حيث حقوق الله، ورسوله، والنساء، والرجال، والمتدينين، وغير المتدينين. كلام الغنوشي يضعه وحزبه لا شك في اختبار صعب. فبوصول الإسلام السياسي ممثلاً ب"النهضة" إلي السلطة في تونس، ربما جعل الأضواء تتركز أكثر وأكثر علي منهج الحركة في بناء الوطن الذي وعدوا به قبل انتخابات المجلس التأسيسي. ليبيا أيضا علي موعد مع انجراف "محتمل" نحو الحكم الإسلامي، بعد سقوط نظام القذافي بالكامل، سواء بمقتله، أو بالقضاء علي دابر أتباعه، خصوصا بعد إعلان رئيس مجلسها الوطني الانتقالي، مصطفي عبدالجليل، عن تبني الشريعة الإسلامية. وللتذكرة فقط، فإن القذافي نفسه، وفي الأيام الأولي للثورة في ليبيا، حذر من سقوط بلده في يد تنظيم القاعدة. ربما كان متطرفا في تصريحه، بإقحام "القاعدة" كفزاعة لإخافة الشعب، وربما هوّل من شأن جماعة إسلامية منظمة "إمارة" تسعي لمكان تحت شمس ليبيا. في مصر، يمكن الحديث الآن وبجرأة ربما تكون فريدة من نوعها في التاريخ الحديث عن إمكانية وصول جماعة "الإخوان المسلمين"، المحظورة في عهود رؤساء مصر السابقين، إلي السلطة، بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، والتي تبدأ مراحلها الأولي يوم 28 نوفمبر الجاري. كل يغني علي ثورته الربيع العربي إذن أمام تهمة "محتملة" بأنه ربيع أتي بالإسلاميين إلي سدة الحكم في البلاد التي شهدت الثورات. بعض المتشائمين يرون أن ربيع الإسلاميين هذا سيعيد الأنظمة الاستبدادية مرة أخري، ولكن بغطاء إسلامي، بدلا من غطاء قومي وطني ليبرالي كان مأمولا في مهد الثورات. أما المتفائلون فيرون أن المؤشرات حتي الآن، بتصريحات الغنوشي وبديع ورفاقه في مصر، تشير إلي أن حركات الإسلام السياسي في بلاد الثورات العربية شهدت تغييرات جذرية في المفاهيم والأطروحات، حيث أعلن قادتها التزامهم بالنظام الديمقراطي والتعددية الفكرية واحترام حقوق الإنسان. البوق الإعلامي للمخلوع مبارك، أكد قبل ثورة يناير، أن مصر ليست تونس، وقال الراحل القذافي إن ليبيا ليست مصر وتونس. هي بالفعل كذلك، فمن المبكر الحكم علي تجربة الإسلاميين في السلطة، لأن تجربة كل قطر عربي بالتأكيد تختلف عن الآخر في كيفية التعامل مع الخصوم. في تونس مثلاً هناك توافق بين إسلاميي النهضة، والأحزاب العلمانية، التي جاءت ثانيا بعدها من حيث عدد المقاعد، علي مدة المجلس التأسيسي التي ستكون عاماً واحداً، وعلي تشكيل حكومة وحدة وطنية، بل إن قيادات النهضة خرجوا ليصرحوا بأن منع الخمر غير وارد، وأن المرأة مسموح لها كالمعتاد لبس ملابس السباحة، كما بينوا أن دستور تونس سوف يكرس التعددية وسيادة القانون ولن يسمح بالعودة إلي الديكتاتورية. أما في ليبيا فالوضع لايزال مبكرا للحديث عن ملامح سلطة إسلامية، وفي مصر فيبدو الوضع مختلفا تماما. فلاشك أن ما يجمع جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، أكثر مما يفرق. فالمرجعية واحدة، ولكن التطبيق يختلف. غاية الوصول إلي الحكم واحدة، ولكن طرق الوصول متباينة جدًا. الإخوان اتبعوا رسائل الإمام البنا، مؤسس الجماعة، وهو رجل سياسة داهية قبل أن يكون رجل دين، أما السلفيون فيخلطون ما بين مناهج السلف الأوائل، وما بين منهج إمام الوهابية السعودي، محمد بن