«25 يناير.. هذه الثورة تمثل عملية رائدة بالنسبة للعالم كله والجميل فيها أن الشباب هو الذي قام بها بينما نجد العواجيز مازالوا في أماكنهم .. ولاشك أنها ستغير وجه مصر». تلك كانت آخر كلمات قالها لنا الفنان الكبير حامد عويس رائد الواقعية الاجتماعية في الإبداع المصري المعاصر، كان ذلك بمنزله بشارع جرين بمحرم بك حين التقينا به منذ ثلاثة أشهر من أجل إجراء حديث شامل معه لمجلة "الخيال" للفنون البصرية نشر بعددها الصادر في شهر نوفمبر.. وكان معي زميلي الفنان أيمن هلال. وكان معنا أيضا: أصدقاؤه وأحباؤه من أبناء الوطن من العمال والفلاحين يتحلقون حولنا يفترشون الحوائط في رسوم ملونة وأخري بالأبيض والأسود .. مع تلك النقوش التي تألقت بلمسته .. لمسة عويس والتي أبدعها بفرشاته كخلفية علي الجدران تتألق باللون وسحر التشكيل.. وأشبه بشهاب توهج جاء حديثه في تجليات وإشراقات نقتطف بعضا منه هنا . يقول عويس : كانت الدنيا غير الدنيا والحياة أبسط بكثير مما نعيشه الآن وكان الريف كما ولدته أمه في تلك القرية الصغيرة قرية "كفر منصور" من ضواحي بني سويف .. في هذا المناخ المفتوح علي النور والظلمة والخضرة والجفاف وقسوة الحياة وحنوها في مواسم الجني والحصاد وتلك المشاهد التي تمتد بالألوان التي تتألق في الطبيعة تتغير من حالة الي حالة مابين الشروق والغروب ودراما الاصوات الجهيرة المسموعة .. والانغام تنساب من الناي مع اغاني الرعاة والمداحين .. جئت الي الدنيا في الثامن من مارس من عام 1919 . ومن البداية هفت نفسي الي التشكيل فترة الطفولة .. كنت اخرج الي شاطيء الترعة وبدلا من الاستذكار كنت استبدل الحروف والكلمات بعمل عرائس من الطين وخيول وطيور وأطفال. وفي المدرسة الثانوية .. جاء اهتمام مدرس الرسم واحتفاؤه برسومي وتشجيعه لي الي حد أن كلفني بتزيين حوائط المدرسة من خلال تلك الرسوم التي كانت تضمها كراسة الرسم . ومن حسن حظي في ذلك الوقت ان جاء مدرس جديد للتربية الفنية " الأستاذ نسيم مجلي" خريج مدرسة الفنون الجميلة العليا.. في هذا الوقت لم أكن اعرف شيئا عن تلك المدرسة .. وتوطدت علاقتي بأستاذي وبدأت ميولي تتأكد خاصة وكان يحدثني كثيرا عن طبيعة الدراسة بالمدرسة كما كان يجعلني أرسم معه في حجرة التربية الفنية وأطّلع علي كتب الفن .. وفي أحد الأيام حضر مفتش الرسم الاستاذ عناية الله ابراهيم وفي اعتزاز راح الاستاذ نسيم يطلعه علي رسومي فما كان منه الا ان أبدي اعجابه واهتمامه الشديد بها بل ونصحني بالالتحاق بالفنون الجميلة بالقاهرة ..وفي ذلك الوقت كنت أتردد علي سينما بني سويف وتعلقت بابطال السينما الصامتة من افلام رعاة البقر خاصة النجم جاري كوبر .. وكنت اجمع اعلانات الدعاية وانقل ماتضمه من رسوم مع الرسوم الملونة التي كان يحفل بها كتاب اللغة الانجليزية. ومازال حامد عويس يتذكر: بعد حصولي علي التوجيهية في شارع اسماعيل محمد بالزمالك وداخل فيللا امينة البارودي " مقر مدرسة الفنون الجميلة خطف قلبي واستولت علي الدهشة حين طالعت تلك التماثيل التي تقف في فناء المدرسة محفوفة بالخضرة الظلية وقد بهرني تمثال افروديت هذه الحسناء التي تقف بذراعين مقطوعين وكم كنت أتمني في ذلك الوقت أن أكمل مانقص منها واجتزت امتحان القدرات وبعد عدة أيام .. هناك بمدرسة الفنون الجميلة وجدت اسمي معلقا بكشف الناجحين مع 14 من الطلبة ..وبدأت حياة جديدة. في القاهرة سكنت بمنطقة شبرا الخيمة وكان هذا انتقالا اخر في الزمان والمكان ..خاصة وهي منطقة صناعية مزدحمة بالعمال في هذا الوقت من بداية اربعينات من القرن الماضي ..