فور إعلان فوز الشاعر السويدي "توماس ترانسترومر" بجائزة "نوبل" للآداب، انتشر علي موقع التواصل الاجتماعي الشهير والمثير للجدل "فيس بوك" صورة غلاف لترجمة الأعمال الشعرية الكاملة له وأسفل الصورة رابط لتحميل العمل، ومن المؤكد أن مثل هذه الصورة وغيرها لم تنتشر علي الفيس بوك فحسب، أغلب الظن انها انتشرت في المواقع الأدبية والمدونات المتخصصة والمدونات الخاصة. وبالنظر لدلالات هذا الحدث وغيره من الأحداث المشابهة علي المستوي الثقافي يتراءي لنا أهمية الإنترنت ودوره في نشر الثقافة التي باتت تعتمد في الكثير من الأحوال علي الشاشات، وذلك بعد أن فاق في بعض الأحيان وكالات الأنباء والفضائيات في سرعة نقل الخبر بل وفي دقته ومصداقيته في أحوال أخري. واللافت في الأمر أن مستخدمي الإنترنت أصبح لديهم ما يماثل قرون الاستشعار التي تعينهم علي سرعة الفرز والتمحيص فيما يعرض لهم من أخبار ومن صور قد تكون مدسوسة أو مفبركة، كما اكتسب الكثير منهم ملكة التثبت والتدقيق والمقارنة للخلوص بأقرب وجه للحقيقة التي يبحثون عنها. وقد أصبح الانترنت وسيلة مقاومة فضلا عن كونه أداة معرفة أو تسلية أو تواصل، ولا أعني بهذا الدور المشهود الذي لعبته المدونات مثل مدونة "نوارة نجم" وكذلك موقعي الفيس بوك واليوتيوب في مجريات الثورة وتوابعها؛ بل أعني مقاومة أعتي وأشد ضراوة يقوم بها أفراد وجماعات عبر المواقع المختلفة، تلك المقاومة تتمثل في مقاومة كل من الغزو الثقافي والسطو الثقافي علي حد سواء. مقاومة الغزو الثقافي ولا أعني بذلك الصراع التقليدي بين الشرق والغرب وتراثنا العربي الإسلامي والصراع مع المستشرقين وما يرد عنهم، فتلك قضية انبري لها الأقدمون وأصبحت "تحصيل حاصل"، الغزو الثقافي القائم تهب رياحه من أكثر من جهة، ولنبدأ بأهونها أو ما يبدو الأهون، وهو ظاهرة كتابة العربية بحروف لاتينية، والتي ساهم في انتشارها الإصدارات الأولي من الهواتف المحمولة التي لم تكن معربة آنذاك، ثم تلتها مواقع الألعاب التي يرتادها الشباب والمراهقون ولا تحوي نسخا معربة فكانت لهم لغتهم الخاصة التي تجمع بين الانجليزية والعربية بحروف لاتينية، ولأن لكل فعل رد فعل... فمن البديهي أن تنتشر علي الفيس بوك صفحات رافضة لهذا اللون من الكتابة والتي تدعو للكتابة بالحروف العربية، هذا عن جهد الجماعات، أما الأفراد فنري منهم من يرفض التعامل مع من يكاتبه بحروف أو بلغة غير العربية، ولرفع آثار هذا العدوان علي اللغة التي أصابتها الركاكة من فرط هجرانها، انتشرت بالمثل صفحات ومجموعات لدعم اللغة العربية وإنقاذها مثل مجموعة "أبجد" التي تعتبر نفسها نموذجا مصغرا من المجمع اللغوي علي الانترنت، ومجموعة محبي اللغة العربية ومجموعة اللسان العربي وغيرها الكثير.. وهذا علي الفيس بوك وحده، فما بالك بذلك الفضاء الشاسع! كما نجد في الكثير من المنتديات الأدبية الرصينة والتي تحرص علي هويتها العربية تمسكا ملحوظا بها يبدأ من اختيار اسم المستخدم، فتضع شرطا أن يكون اسم المستخدم بالعربية وترفض تفعيل حساب من يكتب اسمه باللغة الانجليزية، وبعضها يرفض الأسماء المستعارة للمزيد من المصداقية والجدية في التعامل، هذا ولم تعد المساهمة في المنتديات الأدبية عيبا يمس الأديب أو دليلا علي هوان قدره أو الإحباط الذي يدفعه للكتابة علي الانترنت من باب البحث عن منفذ للكتابة، فهناك من الأسماء اللامعة والمتميزة التي يمكنك الوصول إليها عبر تلك المواقع، مثل "منتدي القصة العربية" الذي يضم أسماء لها وزنها مثل سيد الوكيل وشريف صالح وهويدا صالح، أو مثل موقع "الحوار المتمدن" الذي تجد فيه مقالات لأحمد بهاء الدين شعبان ومحمد حسن عبد الحافظ ومدحت صفوت وغيرهم من الكتاب. هذا عن أمر اللغة، فماذا عن محتوي اللغة وما يهب علينا وبخاصة علي مصر؟ لا يخفي علي أحد الغزو الوهابي الذي تتعرض له مصر وبالتالي لم يعد خطر الغزو الثقافي قاصرا علي الأعاجم" كمصدر للخطر، بل أصبحت رياح الخطر تهب كذلك من الشرق متمثلة في ثقافة البداوة التي تزحف علي الثقافة المصرية من الجزيرة العربية بل وتأتي من مشرق أبعد غورا محملة بالنموذج الطالباني العاصف، وفي المقابل يقف لهم المثقفون المصريون بالمرصاد ويتصدون لهذه الغزوات المتلاحقة، فتنتشر صفحات الرفض للفكر الوهابي المتشدد علي الفيس بوك محملة بمقالات تنويرية ومقاطع الفيديو التي تفضح فكرهم، وفي أحوال أخري تنصف ضحاياهم من المثقفين ممن طالتهم يد الغدر والتشويه في ظل ثقافة الاجتزاء من السياق والاستسهال، وكثيرا ما نري حروب الفيديو كليب علي اليوتيوب والفيس بوك. وهكذا نري أن الكثير من المثقفين المصريين غير منبتي الصلة بالثقافة العربية ولكن دون افتئات علي هويتهم المصرية السمحة ودون السماح لثقافة دخيلة بطمسها. السطو الثقافي في ظاهرة تكاد تنفرد بها مصر تجد المتربصين بأدبائها ومفكريها، فما إن يموت واحد منهم حتي تجد صيادي المكتبات يتحلقون حول أسرته لشراء مكتبته، وهي جريمة ثقافية تتم تحت سطوة الإغراءات المادية في بعض الأحيان وفي أحوال أخري تتم عن جهل من ورثة الأديب الراحل، ومع الأسف الشديد ليست لدينا ثقافة متاحف العظماء، ومازال القلب يدمي لهدم فيلا أم كلثوم التي لا تقل في أهميتها التاريخية عن بيتي بيتهوفن أو شكسبير في ألمانيا وبريطانيا، فغياب الوعي وضعف دور المثقفين آنذاك وضعف اتصالهم بالجماهير حيث لم يكن الانترنت موجودا آنذاك سمح لهذه الجريمة بالوقوع بدلا من تحويلها إلي متحف كما كان ينبغي لفنانة في قامة أم كلثوم. وكثير من مكتبات مفكرينا تم شحنها لبلاد النفط بدلا من تحويلها لمكتبات عامة ومتاحف تخلد ذكري أصحابها وتعرف الأجيال الجديدة بقيمة صاحبها وتراثه. ومؤخرا يعاني بيت سيد درويش الرطوبة والتآكل حسب الصور التي التقطها المخرج والكاتب المثقف محمد حسان صاحب موقع ومنتدي "أنا المصري" للتراث، وهذا ينقلنا إلي قضية أخري تمس الثقافة... هل الثقافة محض كتب وأوراق فحسب؟ ماذا إذن عن تراثنا السينمائي الذي تم اختطافه ببضعة دولارات لصالح الوليد بن طلال؟ أو لايعد هذا سطوا علي تراثنا السينمائي والفني؟ وماذا عن الإهمال في التسجيلات النادرة لكبار مطربينا ومنشدينا؟ هاهنا يبرز دور الانترنت في الحفاظ علي هذا التراث واسترداده قدر الإمكان، فنري الروابط تنتشر عبر المواقع لتحميل كنوزنا المصرية من أعمال الرواد وكلها جهود شخصية لمثقفين آمنوا بدور الفن، مثل منتدي "زرياب" ومنتدي "أنا المصري" وكذلك منتدي "سماعي" و"سواري" وغيرها من المنتديات التي عنيت بحفظ تراث مصر الفني فتجد فيها أعمال مطربينا وملحنينا العظماء بل والعوالم في بعض الأحيان، كما تحفل بصفحات الترانيم القبطية النادرة بل واليهودية، وتجدها تتصدي بصفحات منشدينا ومقرئينا ضد هجمة المقرئين الخليجيين رتيبي الصوت والأداء، ومن أشهر وأهم الصفحات المعنية بحفظ هذا التراث وإنقاذه صفحة الدكتور راضي حامد علي موقع سواري والفيسبوك وغيرهما من المواقع، وكذلك أحمد الديب وعصمت النمر. ولم يقتصر دور الانترنت علي حفظ ونشر الأغاني والأفلام المغتالة، بل امتد لترميم الكثير من الأفلام التي تم العبث بها وفقا لأهواء الرقيب، فتري علي اليوتيوب علي سبيل المثال المشهد المحذوف من فيلم البريء وأغنية النهاية للأبنودي. وإذاً لم يصبح الانترنت كما حاول البعض تصويره مجرد ملهاة وقنوات جنسية، بل أصبح وسيلة حياة وثقافة ومقاومة لمن يعي.