عبدالوهاب. السيطرة علي النقابات نموذجا رأي الإمام البنا أن طريق الوصول إلي الحكم، يمر بمراحل محددة، أهمها محاولة السيطرة علي الشارع المصري، وعلي الجامعات والنقابات والأندية بكل أشكالها، ثم السيطرة علي البرلمان. بعد الحظر الشديد في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بدأ الصعود في السبعينات، بعد أن قرر الرئيس الراحل أنور السادات ضرب فلول الناصريين والشيوعيين بهم، لكن السحر انقلب علي الساحر، ولن أخوض في ذلك لخوض غيري فيه بعمق. كتاب مهم للدكتور عبدالرحيم علي، اسمه " الإخوان المسلمون , أزمة تيار التجديد"، كانت طبعته الأولي صادرة من مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، عام 2004، يحكي فيه قصة صعود التيار الإسلامي داخل النقابات الفنية، رأينا أن نستقي منه المعلومات الآتية. في الثمانينات سيطر الإسلاميون علي اتحادات طلاب الكليات الكبري وأندية أعضاء هيئة التدريس بها، محققين هزيمة لليساريين والموالين للحكومة، وقرر قيادات الإخوان المسلمون في أواسط الثمانينات أن يقوموا بحملات انتخابية في أبرز النقابات ليفوزوا بالتأييد الذي زرعوه في نفوس طلبة الجامعات، ففي عام 1984 دخل "التيار الإسلامي" الموالي للإخوان المسلمين انتخابات نقابة الأطباء كجبهة منظمة لأول مرة وفي خلال خمس سنوات تمكن التيار الإسلامي أو "الصوت الإسلامي"، من تحقيق انتصارات انتخابية متوالية وفرض سيطرته علي المجالس التنفيذية في نقابات أطباء الأسنان والعلميين والزراعيين والصيادلة وكذا في انتخابات التجاريين والمحامين، مع تحقيق وجود قوي في غيرها من النقابات. في انتخابات 1984 فاز التيار الإسلامي بسبعة من مقاعد المجلس التنفيذي لنقابة الأطباء البالغ عددها 25 مقعداً، ولم يستطع الفوز إلا ب 50% فقط من الأصوات في 1986، ارتفع نصيب التيار الإسلامي إلي 63% في 1988، ووصل إلي 70% في 1990، حيث فاز بجميع المقاعد. باختصار فإن التيار الإسلامي نجح في السيطرة علي المجلس التنفيذي لنقابة الأطباء بفوزه في أربعة انتخابات متتالية وبنسب متزايدة، قبل تطبيق القانون 100 "الصوت الإسلامي" حقق نصرًا متزايداً في نقابة المهندسين، التي تعتبر من حيث الحجم ضعف نقابة الأطباء، وهي مقسمة إلي سبع شعب. قبل دخول التيار الإسلامي في نقابة المهندسين تنقلت السلطة فيها بين تحالفات تمثل تجمعات مثل مهندسي الري والمدنيين "خاصة في عهد عبدالناصر"، ومهندسي شركة المقاولين العرب، الذين برزوا في فترة الانفتاح، ومهندسي الجيش الذين ظلوا جبهة انتخابية قوية طوال الثمانينات. ومن عام 1979 حتي 1991 كان عثمان أحمد عثمان رئيس مجلس إدارة المقاولين العرب ورجل الصناعة الأول في مصر، يستغل منصبه علي رأس النقابة ليحولها إلي إمبراطورية صناعية ومالية تمتلك أغلب الأسهم في ست عشرة مؤسسة صناعية وبنكية في مجال التأمين والإسكان والغذاء. وقد تكون الصلات الحميمة التي ربطت عثمان أحمد عثمان مع الإخوان المسلمين منذ عهد بعيد هي السبب في تفسير استعداده للسماح للتيار الإسلامي بدخول النقابة في عام 1985 وتعرقل التعاون الضمني بين عثمان والتيار الإسلامي عندما حاصرت الضغوط عثمان وحلفاءه في المجلس وسط ادعاءات بالمخالفات المالية وإساءة