لم تكن هناك كتب للفن مثلما نحن الآن .. ولكن كانت هناك كتب عديدة في السياسة واخترت قسم التصوير لحبي الشديد للون . ولابد أن أسجل اعتزازي باثنين من أساتذتي: الرائد احمد صبري والفنان حسين بيكار وكان معيدا علينا في ذلك الوقت. كان أحمد صبري حازما حاسما في التدريس .. كان حادا شديد الحدة ولكن معلما بحق . كان عميق الرؤية وقد أثر في تأثيراعقلانيا كبيرا بل وميتافيزيقيا ايضا .. اما بيكار فكنت أحب أن ارسم كما يرسم وألون بمثل ماكان يلون .. وكان معي في قسم التصوير : يوسف رأفت، داوود عزيز، كمال النحاس، ادوارد مهني ومحمد نبيه عثمان. ويتخرج فناننا عام 1944 في الفنون الجميلة .. وفي عام 1952 يسافر حامد عويس في رحلة الي ايطاليا لزيارة بينالي فينيسيا وهناك يمتليء بالواقعية الايطالية ويوطد الحوار مع اعمال فنانيها العظام امثال جوتوزو. ومع لوحات عويس التي تجسد صورا من الحياة الاجتماعية .. تظل لوحته "وردية ليل- متحف الفن الحديث- 1953 " صورة تجسد انحياز الفن للطبقة العاملة . يقول عويس : كان العمال بالنسبة لي كل شيء .. لم يكونوا مجرد موضوعات للرسم بل كانو يمثلون عمق الحياة الاجتماعية .. واذكر انني كنت في زيارة لصديق بكفر الدوار وهناك مصنع نسيج البيضا الشهير.. وعلي بوابة المصنع رأيت العمال وأمام المصنع تطل ترعة وكوبري .. كان العمال يعبرون الكوبري وفي هذه اللحظة رسمت العديد من الاسكتشات .. وكانت هذه اللوحة . في عام 1958 يعمل مدرسا بكلية الفنون الجميلة بالاسكندية في العام التالي لافتتاحها .. وتتأكد أواصل الصداقة بينه وبين فنان الاسكندرية الرائد محمود سعيد وينساب بينهما الحوار ولا ينقطع الحديث حول سحر الفن . يقول: أقرب أعمال محمود سعيد الي قلبي لوحات السمك والصيادين ..اما الفارق بيننا في الابداع: أنا اهتم بشيء آراه مهما جدا .. اهتم بقيمة الانسان وعمله .. يهمني المضمون بشكل اساسي .. اما محمود سعيد فيهتم بقيمة الانسان في حياته .. في جماله .. في طلعته كانسان. في اعمال محمود سعيد نوع من الجمال والطرافة .. هو يجعل الناس مبتهجين وسعداء اما انا فتجد عندي " حتة مأساوية ". ومن بين لوحاته الوطنية " حماة الحياة و"العبور".. قلنا له وماذا عن لوحتي "أمريكا - 1970 " و"فلسطين - 1975"؟ رد في بساطة: لاشك ان الفن له قدرة كبيرة علي التنبؤ ..وتمثل لوحة أمريكا تأكيدا علي هذا ..لوتاملتها تجد وردة حمراء وتجد الحصان الاسطوري الميكانيكي الطابع .. المسلح والمدرع فاردا ساقه يهم بتحطيم تمثال الحرية.. حاليا أمريكا تدمر نفسها بنفسها كما نري في العراق وأفغانستان وتصادر حرية الشعوب.. وهذا حدس من الفنان . أما لوحة فلسطين.. ففي البداية نجد الشعب ضعيف بفعل القوي الغاشمة لكن لايستسلم ومن هنا جسدته في صورة شخص فولاذي.. بجسد من المعدن الصلب والعضلات ذات طابع اليكتروني مسكونة بالتروس.. والبطن عبارة عن تجويف جعلت بداخله طفلا صغيرا .. بعد هذا بعشرين عاما ظهر هذا الطفل والذي كان في اللوحة بمثابة الشحنة.. ظهر متمثلا في أطفال الحجارة.. وهكذا يتنبا الفن أيضا! سألناه عن تلاميذه وأقربهم إلي قلبه؟ كلهم أبنائي واعتز بهم جميعا ..اما مصطفي عبد المعطي فقد حدث شيء تربوي بيني وبينه من البداية ..يشبه بداياتي ..مصطفي كان يميل الي القتامة في الوانه في معظم شغله .. وفي يوم قلت له: أنت "مابتعرفشي تلون !" ..وفي صمت التقط الكلمة وغاب عني مدة وأخيرا جاء الي بلوحة غاية في الابداع.. اللون فيها يفكرك بماتيس ولكن في لغة لونية خاصة .. اللون بيتكلم .. حاليا مصطفي عبد المعطي الوحيد في مصر الذي يبدع الابستراكت " التجريد " باللون عن فهم ووعي يدخل في فقه التصوير .. مصطفي" تشيله من هنا من مصر وتحطه مع الجماعة بتوع أوروبا". والفنان الكبير حامد عويس .. صور بنت البلد في رداء عصري تحمل كتابا وحقيبة .. محفوفة بزوج من الحمام وأصص من النباتات وخلفها امراتين بالملاية اللف في حوار حول تك الفتاة التي خرجت من بينهما تتطلع الي المستقبل في تفاؤل. وقد جاءت لوحة " البطالة -1989 "صورة شديدة البلاغة تصور هذا الرجل المقعد الذي تتجسد فيه ملامح العجز .. في كتلة تتشابك فيها اليدان دلالة علي اليأس وفقدان الأمل. ببيته ومن داخل مرسمه كانت تطل "عروسة المولد" والتي تمثل أحدث أعماله وهي لوحة لم تكتمل لمساتها يوم كنا هناك .. تمثل امتدادا وإيقاعا آخر للوحته التي رسمها من قبل عام 1958 لعروسة المولد ولكن في دنيا أخري جديدة فيها سحر اللحظة. تحية الي روح محمد حامد عويس بعمق لمسة تألقت بالسحر ومازالت تعكس لمعني الفن .