خطر ببالي أن أمضي بضع ساعات بحدائق قصر المنتزه حتي أنعم بمشاهدة البحر والخضرة معا، كي تنتعش روحي بعد فترة طويلة من المرض والرقاد. اصطحبني أحد أقاربي بعربته الي هناك. في الطريق بمحاذاة الكورنيش كنت منتشيا برؤية البحر واستنشاق الهواء المنعش بعد طول غيبة. كان خيالي يعمل بنشاط شديد بينما تستدعي ذاكرتي الأماكن والكازينوهات والشواطئ الخاصة والعامة والكوبري والفنار والبرجولات المقامة علي أطراف الشاطئ والمرتفعات الخضراء المهذبة الخضرة التي طالما جرينا عليها في طفولتنا وصبانا وشبابنا.. والتي لم أقترب منها منذ أكثر من عشر سنوات. عند باب الدخول تمنيت من قلبي أن يكون السور القبيح الذي أقامته أسرة السادات حول القصر الذي شغلوه بالداخل قد أزيل بعد أن شوه جمال مساحة كبيرة بأكملها منذ أن أقاموه في السبعينات، وكأنهم يخشون أن يختطفه منهم أحد، مع أنهم لم يكونوا يشغلونه لأكثر من عدة أيام كل عدة أعوام ويشهد علي ذلك طاقم الحراسة الذي ظل يتقاضي أجره من أموال الشعب لعدة أعوام دون عمل سوي الجلوس علي مقاعد الحراسة . وكان أول ما طلبته من قريبي أن يتجه الي هذا المكان وكلي ترقب وتحفز وأمل، وللأسف وجدت السور القبيح مازال قائما يتحدي في غباء وبلادة كل عشاق الجمال. ضباط الثورة كان ضباط ثورة52 قد احتلوا مواقع خرافية الجمال علي الشاطئ محاطة بالصخور والشجيرات وروعة أشكال الطبيعة البحرية النادرة، أقاموا بها شاليهات خاصة بهم، محاطة بأسوار رمزية محدودة حولهم، والحق أنها كانت تخلو من القبح وتترك للمارين بعرباتهم وأقدامهم حرية التجول حول المكان، وكان الدكتور حسين مؤنس قد تعرض لهذا النوع من الاستيلاء غير المشروع علي ممتلكات الشعب الذي حق له أن يرث ممتلكات الأسرة الملكية في كتابه الشهير"باشوات وسوبر باشوات". كان عددهم قليلا أخذ يتزايد تدريجيا في عصر السادات، وأخيرا تحول المنتزه في عصر مبارك الي مستعمرة للوزراء ورجال الأعمال اياهم وشلل وعصابات المنتفعين من الرئيس وأسرته، لدرجة أن معظم الطرق في مختلف الاتجاهات قد أغلقت بقواطع حديدية بعرض الشوارع وفي منتصفها، بحيث يحجز كل صاحب شاليه لنفسه أمام كابينته وخلفها منطقة شاسعة يمنع فيها المرور عنوة واقتدارا عن الراكب والمترجل من أمة خلقه، دونما أدني أحقية أو منطق في ذلك. انه احتلال استيطاني استعماري بغيض، ينم سلوك أصحابه عن طبيعة دونية تتسم بالأنانية المفرطة وعشق الذات المريضة والغطرسة والاستعلاء وتجاهل الآخر، وهي نفس تركيبة المشاعر التي كانت سائدة لدي السلطة تجاه المواطنين في عصر مبارك بصفة خاصة وقبل قيام ثورة يناير الرائعة. أستطيع القول الآن وبلا أدني مبالغة أن حدائق المنتزه لم تعد ملكا للشعب علي الاطلاق، وإنما أصبحت مجموعة متناثرة غير متناسقة من المستعمرات تخلو من أبسط مبادئ الذوق والتجانس، وتتسم بالقبح والغباء، نهبها المفسدون باستخفاف شديد بحق الشعب في التمتع بملكيته. ومن الغريب أن الملك فاروق نفسه لم يضع حواجز أمام قصريه الشهيرين السلاملك