لا أظن أن فيلم "بأسنا الكبير" يمكن أن ينتمي صراحة إلي مايسمي بالموجة الثالثة للسينما التركية الجديدة التي بدأت منتصف تسعينات القرن الماضي بعد فترة ركود استمرت عقدين من الزمان تلك الموجة التي تميزت أفلامها علي المستوي الفني المهموم بجماليات الصورة وطريقة السرد، والمستوي الفكري الذي يشكل في تصورنا العمود الفقري لأي بناء سينمائي علي خامة السيلويد.. وعلي الرغم من أن أفلام هذه الموجة يمكن تقسيمها الي ما يسمي بالسينما الشعبية الجديدة التي يغلب عليها الطابع الكوميدي وإلي مايسمي بسينما الفن التي تلقي تقدير النقاد وتحصل علي الجوائز في المهرجانات الدولية والمحلية، إلا أننا نجزم بأن مخرجي هذه الموجة تغلبوا بفطنتهم وثقافتهم وفكرهم المتميز علي تابوهات أنظمة الحكم البائد وعصور الظلام الفكري وسيطرة السلطة الجاهلة والدولة البوليسية التي تتذرع بمقولة الحفاظ علي أمن الوطن ومعتقداته وحرماته، لتتحول السينما فيها لمجرد بوق حامض يبث دعاية كاذبة لأنظمة فاسدة تمارس كل ألوان الانحطاط الأخلاقي والتلاعب بمقدرات الشعب لتبقي قدر المستطاع تتمتع بالسلطة والجاه والسلطان وتنعم بالعيش في أعلي درجات البزح والأبهة والعظمة الفارغة. هموم سياسية جاءت الموجة الجديدة للسينما التركية للتعبير عن هموم وقضايا المجتمع السياسية منها والاجتماعية، تلك القضايا التي كان مجرد الاقتراب منها أو الاسقاط عليها أو التلميح لكشف مفاسدها من الموانع والمحرمات ... تصدت هذه السينما لقضايا التعذيب واعتقال أصحاب الرأي والمعارضين للنظام الحاكم والمدافعين عن قضايا العمال وكياناتهم النقابية، وقضايا حرية الفكر وتنوع روافد الثقافة واعتناق المذاهب الأيديولوجية واليسارية منها بشكل خاص ... وعلي الجانب الاجتماعي عبرت أفلام هذه الموجة عن القضايا الاجتماعية الشائكة كمشكلة الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي وحرية المرأة والانغلاق والتزمت الديني والفكر الرجعي المتحجر والعلاقات الأسرية، تناولت الأفلام كل ماكان تابوها محرما في السينما التركية التقليدية أو السينما المحافظة، وقد برز في طليعة أفلام هذه الموجة: فيلم "الخريف" اخراج أوجكان ألبر وهو أحد أشهر الأفلام السياسية في السنوات الأخيرة، فيلم "الغول" إخراج أتالاي اتاسدكين، فيلم "القرود الثلاثة" للمخرج نوري بيلج سيلان، فيلم "عسل" الحائز علي الدب الذهبي من برلين لمخرج "ثلاثية يوسف" سميح قبلان أوغلو، فيلم "حدف بحر" اخراج نسلي كولجسين، فيلم "العشق المر" اخراج تانر الهان، فيلم "فخ التنين" اخراج أوجور يوسيل، فيلم "الحب بلغة أخري" اخراج الكسن بساريس، وفيلم "العبور" اخراج سليم دميردلين ... وغيرها من الأفلام. إنتاج مشترك والأمر اللافت للنظر هو أن أفلام هذه الموجة تم انتاجها تحت عباءة مايسمي بالانتاج المشترك بين السينمائيين الأتراك وجهات انتاج أخري منها الألمانية والهولندية وغيرها التي تدعم وتشجع السينمائيين المستقلين في أي مكان من العالم، وعلي الرغم