1 بعدما انصرفوا آخر الليل لم يتركنا سليمان الشاعر إلا أمام الفندق, كان قال إن استخدام الحمير في هذا العمل أمر شائع, وهو اختاره بدلا من الدراجة لأنه يتيح ليديه أن تكونا خاليتين. يستطيع أن يخرج الكشكول والقلم ويكتب ما شاء, مطمئنا أن الحمار سيقوده من قرية إلي آخري, لأن الحمير التي تعمل في هذه المهنة تعرف طريقها جيدا, ولا تخطئ أبدا. 2 حقيبة الطواف, تلك التي يضعها علي ظهر حمار أو يثبتها في مقود الدراجة, هي مكتب بريد متنقل. إنها تحتوي علي بريد القري التي سوف تمر عليها في حالتي كانت خمس عشرة قرية, دفتر كبير لتسليم الخطابات المسجلة الواردة إليها, دفتر آخر لتسلم الخطابات المسجلة الصادرة منها, بالحقيبة أيضا ختامة, وختم له يد خشبية طويلة ناعمة, رأسه المعدني مستدير ومسطح, ويكون عليك أن تجذب من جانب هذا الرأس مسمارا رفيعا لكي تتحرر الحلقة التي تحمل تواريخ الأيام والشهور والسنوات وتضبطها علي تاريخ اليوم وأنت تحركها إلي الخلف وإلي الأمام, بحيث يصبح بارزا في منتصف الختم, بعد ذلك تدفع المسمار في ثقبه ليثبت هذه الحلقة في مكانها حتي لا يتوه التاريخ أو يختلط, أما بقية رأس الختم المسطحة فمساحتها لا تتحرك من مكانها, تحمل جملة بريد المحلة الكبري في حروف بارزة. 3 عندما تدخل القرية سوف يسألك بعض من يراك من القرويين إن كان معك خطاب لفلان أو فلان, تستمر في طريقك حتي يتوقف بك الحمار, أو توقف أنت الدراجة, عند صندوق البريد الحديدي الصغير المعلق علي جدار خارجي في دوار العمدة غالبا, تخرج خطابات القرية إن كانت هناك خطابات, هناك قروي معلوم سوف يتسلمها منك, معك مفتاح واحد لكل الصناديق, عندما تفتح الصندوق تجد في غطائه ختما بارزا في حجم نصف اصبع يحمل اسم القرية, تضغط عليه بالختامة وتعيدها إلي الحقيبة, وتمسك الكشف الذي يحمل أسماء القري الخمس عشرة وتضغطه علي هذا الأصبع لتطبع اسم القرية أمام الخانة الخاصة بها, عندما تعود بهذا الكشف إلي المكتب تثبت أنك لم تترك قرية واحدة لم تمر عليها, في أرضية هذا الصندوق المتربة تعثر علي خطابين أو ثلاثة أو أكثر, أو لا تعثر, في طرف كل خطاب تجد أن المرسل ترك لك قرشا مثقوبا ملضوما من ثقبه بخيط رفيع في طرف هذا المظروف, إنه ثمن طابع البريد الذي يثق القروي أنك ستلصقه له بديلا عن هذا القرش المثقوب. 4 كانت القري الخمس عشرة تبدأ من حدود المدينة وتنتهي إليها, رحلة روعي فيها أن تكون دائرية, في يومي الأول لم يتركني سليمان الشاعر وجدي, أعد لي خطابات كل قرية وراء الأخري, واطمأن علي وجود الدفاتر والختامة وضبط لي تاريخ الختم الكبير وطوي الكشف الذي سأختمه في كل قرية ووضعه في جيبي اطمأن علي وجود مفتاح الصناديق واتجه معي إلي بداية الطريق, وعندما توقفنا استندت بساقي إلي الأرض ورفعت وجهي إليه, وهو تطلع إلي بوجهه الذي لا تغيب ابتسامته ومد ذراعه إلي الطريق الممتد بين الحقول وقال: علي طول تلاقي نفسك في بلقينا, ومن بلقينا لا توجد مشكلة. 5 ما إن تقدمت قليلا حتي شعرت بالهواء يحمل رذاذا خفيفا إلي وجهي كنت عرفت أننا لا نقوم بعملنا إذ ما أمطرت, هكذا استدرت وعدت إلي المكتب, تركت الدراجة بالخارج وحملت الحقيبة ودخلت, كان الأستاذ فؤاد مدير المكتب يجلس كما هو يقلب الأوراق في صمت, وهو رفع وجهه إلي وقال: خير؟ قلت: أبدا الدنيا بتمطر, طلب مني أن أجلس, ثم أشار إلي وديع الذي كان يمسك بالبراد أن يصب لي كوبا من الشاي, وانشغل في عمله. 6 عندما انتهيت من شرب الشاي ترك ما في يده وتطلع إلي وقال: شوف يا ابني, العمل اللي أنت بتقوم بيه ده, عبارة عن رسالة, رسالة إنسانية ومهمة جدا, فكر في الناس اللي بتتمني وصولك, ومال بوجهه ناحية الباب وقال: تفضل. وأنا حملت حقيبتي وخرجت. وللكلام غالبا بقية