والحرملك، وانما ترك للشعب حرية التمتع بجمال الحديقة، فضلا عن أنه كان في بعض الليالي يطلب السهر في الحديقة مع عامة الشعب ليشاهد معهم أفلام المغامرات القديمة ذات الشرائط المهترئة مثل "فومانشو الجبار" وغيرها، وعندما يقطع الشريط بسبب قدمه يصفر بإصبعيه بين فمه مطالبا الجميع بالصفير معه.. أما هؤلاء اللصوص فلا أحد يراهم علي الاطلاق، والحمد لله علي ذلك فرؤيتهم لاتسر النظرين بأي حال. أستطيع القول أيضا بأن هذه الأماكن الجميلة قد سرقت من الشعب بأن أعطي من لايملك من لايستحق، فقد كان بعض وزراء الاسكان- وأستثني منهم المهندس حسب الله الكفراوي - يمنحون لكل واحد من " أصحاب البلد" قطعتين من الأرض، واحدة يبني عليها الشاليه في أجمل المواقع علي البحر مباشرة، والأخري ليبيعها بأسعار خرافية ليصرف منها علي بناء الشاليه، وبالطبع فقد بيعت لهم الأرض بتراب الفلوس كما لهفوا مواد البناء بكاملها من مؤسسات الدولة. وهذا لايمنع من أن بعض كبار المسئولين - الذين حصلوا من الرئيس المخلوع علي النياشين والأنواط - كانوا قد استولوا عنوة علي بعض الشاليهات المقامة من قبل دون أن يدفعوا" أبيض ولا اسود"..وأخيرا قرأنا بإحدي الجرائد أن ابنة أحد الرؤساء السابقين تعرض الشاليه الخاص بأسرتها للبيع بستة ملايين جنيه!!..ومن الغريب أن والدها مات مديونا للدولة إذ كان مثالا يحتذي في النزاهة وطهارة اليد. استعادة الهيبة لقد سعد شعب الاسكندرية سعادة بالغة عندما بدأت الدولة تستعيد هيبتها، حيث قامت قوة عسكرية ضخمة مشكلة من البوليس والجيش والأمن المركزي بإزالة عشرات المباني والفرش العشوائية التي أقامها الفوضويون بمحاذاة شريط قطار سيدي بشر في غفلة من الزمن، خلال فترة عدم الاستقرار التي أعقبت ثورة يناير. وقد استخدمت البلدوزرات في ازالة هذه التعديات الخطيرة علي حرم السكة الحديد ازالة تامة، ولم يستطع أحد أن يفتح فمه في مواجهة ذلك الفعل الشرعي بأي شكل من أشكال الاعتراض المقبول أو غير المقبول، فلا يصح الا الصحيح في النهاية.. ومازال شعب الاسكندرية ينتظر من السيد المحافظ الدكتور أسامة الفولي وأجهزته المدنية والأمنية، المزيد من ازالة التعديات البشعة علي حرم الطريق بالمنشية ومحطة مصر وغيرهما من الساحات الأخري بنفس القوة والحسم، حتي يدرك الجميع أن القانون قد عاد وأن الأمن قد عاد وأن قرارات الدولة يجب أن تحترم، وأن النظام والنظافة والمظهر الحضاري الذي يليق بنا يجب أن يعودوا الي المدينة كما كان الحال في الخمسينات، حين كانت الاسكندرية قطعة من اوروبا. إنني أتوجه برجاء آخر الي السيد وزير السياحة أن يلقي بنظرة علي هذه الحديقة التي مال حالها وضاع جمالها بعد أن كانت تكتظ بالسياح في الخمسينات والستينات، ومن المؤكد أنه مثلما أزيلت تعديات سيدي بشر بقوة ضخمة في ساعات محدودة، فإن تلك الأسوار الحديدية القبيحة وغير المشروعة يمكن ازالتها في عدة دقائق لا أكثر، فثورة 25 يناير تعني أول ما تعني المساواة بين أفراد الشعب دون تمييز في حدود القانون.