من تحفظنا تجاه نوايا هذه الجهات أو انتماءاتها، إلا أنها تثاب علي تشجيعها لإنتاج سينما جديدة متحررة من قيود الانتاج الرسمي أو المدعم أو التجاري الرخيص في بلادها. ولعل أبسط مقياس لمدي نجاح تجربة الانتاج السينمائي المشترك التي مارسها مخرجو السينما الجديدة في تركيا هو مدي قبول العالم متمثلا في مهرجاناته السينمائية الدولية لهذه النوعية من الأفلام مثل: "كان" الفرنسي، "برلين" الألماني، و"فينيسيا" الأيطالي، و"تورنتو" الكندي وغيرها من مهرجانات العالم التي كان للفيلم التركي في صورته الراهنة حضورا متميزا وأثرا بليغا في نفوس السينمائيين من كل بقاع المعمورة، ويؤكد ذلك حصول تلك الأفلام علي أرفع جوائز السينما ولعل أبرزها جائزة الدب الذهبي لفيلم "عسل" للمخرج سميح قبلان أوغلو العام الفائت والذي علق عنداستلامه هذه الجائزة بقوله: "الدب بيحب العسل"، وغيره من الأفلام. حالة خاصة نعود إلي فيلم "بأسنا الكبير"Our Grand Despair إنتاج مشترك هذا العام 2011، الذي عرض داخل المسابقة الرسمية لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض المتوسط وفاز بجائزتي افضل مخرج وأفضل ممثل... نجد أنه لاينتمي صراحة إلي أفلام الموجة الجديدة في السينما التركية، ألا أننا بالقطع أمام حالة سينمائية تفيض علينا متعة بصرية جمالية وسكينة نفسية، لجمال الصورة ورومانسية الحوار ورقة المشاعر وبساطة الآداء.. الفيلم بعيد عن الصخب والضوضاء والابهار المصطنع أو اللقطات الرخيصة، انه نموذج للفيلم "التراجيكوميدي" أو مايطلق عليه حديثا "الدراما الكوميدية"Dramedy أو الكوميديا الدرامية الاجتماعية، بكل ماتحمل هذه العبارة من معني ... الفيلم أُخذ عن رواية كتبها "باريس بيكاكسي"Baris Bicakci الذي اشترك مع مخرجه "سيفي تيومان"Seyfi Teoman في كتابة السيناريو والحوار، حيث تدور أحداثه بالكامل في تركيا وأنقره بشكل أساسي ليروي لنا قصة "نهال" بطلة الفيلم (تمثيل غونيس ساينGunes Sayin هذه الفتاة الصغيرة طالبة الجامعة التي فقدت أبويها لتوها في حادث سيارة ولم تجد لها مأوي سوي المعيشة مع صديقي شقيقها "فكرت" (تمثيل باكي دافراكBaki Davrak بناء علي وصيته لهما وهما: "اندر" (تمثيل اليكر أكسيومIlker Aksum و"سيتين" تمثيل ال فاتح Al Fatih الصديقين منذ الطفولة إلي أن بلغا مشارف الاربعينات من عمرهما، مما يعني أنهما بمثابة الأب أو الأخ الكبير لهذه الفتاة المسكينة المكلومة في والديها والقلقة علي مصير شقيقها والباحثة عن الحماية والأمان بعد أن فقدت الدفء العائلي. عالم رومانسي تعيش "نهال" حالة من الحزن غير المحتمل والاكتئاب المقلق والمصير المجهول مع "اندر" و"سيتين" وهي الفتاة الصغيرة الفاتنة الجمال والهادئة المعشر والرقيقة المشاعر، مما لفت انتباه الصديقين اليها والوقوع في فخ حبها مع مرور الأيام، ليجد الصراع الداخلي طريقه عند كل منهما، بين كونهما صديقين حميمين منذ الطفولة وبين رغبة كل منهما في تحقيق ذاته العاطفية وعالمه الرومانسي والفوز بقلب "نهال"... صراع بين الصداقة والحب فأيهما ينتصر علي الآخر، هذا هو المحور الفكري الذي يدور في فلكه "بأسنا الكبير" أو الهم النفسي والعبء الثقيل الذي يعيشه الصديقين" "اندر" و"سيتين" وصراع كل منهما بين الابقاء علي هذه الصداقة الأزلية وبين الفوز بحب "نهال" والاستحواذ علي قلبها... ثالوث مكتمل الأطراف يعيشون تحت سقف واحد، الغلبة لمن ياتري؟