استخدام أموال النقابة. وفي عام 1990 كان التيار الإسلامي القوي قد نأي بنفسه عن عثمان، وفي الجمعية العمومية لشهر مارس قادوا المطالبة بتكوين لجنة تقصي الحقائق للتحقيق في الخسائر التي حققتها الشركات التي تمتلك النقابة فيها جزءا كبيراً. ومن الغريب أنه مع أن التيار الإسلامي قد ثبت أقدامه في النقابة بتأييد من عثمان إلا أنهم استفادوا تماماً من كبوته بأن وضعوا أنفسهم "بنظافة أيديهم" إلي جانب المخالفات التي اقترنت بعهده وبمعني آخر فإن التيار الإسلامي مع موقفه الثابت ضد الحكومة نجده في واقع الأمر يتحالف مع جبهات حكومية عند توافر المصلحة في هذا ثم يتحدي هذه الجبهات عند تغير الظروف. إلي أن انتهي الحال في انتخابات 1991 بفوز التيار الإسلامي بجميع المقاعد في الشعب السبع بمعدلات تصل إلي "5 إلي1" لأقرب منافسيهم. مكاسب التيار تلك أدت بحكم العادة إلي تكوين جبهات سياسية مضادة تضم المرشحين العلمانيين واليساريين والليبراليين، وفي بعض الحالات انضم إليهم مرشحو الحكومة، للحد من سيطرة التيار الإسلامي علي تلك المؤسسات، فظهرت مثلا "قائمة مهندسي الجيش في نقابة المهندسين"، أو "قائمة قصر العيني في نقابة الأطباء"، وكان يرأس هذه القوائم وزير ذو نفوذ. الأمر برمته تحول في التسعينات والعشر سنوات الأخيرة إلي محاولات مستميتة من السلطة لطرد التيار الإسلامي من النقابات، لكنهم عادوا بعد ثورة يناير للظهور ولعملية الاجتياح. التيار الإسلامي في الجامعة في الجامعات يبدو الأمر متشابها. التيار الإسلامي في السبعينات بدأ وبمساعدة الأمن في قمع طلاب اليسار، والتضييق عليهم في انتخابات اتحادات الطلاب. الأمر تحول في نهاية السبعينات، حيث فرض نظام السادات قيدا كبيرا علي الحركات الطلابية التي كان قد هيمن عليها التيار الإسلامي، فيما عرفت بلائحة 1979، وتم منع الطلاب المنتمين للتيار الإسلامي وكذا المعارضين والمنتمين للأحزاب والقوي السياسية المعارضة من المشاركة في العمل الطلابي، ما أدي إلي أن شهدت الحركة الطلابية تراجعا غير عادي علي مستوي الحريات في كل الجامعات المصرية، واستبدل النظام مبدأ تعيين الطلاب الموالين له علي مبدأ الانتخاب. الدولة المصرية في السنين الأخيرة من عهد مبارك مارست قمعا شديدا وتدخلت أمنيا بشطب وفصل طلاب التيار الإسلامي الذي ظل مهيمنا علي النشاط الطلابي طوال عقدي السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات. في العام الذي وصل فيه 88 إخوانيا إلي مقاعد مجلس الشعب، كانت الجامعات المصرية تستعد أيضا لرجوع طلاب التيار الإسلامي إلي سابق عهدهم. لكن يبدو أن الدولة تنبهت إلي هذا الخطر، فمارست أشد أنواع القمع ضد طلاب التيار، عملا بمبدأ لا تلدغ سلطة من تيار مرتين. في العام 2005، شهدت كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، شطب حوالي 36 طالبا من التيار الإسلامي، وفي كلية طب القصر العيني تم شطب 23 طالبا، وفي كلية التجارة تم شطب 47 من المستقلين ومرشحي التيار، وفي كلية العلاج الطبيعي قامت الكلية بشطب 23 من مرشحي التيار، ووصل الحد إلي استبعاد 605 مرشحين من جامعة المنيا، 588 منهم بحجة عدم ممارسة أنشطة طلابية، و17 لتوقيع عقوبات سابقة من قبل الادارة.