منذ بضع سنين كنتُ أنتظر قدوم ساعي البريد حاملاً إلي خطاباتٍ من أصدقاء لي كثيرين ينتشرون في ربوع مصر المحروسة ومحافظاتها.كنتُ أمشي إليه مهرولا..منتزعاً الخطاب من يده مُسرعاً في فضِّ مظروفه مُخرِجاً ما به من أوراق آخذاً في قراءتها.بعد ذلك كنتُ أقوم بكتابة خطاب يحمل الرد علي الخطاب الذي تسلمته منذ لحظات..كنتُ أكتب الخطاب ثم أضعه في مظروفه ثم نذهب معاً إلي مكتب البريد ثم أشتري طابع بريد (كان الطابع يومها يكلف خمسة عشر قرشاً علي ما أذكر)..ثم أبلله بلساني ثم أقوم بلصقه علي المظروف..ثم أقف بصحبته لدقائق أقلّبه بين يدي قبل أن ألقي عليه نظرة الوداع الأخيرة وأنا أُلوّح له بيدي التي تُسْقطه في صندوق البريد داعياً الله له بضمان الوصول إلي الطرف الآخر.ربما كانت هذه الطقوس شاقة بعض الشيء..وربما كانت مكلفةً في بعض الأحيان (حين يكون الخطاب مُسَجَّلاً..أو بعِلْمِ الوصول)..لكنها كانت طقوساً مفرحة ومبهجة بالنسبة لي..مثلما كان ساعي البريد هو الشخص الذي يزف إلي الفرحة من خلال ما يقوم بتوصيله من خطابات كنت أقضي ليالي وأنا أحلم بوصولها إلي..دون الخوض في تفاصيل الخطابات التي كانت تحمل مطبوعات من مصر ومن خارجها..أو تلك الخطابات التي تجيء برائحة الدولارات الخضراء من دول الخليج العربي..مكافأة علي نشر عمل إبداعي ما. دور فعال كان ساعي البريد في ذلك الوقت يمثل دوراً مهما وعنصراً فعالاً في محيط المجتمع الذي يتحرك فيه ويطوف علي منازله مرة راكباً دراجته ومرة ممتطياً قدميه موزعاً ما لديه من خطابات تحمل بعضها البشري ويحمل غير ذلك بعضها.بالطبع كان هنالك من كان يجود علي هذا الساعي بما قسمه الله حينما يشعر أن الخطاب يحمل خبراً ساراً أو بشري ما..وبهذا كانت حياة الساعي تسير علي هذه الوتيرة مُرتِّباً حياته علي راتبه الحكومي إضافة إلي ما يجيئه من جيوب الزبائن بكل رضي.هذا وما كان هنالك من أحد ليتوقع أن يظهر علي سطح الكون أو في باطنه اختراع أو ابتكار ما في يوم ما يكون نتيجة له قطْع رزق ساعي البريد وتحجيم دوره وتحويله من عاملٍ كنحلةٍ إلي عاطلٍ إلا قليلا! الآن..وبعد أن جثم جبل الإنترنت علي صدور العالمين..لم تعد حياة سعاة البريد كما كانت عليه في الماضي إذ استغني عدد كبير ممن كانوا يستخدمون الرسائل كوسيلة اتصال وتواصل ويتبادلونها فيما بينهم عنها وتحولت خطوط الاتصال إلي مدار البريد الإلكتروني عوضاً عن البريد الأرضي.ليس هذا وحسب.. فالتواصل عبر شبكة الإنترنت أضحي سهلاً ولا يحتاج إلي أقلام وأوراق ومظاريف وذهابٍ إلي مقر مكتب البريد وشراء طابع بريد ثم القيام ببلّه ثم لصقه علي المظروف ثم إيداعه في صندوق البريد أو إعطائه لموظف البريد..ثم يتبع ذلك قلق وخوف من عدم وصول الخطاب إلي المُرسَل إليه..وقتها كان ثمة تساؤل :هل سيصل الخطاب أم سيضل الطريق؟ تنميق عبارات في هذه الآونة..بات انتظار ساعي البريد موضة قديمة لم يعد لها محل من الإعراب..إذ يمكن لأي شخص أن يبعث برسالته ضامناً وصولها إلي صاحبها ومتأكداً من هذا ثم يأتيه الرد في اللحظة ذاتها عن طريق الياهو ماسنجر أو برامج الشات الأخري وحجرات الدردشة وصفحات الفيس بوك وغيرها.كذلك بات التواصل والاتصال عبر الإنترنت سهلاً إلي أقصي درجات السهولة عن طريق استخدام لغة هي أقرب إلي الرموز من المفردات المتعارف عليها والتي اعتاد عليها كاتبو الرسائل الورقية منذ أزمنة شتي..الآن أصبح حرف يدلل علي كلمة وأصبحت حروف تغني عن جملة بأكملها كما حدث تزاوج بين الحروف والأرقام.. وهكذا لم يعد التواصل عبر أثير الإنترنت يحتاج إلي ضبط لغة أو تنميق عبارات..فكل يجلس إلي شاشة حاسبه الآلي علي طبيعته مرتدياً بيچامته أو جلبابه الفضفاض أو حتي متحرراً مما يضايقه من ملابس وإن كان في عز الشتاء..ويقول ما يعنُّ له في الحال دون إعداد أو ترتيب. اختراع عبقري وهكذا وبعد ميلاد الإنترنت لم يعد ثمة داعٍ إلي التواصل الورقي الذي لم يعد ثمة وقت لممارسته أو تفعيله..ولم تعد طقوسه مناسبة للعصر بكل مفرداته..وبالتالي لم يعد هناك دور ليقوم به ساعي البريد الذي وجب عليه الآن أن يبحث عن مجال آخر ليعمل فيه بدلاً من هذا المجال الذي ضربه الإنترنت في مقتل.يبدو أن ما يخترعه الإنسان يفيد في ناحية ويضر في نواحٍ أُخَر.والسؤال الذي ربما لا نجهد أنفسنا في البحث عن إجابة له الآن هو:هل فكَّر من اختارته السماء ليولد الإنترنت علي يديه في آلاف إن لم تكن ملايين سُعاة البريد الذين سيقف حالهم وستنقطع أرزاقهم جراء هذا الاختراع العبقري بحق؟ هل فكر فيهم لحظتها أم فكر ووجد أن سعاة البريد عليهم أن يضحوا بدخولهم وربما بعملهم من أجل إسعاد الآخرين الذين سيمارسون حياتهم جميعها تقريباً من خلال هذا الإنترنت..قائلاً فداءً للبشرية هذه الثلة من هؤلاء السعاة؟ حقيقة..يحيا الإنترنت وكل العزاء لسعاة البريد.