، لكن "نهال" لم يكن في أي منهاما فتي أحلامهما، علي الرغم من معاملتها الرقيقة التي توهم معها الصديقين أنها تحب أي منهما وترتبط به عاطفيا لدرجة الحمل منه .. وتبقي قضية الاجهاض والتخلص من الجنين، الذي لاينتمي إلي أي منههما، وسرعان ماتبيح "نهال" بسرها ل "ستين" وبدوره يقص ماسمع منها علي صديقه "اندر" ليكتشف كل منهما أنه بعيد عن ارتكاب تلك الفعلة. تتخرج "نهال" من الجامعة ويأتي شقيقها "فكرت" لترحل معه حيث يعيش، وتترك ذكريات جميلة مع من احتضنوها وعاشت معهما في ظروف غاية في التعقيد النفسي والحزن الدفين داخلها، ألا أنهما استطاعا رغم معاناتهما النفسية والمادية أن يصلوا بها إلي بر الأمان وتتخرج في الجامعة، رغم الألم النفسي الذي خلفته لكل منهما، بعد أن اعتقد كل منهما أنها وقعت في غرام أحدهما. تصوير متميز علي المستوي الفني جاء الفيلم متميزا في عنصر التصوير مدير التصوير Brigit Gudjansdattir من حيث جماليات تكوين الصورة وتصميم الاضاءة، سواء فيما يتعلق بالتصوير الداخلي علي الرغم من ضيق المكان وصعوبة حركة الكاميرا أو تحرك الأشخاص أمامها في الغرف والدهاليز الضيقة أو المطبخ، أو التصوير الخارجي الذي يتطلب حرفية عالية في اختيار زوايا التصوير أو حركة الكاميرا لتصوير مدينة "أنقرة" أو الحدائق العامة أو الملاهي أو ملاعب كرة القدمز. مونتاج القيلم ل Cick Kahramn وايقاعه الذي تميز بالهدوء الشديد لعله من الايقاعات البطيئة التي قد تبعث علي الملل لدي بعض المشاهدين، إلا أنه جاء مناسبا ومتفقا مع طبيعة الموضوع وطريقة السرد، إذ إننا أمام فيلم من الدراما الرومانسية التي تحتاج لرؤيتها الكثير من التأمل وفهم الصورة، وأدراك مكوناتها. عنصر التميل والأداء في الفيلم كان من عناصر تميزه بلا شك، فقد تابعنا مباراة في الأداء من العيار الثقيل للنجوم الثلاثة :"Gunes Sayin" نهال، "Ilker Aksum" اندر، "Ilker Aksum " سيتين، وبشكل خاص أداء بطلة الفيلم (مواليد عام 1987) التي تقف أمام كاميرا السينما لأول مرة وهي التي انتهت لتوها من دراسة فن التمثيل في جامعة اسطنبول، فقط ظهرت عام 2008 في مسلسل تليفزيوني باسم .A Man Without a Hearth . بقي أن نشير إلي أن مخرج الفيلم Seyfi Teoman سبق له أن قدم فيلما بعنوان Summar Book عام 2008 وهذا هو فيلمه الروائي الثاني والذي رشح لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الفائت. وفي هذا الفيلم استطاع تيومان أن يحقق للمشادين متعة الرؤية البصرية وقيمة الموضوع بأسلوب رومانسي أخاذ قلما نجده في أفلام هذا الزمان.